الصدمةُ أصنافٌ في طبيعتها ودرجاتٌ في ما تثيره من ردّات الفعل النفسية والذهنية: هناك تعاسةُ الشعور بخيبة الأمل، وهناك الضجر والقنوط بفعل الإحباط واليأس. لكن المرارة اللعينة أن يكتشف ستة ملايين من مغاربة العالم أنهم يعيشون على وعدٍ كاذبٍ لأكثر من خمسة عشر عاما، وأنهم يُعاملون معاملة "الأغبياء"، أو بمثابة "قُصّرٍ متخلّفي القدرات الذهنية" في نظر الدولة والأحزاب وجلّ النواب داخل البرلمان، على ما يبدو، وسط تبريرات واهية والاختباء خلف ذرائع هلامية. وسط السجال الراهن حول القاسم الانتخابي وتفتيت حظوظ الأحزاب على رقعة الشطرنج السياسي وعملية التصويت المرتقبة بعد ثلاثة أشهر، تضيع القسمة والإنصاف للمغاربة المقيمين في أوروبا وأمريكا الشمالية وأمصار بعيدة أخرى، ويتم مجددا خنقُ أنفاس الفصل 17 من الدستور الذي "ينص على تمتيع مغاربة العالم بحقوق المواطنة كاملة، بما فيها حق التصويت والترشيح في الانتخابات المحلية والجهوية والوطنية."
هي خديعةٌ مزدوجةٌ تلعبها الحكومة والأحزاب على حدّ سواء بتجاهل مبدأ المشاركة السياسية لفئة مهمة تمثل نسبة السدس من الشعب المغربي. فواقع الحال يكشف حقيقة جديدة أن حقّ من أصبحوا "مغاربة الإقصاء" بفعل الأمر القائم، و"مغاربة مجرد التحويلات المالية"، قد ضاع بين حسابات وزارة الداخلية وانتهازية جل الأحزاب التي تتبرأ ضمنيا من خطبها الوردية ووعودها الباهتة لمن كانت تعتبرهم "الجهة 13" في خارطة تمدّد شعبيتها وتنوع أعضائها واتساع قواعدها بين الداخل والخارج. وتزداد مرارة الخديعة بتغييب إرادة الملك الذي أكد أن مغاربة العالم "يتمتعون، على قدم المساواة، بالحقوق السياسية والمدنية، التي يخولها القانون لكل المغاربة، ليكونوا ناخبين أو منتخبين بأرض الوطن". وعود السراب..! بعد مرور ستة عشر عاما على خطاب الملك عن "المواطنة المنقوصة" وعشر سنوات على دستور 2011، يحلّ عام الانتخابات الجديدة، وتحين ساعة الحقيقة بسؤال عالق منذ ستين عاما: أين موقع المغاربة المقيمين في الخارج من مؤسساتنا الدستورية ومسار بناء التعددية والمواطنة الشاملة؟ هل نصدقهم القول بأن لهم "حقا سياسيا"، يقرّه الدستور ويضمنه الملك ويتباهى به خطباء الأحزاب في البرلمان ولقاءات الفنادق في شتى العواصم؟ هو حق دستوري بولادة شرعية موثقة باعتبارهم مغاربة الجنسية، ومغاربة الجينات الوطنية والحماسة التلقائية للدفاع عن مصالح المغرب، وأيضا مغاربة التمسك بقيمه وثوابته، وأنها فرضية قائمة في كل مكان وزمان. في ساعة الحقيقة، تنبري الأحزاب عن توقعات مغاربة العالم إلى الدفاع عن مثلثها من الكعكة الانتخابية المعروضة حسب لمسات مهندس التفتيت الحزبي داخل برلمان 2022. أما حامية حمى مغاربة العالم السيدة نزهة الوافي، الوزيرة المنتدبة لدى وزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج والمكلفة بالمغاربة المقيمين بالخارج، فتتبنى أسلوبا ينمّ عن الضحك على الدقون والاستخفاف بعقول