كان قول الله عز وجل في محكم آياته "إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأنَا رَبُكُمْ فَأْعْبُدوُنِ " حكماً وأمراً وتوجيهاً ،صاغ وحدة أُمة التوحيد،التى كان العرب نواتها، والقرآن دستورها ، والإسلام إطارها الذى جمع ووحد وآلَّفَ بين الأمم والشعوب والقبائل والأعراق والأجناس والألوان حول (شهادة لاإله إلا الله محمد رسول الله ) حيث"لا فضل لعربى على عجمى ولا لإبيض على أسود إلا بالتقوى "،مما رسخ وعزز كيان هذه ألأمة وجعلها كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، وكالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، فبنت الأُمةُ قوتها ،وصنعت أمجادها ،وأقامت حضارتها على إمتداد ثلاثة عشر قرناً متواصلة بلا إنقطاع ،بدءاً من الخلافة الراشدة سنة 631م مروراً بالدولة الأموية ،ثم الدولة العباسية ،والدولة الأندلسية ،وإنتهاءً بالدولة العثمانية سنة 1923 م،وهو تاريخ إنهيارها بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى ،وتوزيع ممتلكاتها بين المنتصرين ،وخاصة بريطانيا وفرنسا ،اللتان وضعتا مخططات سايكس بيكو لتجزئة الوطن العربي وتقاسم أقطاره فيما بينهما ،وغرس الكيان الصهيوني في قلبه ،ليكون عازلاً وفاصلاً بين مشرقه ومغربه. إن القضاء على الخلافة الإسلامية كان غاية الغايات للغرب في حروبه الصليبية والإستعمارية ،على إمتداد أكثر من ألف عام ،سعياً لإستباحة المنطقة العربية ونهب خيراتها،وإزالة منافس وند قوي يشكل حاجزاً وعائقاً يحول دون تحقيق أطماع الغرب وهيمنته ،ليس فقط على الأقطار الإسلامية بل وعلى غيرها من أقطار العالم ،وقد تجلت هذه الأطماع والأحقاد عندما دخل القائد البريطاني "اللينبي" القدس منتصراً في نهاية الحرب العالمية الأولى وقال "الأن إنتهت الحروب الصليبية "،وعندما وقف زميله القائد الفرنسي "غورو" أمام ضريح صلاح الدين في دمشق وقال منتشياً " ها قد عدنا يا صلاح الدين " وكانت بريطانيا قبل ذلك قد إستغلت رغبة العرب ومسعاهم في الإستقلال عن الدولة العثمانية نتيجة شعورهم بالتبعية والتهميش والإهمال ،فأجرت إتصالات ومحادثات عُرفت ب"مراسلات الحسين –مكماهون" مع شريف مكة الهاشمي ،الحسين بن على ،والي الحجاز ،وقدمت له الوعود والعهود لدعم وإعتراف بريطانيا بأسيا العربية كاملة دولة عربية موحدة ومستقلة،مقابل دعم العرب للحلفاء في الحرب العالمية الأولى ،لقد وثق الشريف حسين بوعود بريطانيا ،ولكنها خدعته ونكثت بوعودها ،وطعنت العرب بإتفاقية سايكس بيكو،ووعد بلفور ،وما أعقبها من مؤامرات أضاعت الحلم العربي في إستعادة وحدة الأمة بعد إنهيار الدولة العثمانية. لو لم تغدر بريطانيا ،لتحقق ذلك الحلم بإستعادة الخلافة لثوبها العربي بزعامة شريف مكة القرشى الهاشمي الذي كانت تلتقي فيه جميع شروط ومواصفات الرئاسة العامة وقبول الأمة ،أو على الأقل لتحققت تحت رئاسته وحدة المشرق العربي بجميع أقطاره ،بدلاً من ان يصبح كما هو الأن إثنا عشر دولة ودويلة مرشحة للإنشطار ،ولما ضاعت فلسطين ،وتمزق