لو كان المؤرخ الكبير الراحل " إريك هوبزباوم " صاحب الموسوعة الرباعية الشهيرة - عصر الثورة وعصر رأس المال و عصر الإمبراطورية وعصر التطرفات – حيا يرزق لربما عنون مطلع هذا القرن بعصر" الانهيارات". فلا شك أن الحضارة الانسانية الحديثة والمترابطة بشكل وثيق بفعل إنتاجات العقل البشري المتواصلة أصبحت أكثر شفافية وبالتالي أكثر تأثرا بفعل تداعيات تحرك الأفراد والجماعات والسياسات والقيم هنا وهناك أي في جميع أنحاء المعمورة. لقد كان الانهيار الأول – انهيار برجي التجارة العالمية و البنتاكون (2001) - مدويا ومؤثرا بشكل كبير في دواليب العلاقات الدولية , اعتبره بعض المحللين السياسيين انهيارا للرأسمالية ببعدها الأمريكي فيما نظر إليه آخرون على أنه بداية معالم عالم جديد ستتولى أمريكا وحدها رسم طريقه بإحكام شديد. وبقدرات أمريكا العسكرية الهائلة المنتشرة في جميع أنحاء العالم وتزامن هذا الانهيار مع وجود قيادة سياسية محافظة متطرفة – جورج بوش الابن – انحازت الإدارة الأمريكية للخيار العسكري في تصفية العدو المفترض في الهجوم وهو تنظيم القاعدة وهاجمت بلدين متهمين : الأول بتهمة احتضان الإرهاب والثاني بتهمة امتلاك السلاح النووي الذي سيهدد الأمن القومي والمصالح الأمريكية في المنطقة. ثم تولّت بعد ذلك إعادة الأعمار ونشر الديمقراطية في بلدين منغلقين أسفرت عن ولادة " إمارة أفغانستان الإسلامية في أفغانستان و"دولة العراق الإسلامية" في العراق وهي نتائج دمقرطة عنف مُورِست بقوة السلاح والمال. الانهيار الثاني جاء من أمريكا أيضا وهو انهيار بورصت وول ستريت الأمريكية ونشوب أزمة مالية عالمية (2008) لم تعرفها السوق العالمية منذ أزمة 1929 المشهورة. وهنا تعززت أطروحة التيارات الراديكالية بنهاية الرأسمالية والإمبريالية العالمية بفعل مساوئها الفظيعة على القيم الإنسانية لصالح قيم الجشع المادي والذي أتبث التاريخ عدم جدوائيتها. لقد تأثرت الإقتصادات العالمية بهذا الانهيار بفعل ترابطها المالي والتجاري خصوصا المجموعات المالية الموحدة كمجموعة اليورو. انعكاسات هذه الأزمة اقتصاديا وسياسيا متعددة : اقتصاديا, مازالت جل الأسواق العالمية في حالة ركود بفعل سياسات التقشف وترشيد النفقات الداخلية باستثناء الإقتصادات غير المفتوحة بشكل كلي أمام التداولات المالية العالمية. سياسيا, تنامت المظاهرات الشعبية ضد السياسات المالية للحكومات بسبب الفشل في حل هذه الأزمة وازداد الفساد بشكل ملحوظ وانخفض منسوب الديمقراطية بل انتقلت العديد من الدول من سلم الدول الأكثر ديمقراطية إلى مرتبة الدول الأقل ديمقراطية. الانهيار الثالث تمثل في الربيع العربي والمغاربي (2011) وهو انهيار الإستبدادات الذي انطلق من تونس ثم مصر وليبيا ومازال مستمرا في العديد من الدول التي تعرف تحررا من قبضة الأنظمة الاستبدادية. إن ثورات الربيع الديمقراطي والتي تمّت عولمة بعض من أدبياتها إلى أنحاء أخرى من العالم كأوروبا الشرقية وتركيا والبرازيل , شكلت قطيعة بين دول الأنظمة ودول الأفراد. لقد كانت الدول تمتاح مشروعيتها من طبيعة النظام الذي تشرعنه من أجل تنفيذ سياسات ايديولوجية حزبية وقومية أكثر مما تنظر إلى توجهات الأفراد وحريتهم ومتمنياتهم. دول الأفراد هي التي يسمع فيها صوت الأفراد وتُصان حريتهم بشكل مقدس ويمتلك فيها الأفراد قوة الردع ضد الحكومات والأنظمة الشمولية. لقد بدأ هذا التوجه التحرري فعلا في الظهور في عالم عربي عُرف بالانغلاق بفعل تراكم الاستبداد السياسي والديني وحتى الثقافي الذي تصنعه المجتمعات كرها لضمان عيشٍ مفروض. لكن هذا التوجه التحرري الجديد مازال في مرحلة المخاض بفعل عدم جاهزية المجتمعات المحتضنة لهذه الثورات لتلقي القيم الجديدة التي مازال ينظر لها من منظور المؤامرة الغربية أو الصهيونية أو الطائفية أو الايديولوجية. بوادر انهيارات أخرى تلوح في الأفق وعلاماتها الحرب العالمية السورية الحالية بفعل تكالب فلول أسطورة الممانعة والتحالفات الدولية ضد إرادة الشعوب الحرة والتاريخ هنا سيُفعِّل قوانينه مرة أخرى لأن الحرب جنون والقوة تلغي القوة والإنسان يفوز دائما عندما يتعلق الأمر بحريته ومصيره الذاتي. يذكر لنا المؤرخ البريطاني المرموق " جون أرنولد توينبي" في كتابه – مختصر دراسة التاريخ – كيف تنهار الحضارات وهي في أوج عظمتها وقوتها وليث قادة الأمم والإمبراطوريات تقرأ كيف كانت عاقبة الذين عتوا في الأرض فسادا. فالانهيار الحضاري " ليس من فعل القضاء والقدر بالمعنى الذي يعنيه رجال القانون وليس إعادات عابثة لقوانين الطبيعة الجامدة وليس نتيجة فقدان السيطرة على البيئة طبيعية كانت أم بشرية و لا يرجع إلى انحطاط في الأساليب الصناعية والتكنولوجية ولا إلى عدوان يشنه خصوم دخلاء وإنما إلى عِلة داخلية وهي جنون القوة التي تؤدي إلى الانتحار. يبقى السؤال محيرا للغاية , هل ستؤسس هذه الانهيارات لعالم إنساني نقي تعيش فيه الحضارات بدون جنون القوة وجنبا إلى جنب بتعايش سلمي ؟ ليس قبل انهيار السلاح النووي.