كلما دخلت محطة قطار في أي مدينة مغربية سمعت محمود درويش يهمس في أذني: أين مذكرتك لتدون ما يحكه طائر السحاب... قلت له لا يمكن أن يكون في المحطة ما يستحق التدوين أو الملاحظة، إنها محطة القطار ولا يمكن أن يثيرك شيء مهم، لا سيما في هذه المدينة بالضبط؛ الرباط عاصمة المغرب. أجواء رمضانية تغلب على ليل الرباط.. الكل يتجول ويتنسم سحر الليل المتأخر... إلى أن يقترب وقت السحور. قلت في نفسي... سأفعل ما يفعل الغرباء عندما يغرسون نظرهم في كل شارع وفي كل بناية، ليأخذوا معهم ذاكرة المكان إذا رحلوا... واستمر الحال حتى أذنت لي قدماي أن أستريح، فاتجهت إلى حاضنة المسافرين والمنتظرين لكل غرباء العالم؛ محطة القطار. دخلت متيقنا أنها ستحضنني كبقية الذين رحلوا من هنا... كانت الساعة متأخرة من الليل.. ولم يبق على أذان الفجر إلا اقل من ساعة، وقطاري ثلاث ساعات... وجدت المحطة شبه خاوية ! قلة الموظفين (وهذا عادي لطبيعة عمل الليل).. اتجهت إلى أسفل الدرج الآلي (كل الأدراج تعمل دون توقف رغم غياب المسافرين !) حيث يوجد 6 مقاعد للجلوس... وقبل أن... ناداني أحد المسئولين.. سيدي.. سيدي.. اصعد فوق لو سمحت.. هنا ممنوع. قلت لا بأس سأستريح فوق.. بحثت عن كراسي.. أين الكراسي..؟! قال لي مسؤول آخر.. لا يوجد، اجلس في المقهى، وكل شيئا عندهم فهذا وقت السحور... قلت لا مشكل سأجلس في هذا المقهى الوحيد والمفرط في جماليته... لم يخطر ببالي أني سأخرج مذكرتي طوعا ولا كرها.. جلست وأنا أنتشي بتبدد العياء... يا الله.. كانت ليلة رائعة في شوارع ساحرة.. وكان أولها جلسة مع من "يرسمون بالكلمات" أكثر من رائعة. ماذا تشرب يا سيدي..؟ وماذا غير رشفات من القهوة ستعينني على انتظار قطار الصباح... جاءني النادل بطلبي وقال لي لا تنس آذان الفجر إنه قريب. كنت قد نسيته لأن ساعة قدوم القطار طغت على موعد الآذان.. ففي المحطة لا سلطة إلا لشاشة المواعيد التي نخضع لأرقامها. ذبابة.. ذبابتين.. لا هي نفسها ! قلت لا مشكل، اعتدنا عليه وهو اعتاد علينا ولو في هذا المقهى! فربما قصور الحاكم لا تخلو منه.. ثم ظهر على الأريكة بجانبي نملة أو نملتين.. لا بأس فهو "علامة للبركة" كما يقول المغاربة... ثم باغتني بعد ذلك "مصاص الدماء الصغير" بعوضة.. بعوضتين. فقلت ربما الضوء المسلط على مقعدي جعله يتربص بي. وكنت آمل أن استمتع بسحر "الانتظار في المحطة". "ففي الانتظار يصيبني هوسٌ برصد الاحتمالات الكثيرة"*.. وبعد أن تجنبت كل الاحتمالات وجدتها كلها تؤدي إلى هذا الموقف الذي أنا عليه. ويمكن أن أصبر على ذبابيتين ونملتين وبعوضتين.. لكن الذي زارني في استراحتي وظهر قرب قدمي لا يمكن أن أصبر حتى على نصفه.. ربما في تلك اللحظة ذاتها !! لم تفاجئني هذه الأمور بقدر ما فاجئتني نادلة المقهى عندما قالت: "اسمح لنا سنغلق الآن"... أحسست بالتشرد لحظتها.. خرجت من المقهى بعد جلسة دامت دقائق تصارعت فيها بدل أن أستريح. لا بأس أن تحس بالتشرد فأنت غريب أو عابر سبيل.. لكن ما الذي يجعل محطة العاصمة لا توجد بها كراسي للانتظار والاستراحة، داخل المحطة أي المكان المغطى وليست التي بجانب سكة الحديد !! ربما لأن غالب الأوقات الغادي والرائح أكثر من الجالس !! كل هذا يمكن أن أصبر عليه... إلا أن يقتاد بي خارجا إذا اقتضت حاجتي ذلك.. لأن المراحيض (حشاكم) غير متاحة في هذا الوقت.. وهي الأخرى تخضع إلى التوقيت الإداري.. أي الإدارة العمومية !! رجعت إلى الشوارع مرة أخرى أقلبها، علني أجد مكانا يسترني... هنا وهناك.. إلى أن وصلت إلى البرلمان تلك البناية الضخمة، فتوالت في خاطري أحداث وجرائد ولقطات ويوتيوب ومضحكات ومبكيات.. فأنساني ما جال خواطري عنائي.. وأحسست، حينها، أن حاجتي انقضت وتحررت من همي وكربي.. وتعبي ! كأنها قدسية الوقوف أمامه.. أو ربما صبر الذين اعتصموا أمامه عبر التاريخ هو الذي صبّرني.. وربما بركات الذين وطأت قدمهم أبوابه... وربما ملك (بفتح اللام) يحرسه !! المهم أن تُقضى حاجتك.. لتعود سالما إلى البيت.