أولئك "الأغبياء" بوعد مثير أجوف: "توجيه رسائل الثقة إلى مغاربة العالم". ويطيب لهذه الوزيرة "الوفية" لتوقعات نسبة 15٪ من الشعب المغربي خارج الحدود أن تحرّك الأسطوانة المشروخة القديمة بفكرة "فتح نقاش وطني واسع حول تصويت وترشح الجالية تشارك فيه جميع المؤسسات." منذ عام الفيل، والحديث مفتوح عن "نقاش وطني" حول التمثيل السياسي لمغاربة العالم عبر حلقات تفوق أطول مسلسل مكسيكي عابر للأجيال. لقد ضجر مغاربة العالم من معاملة "خوذهم على قدر عقلهم"، وملّوا خطب الطرح المثالي البنفسجي فاقع اللون بين مناسبة وأخرى. كما سئموا منطق الوصاية المليئة قولا والجوفاء فعلا عندما تحل ساعة الحسم وانضمام ممثلي ستة ملايين مغربي إلى جلسات مجلس النواب والسجال البناء بين رؤى من الداخل وأخرى من الخارج. خلال اجتماع مع لجنة الداخلية في مجلس النواب قبل أسبوعين، قال وزير الداخلية عبد الوافي الفتيت إن "الانتخابات التي بدأ المغرب الإعداد لها، ستكون استثنائية في كل شي، بدءا من التوقيت لتزامن الإعداد لها مع الجائحة، ومستجدات القضية الوطنية، مشددا على أن أكبر التحديات المطروحة في هذا الاستحقاق الانتخابي هو تعزيز انخراط المواطنين." انخراطٌ في الداخل وإقصاءٌ في الخارج، وتلويحٌ بخطاب الاستثناء غير الإيجابي بأن يتفادى الحديث عن أحقية مغاربة العالم، وإن تمسكت الدولة المغربية بأنهم "مغاربة أولا وأخيرا"، مثلما كان التبرير بمنع مغاربة بلجيكا من ركوب الطائرة خلال أزمة العالقين وتفشي كورونا بداية الصيف الماضي. انتظار العقود الستة! المفارقة الكبرى أن الضحك على عقول مغاربة العالم "الأغبياء" والتلاعب بما فيهم من "سذاجة" وطنية عفوية ليس أمرًا جديدا، بل هو نتاج ستة عقود من الشماتة السياسية: * في الستينات، أبرم المسؤولون في الرباط صفقات لتزويد عدد من الدول الأوروبية باليد العاملة الرخيصة، وأسموهم "عمالنا في الخارج"، وترقبوا تحويلاتهم المالية على مدار العام. * في السبعينات، أسسوا لهم الوداديات وشيدوا لهم فروعا للبنك الشعبي داخل السفارات والقنصليات وحولها من أجل ضمان أعلى قدر ممكن من التحويلات النقدية باتجاه "لبْلادْ" ومساعدة "لحباب فلمووغريب"! * في الثمانينات، أطلقوا عليهم تسمية "عمالنا وتجارنا في الخارج"، ودعتهم السفارات والقنصليات لتجسيد "تمغربيتهم" بإقامة الحفلات ومتابعة خطب العرش في طقوس جماعية تجسد بيعة عابرة القارات. وعارض الملك الراحل الحسن الثاني اندماجهم في المجتمع الفرنسي الحاضن لأكبر نسبة من مغاربة أوروبا. فظلت سياسة الهجرة تنحو منحى أن يبقوا مهاجرين مغاربة مؤقتين حتى إشعار آخر. * في التسعينات، أضفوا على تسميتهم "المغاربة القاطنين في الخارج "، وأقاموا لهم مراكز استراحة ورفع المعنويات على طول الطريق بين جنوباسبانيا ومخارج طنجة في رحلة الصيف دون الشتاء. استقبلوهم بالترحيب عند القدوم، ولم يأبهوا بمعاناة الطوابير الطويلة باتجاه ميناء طنجة في طريق العودة. * في