العراق وذُبحت سوريا،ونهبت خيرات الأوطان ،وأصبحت مرتعاً لكل سارق وآفَّاق ،ولِمَا ثارت النعرات العرقية والطائفية ،بين كرد وعرب ،و شيعة وسنة،لأن تبجيل آل البيت الذين نُصلي عليهم في كل وقت وفي كل صلاة ،يجعلهم أكثر قبولاً في الحكم ،حيث لا يختلف عليهم من المسلمين إثنان، ولِمَا كان هناك مجالاً للنزاعات والحروب الأهلية ،لأن الإسلام الوسطي يجمع ولا يفرق ،ولأن العدالة والمساواة وحقوق الإنسان في الإسلام تحفظ وتصون حقوق المسلم وغير المسلم على قدم المساواة . ولو تحقق ذلك وقامت دولة المشرق العربي الموحدة ،لإنتقل نموذجها إلى المغرب العربي ،وقامت دولة المغرب العربي الكبير ،في إطار الإسلام الوسطي ،حيث يتساوى العربي والأمازيغي والطوارقي والتبوي ،أخوة في الدين والعقيدة ،لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات ،يجمعهم الإسلام ولغة القرآن ،دون تمايز أو تمييز بينهم في أهلية الحكم أو المواطنة .وسيفخر أي عربي مسلم ،في المشرق العربي او المغرب ،بقيادة أمازيغية أو كردية ،تعيد الأمجاد تلك ،التى حققها طارق إبن زياد وصلاح الدين الأيوبي . إن الخلافة الإسلامية ،بمراحلها ودولها المتتالية ،وعلى إمتداد أكثر من 1300عامٍ،والتى مثلت فصلاً متميزاً ومرحلة فارقة في التاريخ الإنساني ،نظراً لإتساع فترتها الزمنية ،وإمتداد حدودها الجغرافية ،وتأثير نهضتها العلمية الفريدة على البشرية جمعاء ، ما زالت تعتبر من أهم القضايا الخلافية ،رغم مرور مائة عام على سقوطها،وما زال مجرد ذكرها يثير العديد من المشاعر والمواقف المتباينة ،منها الحنين والشوق ،ويقابلها العداء والحقد ،ومنها التأييد والترحيب ،ويقابلها الرفض والمعارضة . وتتفاوت هذه المشاعر حباً وكرهاً، تأييداً ورفضاً،بالنسبة للعرب والمسلمين ،بتفاوت قوة ومتانة وتأثير الروابط الدينية والقومية والوطنية ،والمستوى الثقافي الذى يساعد او لا يساعد على إستيعاب حقائق ووقائع وتداعيات الجغرافيا السياسية في عالم اليوم ،أما بالنسبة لغير العربي أو المسلم ،فإن موضوع الخلافة قد يثير حالة من الإستنفار والخوف والتوجس ،بسبب المغالطات التاريخية والتشوية الإعلامي المقصود ،الذى شيطن الإسلام والمسلمين ،بينما تؤكد تعاليم الإسلام وحقائق التاريخ ،أن الأقليات غير المسلمة كانت تحظى بأفضل معاملة ، وتتمتع بكامل الحقوق ،وتعيش في أمن وسلام ومساواة وإنسجام وسط المجتمعات المسلمة خلال عهود الخلافة المتتالية ،وان النعرات والصراعات الطائفية والعرقية لم تظهر إلا في حالات ضعف الخلافة أو زوالها ،بسبب تأثير عوامل خارجية عدة منها الإستعمار القديم والإستعمار الجديد المتمثل بالهيمنة السياسية والإقتصادية والثقافية،والسعي الدؤوب لتوظيف هذه العوامل وغيرها من أجل مواصلة إضعاف الأمة ومنع وحدتها، والشاهد على ذلك هو ما يجري في العالم العربي اليوم من فتن ونزاعات طائفية وعرقية ودينية وحروب اهلية ،بينما تميزت عصور الخلافة وخاصة العباسي والأندلسي منها،بالسلم الإجتماعي القائم على تعاليم الإسلام في التسامح