ركّز الملك محمد السادس في خطاب ذكرى "ثورة الملك والشعب" الذي شمل 866 كلمة على محوريْن رئيسيْن: قضية الصحراء (378 كلمة) وقضية الجالية المغربية في دول العالم (419 كلمة). ولا تكمن دلالة هاتان القضيتان في نصيبهما من الخطاب فحسب، بل وتفرض أهميتهما الراهنة في حقبة الاستقطابات الدولية وموجة الجفاف وتضخم الأسعار على حساب قضايا وسياسات عامة وتحديات وطنية وإقليمية لم تجد طريقه إلى نصّ الخطاب. ويستدعي تأمّل المغزى استحضار ثلاثية السياق الذي انطلق منه، وحركية التطورات والأحداث الراهنة، واستشراف مآله إزاء العواصم والمؤسسات الدولية التي يقصدها الخطاب ضمنيا. يقول الملك إن "إن ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم"، وفحوى الرسالة هو أن تتفهم شتى العواصم أنّ وحدة التحليل الرئيسية لدى القصر الملكي وبقية مؤسسات الدولة هو مدى توافق مواقف تلك الدول أو تنافرها من منظور الرباط إلى تسوية الصراع على الصحراء. وتغدو بالتالي محور العلاقات الخارجية للمغرب في دائرة من أسماهم "شركاء المغرب التقليديين والجدد". قد تبدو رسالةً بعناوين إرسال مختلفة، لكن في ملخصها رسالة واحدة إلى عنوان محدد: قصر الإليزيه وأعضاء الجمعية الوطنية في باريس. وإذا كان صدى الرسالة لم يصل بالكامل عبر القنوات الخاصة وجلسات التنسيق بين البلدين من قبل، فإن وضوح الإرسال والاستقبال لم يعد يتعثر الآن عبر أجواء المتوسط الصاخب. بعيدا عن اللباقة الدبلوماسية المتريثة، تُبلغ الرباطباريس بلغة البرغماتية والحسابات الواضحة في العلاقات الدولية بأن "ملف الصحراء هو "المعيار الواضح والبسيط، الذي يقيس به صدق الصداقات، ونجاعة الشراكات." في المقابل، يجد الرئيس ماكرون نفسه بين موج متلاطم بين تدبير علاقاته مع المغرب من ناحية، ومع الجزائر من ناحية ثانية، وبقية شمال وغرب أفريقيا من ناحية ثالثة، وهو يحمل همّا ثقيلا بانكماش النفوذ الفرنسي في قارة المستعمرات السابقة، بموزارة التوسع التجاري الصيني ونشاط قوات فاجنر الروسية في ليبيا ومالي، وعودة الاستراتيجية الأمريكية في أفريقيا من ناحية رابعة، وقلق الفرنسيين عموما على أفول نجم الفرنكفونية في القارة السمراء من ناحية خامسة. ذكر الملك في أكثر من عبارة استعراضية فتح عدد متزايد من القنصليات في العيون والداخلة من قبل دول يعتبرها المغرب دول حليفة. وتشمل القائمة دولا عربية وأفريقية وأمريكية لاتينية. وتبدو هذه العبارات بشرى سارّة لوزارة بوريطة ومن يظللونه بظلالهم. وقد تزداد أهمية هذه القائمة من حيث التحليل الكمّي بتصاعد الأرقام. لكنها تستدعي نظرة موازية بالتحليل النوعي من حيث قياس المكسب الملموس ما بعد افتتاح القنصليات وأخذ صور تذكارية في المناسبة وتجديد خطاب "علاقات الصداقة المتينة" أو "العلاقات الأخوية" وبقية أدبيات العلاقات الدبلوماسية. ثنائية التحليل الكمي والنوعي تستحضر السؤال الجوهري: كيف يمكن تدوير هذا الرصيد الدبلوماسي الرمزي في العيون والداخلة إلى رأسمال سياسي قابل للصرف ضمن مداولات مجلس الأمن في نيويورك، أو مجلس الشيوخ في واشنطن، أومجلس العموم في لندن، أو البرلمان الأوروبي بين بروكسيل وستراسبورغ، أو الجمعية الوطنية في باريس وبقية مراكز القرار في شتى العواصم الكبرى؟ على منوال برغماتية الخطاب التي عبر عنها الملك، يكون من الأجدى أن تبلور دبلوماسية الرباط براغماتية الفعل، ليكتمل القول والفعل في اقتحام الأجندات وكسب الاصوات وبالتالي تسجيل الأهداف في اجتماعات تلك المنظمات الدولية والحكومات والمجالس ذات الثقل في ميزان السياسة الدولية. قد تكون لقائمة القنصليات المفتوحة دلالة سياسية ورمزية لدى الرأي العام الداخلي. غير أنها تظل منقوصة ما لم تكتمل الدائرة بأن تزيد في عدد المؤيدين، وتقلص عدد المعارضين، ضمن آليات صنع القرار لدى الأممالمتحدة والاتحاد الأوروبي، وأيضا لدى دول الشمال التي لاتزال تهيمين حكوماتها وقوتها السياسية على تحديد مخرجات المنظمات والوكالات الحكومية الدولية. انطلق الملك محمد السادس في تناول المحور الثاني بنفس السؤال البرغماتي: "ماذا وفّرنا للجالية لتوطيد هذا الارتباط بالوطن؟" عبارةٌ تضع سياسة الهجرة والمهاجرين ومغاربة العالم على المحك، فيما لا تزال أصداء احتفالات "اليوم الوطني للمهاجر" قبل عشرة أيام. هي سنة احتفاليات سنوية لتجسيد الاهتمام الرسمي في الرباط بما يختزل في قضايا أكثر من خمسة ملايين من مغاربة ما وراء الحدود، أو 15 في المئة من المغاربة المغتربين في 100 دولة في خمس قارات متباعدة. تدحض عبارة الملك ضمنيا سطحية البدعة البروتوكولية التي تقيم الملتقيات السنوية، وتنعش الخطابيات، وتكثر خلالها الصورُ التذكارية بين الداعين والمدعويين، وتأكيد المصافحات ونفخ المعنويات لبعض "سفرائنا" في الخارج. تجد الجالية المغربية في خطاب الملك اليوم عدة نقاط تثير شجون قديمة وأخرى جديدة، إذ يقول "هل الإطار التشريعي، والسياسات العمومية، تأخذ بعين الاعتبار خصوصياتهم؟ وهل المساطر الإدارية تتناسب مع ظروفهم؟" هي جالية برغماتية بحكم تجاربها ووعيها بعد سنوات وعقود الاغتراب، وخاصة عندما تدير عقلها وقلبها ومذخراتها المالية نحو المغرب. ولا تكثرت في أغلب الحالات ببدعة المنحى الرمزي للخطابات الرومانسية في احتفالات "10 غشت". يعود مغاربة العالم، أو بالأحرى مغرب الشتات والمهجر إلى مقاصدهم البعيدة أو لاستكمال ما تبقى من عطلة صيفية قد لا يكتمل نصابها النفسي ولا نجاحها في تحقيق ما رَنَتْ إليه من الأصل. لا يمكن اختزال سياسة الهجرة ولا مؤسسات المهاجرين لدى المغرب في احتفال سنوي ينتهي بانطفاء الأضواء وتفرق الأحبة. هي بدعة مضللة بمثابة عملة ذات وجهين: وجه تسطع عليه أضواء الكاميرات وتغطيه قنوات الإعلام في احتفالية اليوم أو الأسبوع الواحد، ووجه آخر لا يستقطب الأضواء البراقة ولا يكثر من المساحيق الزاهية الموسمية. وتظل الحقيقة أنهم، كما جاء في خطاب الملك، "يواجهون العديد من العراقيل والصعوبات، لقضاء أغراضهم الإدارية، أو إطلاق مشاريعهم. وهو ما يتعين معالجته." من حضر "10 غشت" قلة قليلة ببضع عشرات من الفئة المختارة، لكن من غاب كانوا بالملايين ومن أعمار مختلفة. ويستحضر خطاب الملك قضية مركبة بالنسبة لبلد لديه جالية تمتد بين أربعة أجيال وعدة لغات وثقافات خاصة في الدول الأوروبية، إذ قال "إن قوة الروابط الانسانية، والاعتزاز بالانتماء للمغرب، لايقتصر فقط على الجيل الأول من المهاجرين؛ وإنما يتوارثه جيل عن جيل، ليصل إلى الجيلين الثالث والرابع." وهذا سؤال عريض بشأن الجسر الغائب بين هذه الأجيال الثانية والثالثة والرابعة وأغلب حصيلة المؤسسات التي تعنى بقضايا الجالية. في محاضرة بعنوان " مهاجرون أم شتات؟ تركيبٌ استراتيجيٌ للعلاقة بين المغرب ومغاربة العالم" ألقيتها عن بعد في ضيافة التجمع الوطني للأحرار قبل عامين، أثرت عدة أسئلة تأصيلية لهده الفجوة بين منظور الرباط ومنظور المهاجرين عبر أربعة اجيال قائلا: "سؤال المسافة الراهنة في تصوّر الرباط بين تعامل "الرعّية" إزاء أولئك المهاجرين وفلسفة "المواطنة" المنفتحة على أكثر من جغرافيا وأكثر من ثقافة؟ سؤال أخر يقتضي تحديد الخيار بين الخطاب المعياري التقليدي عملا بمقولة "عمّالنا في الخارج هم سفرائُنا" وشتّى أدبيات الدبلوماسية المغربية التي استثمرت في ثقافة الوصاية عبر السفارات والقنصليات والتكتلات الموالية لها بين المهاجرين، وخطاب الواقعية والبرغماتية من أجل تأسيس عروة وثقى بين الرباط وقرابة ستة ملايين مغربي ومغربية اختاروا أوطانا بديلة، ولا يتخلّون عن انتمائهم واستعدادهم لتسخير مهاراتهم وخبراتهم في بناء مغرب ديمقراطي حداثي ومتكافئ الفرص. عندما يوجّه مغاربة العالم تفكيرهم نحو المغرب أو يقرّرون السفر إليه، هل يفعلون ذلك بعقولهم أو بقلوبهم أم بأيّ حافز واع أو غير واع آخر من أجل استدامة هذه العلاقة في منحاها المادّي والنفسي والمعنوي والمجتمعي؟ هم يتمسّكون ليس بثنائية الوطن أو الثقافة أو الانتماء العرقي والثقافي والحضاري بين أرض المهجر والوطن الأمّ فحسب، بل وأيضا بمواطنة عابرة للقارّات تسعى للتوفيق بين الحقوق والالتزامات والمبادئ والقيم المتداولة في سياق عالمي. واليوم يعلن الملك أنه "بالنظر للتطلعات المتجددة لمغاربة العالم، فقد حان الوقت لتحديث وتأهيل الإطار المؤسسي، الخاص بهذه الفئة العزيزة من المواطنين. ويجب إعادة النظر في نموذج الحكامة، الخاص بالمؤسسات الموجودة، قصد الرفع من نجاعتها وتكاملها." هل هي نعمة أم نقمة أن يتوزّع ملف مغاربة العالم بين ستّ مؤسّسات رسمية في الرباط: 1) وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، 2) الوزارة المنتدبة المكلفة بالمغاربة المقيمين في الخارج، 3) مؤسسة الحسن الثاني للمغاربة المقيمين في الخارج، 4) مجلس الجالية المغربية بالخارج، 5) اللجنة الوزارية لشؤون المغاربة المقيمين بالخارج وشؤون الهجرة، و6) بعض الجهات التي تعمل من وراء ستار وتتأرجح بين مسعى احتوائهم أو استبعادهم، أو شيطنة بعضهم، إذا استعرضنا حصيلة العقود الخمسة الماضية منذ تأسيس "الوداديات" في فرنسا وبلجيكا وهولندا بعد 1973، وكيف أصبحت رؤية الجيل الثاني والثالث بين مغاربة العالم الآن إلى العلاقة مع المغرب جملة وتفصيلا؟ فمتى يتوافق المغرب الرسمي ومغاربة العالم، ومتى يختلفان في تحديد معضلات الحاضر وسبل المساهمة في البناء الاقتصادي والفكري والسياسي للمستقبل؟ وماذا تُخفي عبارة "مغاربة العالم" من فئات فرعية وبين من يُعدّون مهاجرين مؤقتين أو متجنّسين مقيمون إلى الأبد في دول المهجر، أو شتات متناثر في العالم، أو كما قال أحد الأصدقاء "قلّة من المهاجرين وكثير من الشتات أو المنفى!"