العهد الجديد منذ يوليو 1999، تغيرت التسمية ببعض التهذيب واللباقة إلى "مغاربة العالم"، بعد أن اتضح أنهم باشروا مجالات عمل أخرى وحققوا قصص نجاح متعددة خارج العمل في المصانع والحقول، مع كل التقدير لجميع من كد وضمن قوته وقوت أولاده في شتى الأعمال اليدوية. وارتفعت مكانتهم رمزيا في خطب الملك الجديد وبنود الدستور الجديد. لكن حقهم الدستوري ومشاركتهم في بناء مغرب الحداثة والمواطنة غير المنقوصة يظلان نية معلنة مع وقف التنفيذ، واستغباء إضافيا لثلاثة أجيال على الأقل من مغاربة اللغات والثقافات والتجارب والكفاءات المتنوعة. تصبح خديعة الأحزاب والحكومة في الرباط أكثر مرارة لدى هؤلاء الملايين الستة عندما يعاينون دول الجوار وهي تمهد الطريق لمشاركة مواطنيها المهاجرين في انتخابات يونيو المقبل. هناك الجزائر التي تصح المقارنة معها على أكثر مستوى من التقدم أو التخلف، وأيضا تونس، وموريتانيا، ومصر، والسودان، ومالي، وجيبوتي، وإريتريا، والنيجر، والعراق، والهند، ودول أخرى تضمن حق التصويت الانتخابي لمهاجريها المقيمين في الخارج. سيكون من العبث التلويح بفحوى "الاستثناء المغربي" أو "الخصوصية المغربية" في تبرير استمرار هذه القطيعة غير الدستورية بإقصاء تعسفي لستة ملايين مغربي من المشاركة السياسية هذا العام. ولن يهدأ النقاش في جلسات هذا الشتات الواعي بواجباته وحقوقه الدستورية والوطنية وإن عمدت الأحزاب والحكومة إلى وضع رأسها في الرمل، أو وضع كمامات بلاسيكية على آذانها وأعينها حتى يمر يوم التصويت. في عام الانتخابات بعد عام تفشي كورونا، تدفع الرباط وشائج العروة لدى مغاربة العالم وبلدهم الأصلي نحو منطقة رمادية، ونحو وعي جديد بأن يدركوا أن الأحزاب لا تضع مشاركتهم السياسية في مقدمة أولوياتهه في المنافسات الانتخابية، وأن وزارة الداخلية لا تدخلهم ضمن المعادلة البرلمانية الجديدة. وما أوضحته مناقشات لجنة الداخلية في مجلس النواب قبل أسبوعين يلغي الرومانسية السياسية وخطاب "سفراؤنا في الخارج" التي تنتعش خلال لقاءات قادة الأحزاب على اختلافهم ووزراء الجالية المغربية المقيمة في الخارج خلال الحفلات الوطنية وما يسمونه "لقاءات التواصل" مع أفراد الجالية. وهي مؤشر على الحاجة لإدراك جديد بالانتقال من ذهنية مغاربة العالم إلى منطق الشتات غير المرحّب به وتصوراته وتحويلاته السياسية في المغرب. هي رسالةٌ أخرى للمستبعدين من التمثيل البرلماني بأن الوضع القديم لم يتغير في العهد الجديد/القديم: عمالنا في الخارج، كدّوا وادّخروا رواتبكم وحوّلوها عبر أقرب بنك أو مؤسسة بريدية، وارفعوا أعلامنا في مظاهرات السفارات وحفلات الوداديات. ببساطة، أنتم ديكور وطني عند الحاجة، وترف سياسي وديمغرافي في المناسبات والتباهي بأعداد الموريدين لشيوخ الزوايا الحزبية خارج المواسم الانتخابية. أما دخولكم البرلمان، فهو مسألة معقدة وعالقة حتى تحسم الرباط أمرها عام 2122 إن ظللتم أحياء، إن شاء الله!