والعدالة والمساواة بين جميع البشر بغض النظر عن اللون والعرق والدين . وها هي الأمة اليوم ،بعد مائة عام من زوال الخلافة ،مهانة ممزقة ذليلة ،غثاء كغثاء السيل ،وكالأيتام على مأدبة اللئام ،تزداد كل يوم إذلالاً وتمزقاً ومهانة ،كانت في خمسينات القرن الماضي أفضل بكثير مما وصلت إليه فيما تلاها من عقود،فقد تم إغتصاب كامل فلسطين بما في ذلك القدس والمسجد الأقصى،وتم تدمير الصومال ،وغزو العراق وتمزيقه ،وتقسيم السودان ،وإحراق سوريا ،وإشعال النزاعات والحروب الأهلية والفتن فى جميع أنحاء الوطن العربي ،وخاصة لبنان والجزائر واليمن ،وتم إذكاء مشاعر الكراهية والحقد من خلال إثارة العصبية والطائفية المقيتة،وأُبُتليت الأُمة بحكم العسكر الموتورين والفاشلين، والعقائد المستوردة في أغلب أقطارها ،كل ذلك من أجل تمزيق أواصر الأخوة وتفتيت ألأمة وإضعافها ،وما أن أطل الربيع العربي يحمل ألأمال في تحقيق أحلام الأمة وشعوبها في الحرية والديمقراطية والعزة والإستقلال ،حتى سارع أعداء الأمة في الداخل والخارج ،إلى قتل هذه الأحلام وتدمير هذه الأمال ،وما يجري في مصر هذه الأيام أوضح دليل على ذلك . هذه الأمة اليوم تعيش جاهلية جديدة ،فهي على شفا الهاوية في الدنيا وعلى شفا حفرة من النار في الأخرة ،كانت تجمعها الأخوة والأُلفة ،واليوم يفرقها العداء والحسد والبغضاء ،ولم يعد إعتصامها بحبل الله ،بل بحبل أمريكا وإسرائيل واموال النفط وعصبية الجاهلية الأولى من عشيرة وقبيلة وتفاخر بالأموال والأولاد .ومالم تستعيد أمة التوحيد وحدتها ،فإنها ستذوي وتتلاشى وتفقد تدريجياً كيانها ووعيها ،وتصبح مجرد جسم فاقد لوظائفه العضوية ،وفي حالة موت سريريّ . إن إستعادة وحدة الأمة ،هو فرض وواجب وعبادة من كل مسلم ،من أجل حراسة الدين وسياسة الدنيا ،وهو واجب بإجماع علماء الأمة شرعاً وعقلاً ،وليس من المهم شكل او إسم هذه الدولة الموحدة ،إنما المهم هو مضمونها ،فما دامت الخلافة او الإمامة تثير الخوف لدى بعض العلمانيين والليبراليين حول حرياتهم ومصالحهم وحتى رغباتهم ،فإننا نطمئنهم بإننا نريدها دولة مدنية عصرية تقوم على مباديء الحرية والديمقراطية وحقوق الأنسان ،ونريدها اشبه ما تكون بالولاياتالمتحدةالأمريكية ولكنها تختلف عنها بشيء واحد فقط ، وهو قيامها على القيم الإسلامية مقابل القيم المسيحية التي تفتخر الولاياتالمتحدةالأمريكية بحملها ، وإذا لم يكن ذلك ممكناً ومستطاعاً في هذه المرحلة ،فإن البديل الناجح والمتاح هو الإتحاد الأوربي ،الذي تجاوزنا وسبقنا بعقود في إقامة الوحدة الإقتصادية والسياسية وإزالة الحدود بين أعضاءه ،بعد ان كنا أمامه قبل ستين عاما،وتركنا ألان ورائه نتخبط في ظلمات الجهل والتخلف والتبعية والعصبية . أما إذا لم نستطيع الأخذ بأي من هذين البديلين ،فإن لعنة الله والتاريخ والأجيال القادمة سوف تلاحق كل من تآمر على أمته،أو تهاون أو قصّر في القيام بواجبه نحو وحدتها وعزتها وحمايتها ،وسيبقى الساكت عن الحق شيطان أخرس ،.....ألا هل بلغت ،اللهم فاشهد .