وعدت القراء الأفاضل بتخصيص سلسلة مقالات متخصصة، أحلل من خلالها لعبة الشطرنج الدائرة بجنوب شرق اسيا و بحر الصين الجنوبي و الشرقي، و تحديدا حالة التوتر و الوعد و الوعيد بين الصين من جهة و أمريكا و حليفتها التايوان من جهة أخرى، و ذلك على خلفية الجولة التي تقوم بها السيدة "نانسي بيلوسي" للمنطقة و إعلانها عن رغبتها في زيارة تايوان.. خاصة و أني تلقيت دعوة للمشاركة بورقة بحثية في ذات الموضوع، و الغاية تقريب الصورة للقارئ و صانع القرار العربي من أبعاد هذا الصراع و التنافس على من يسيطر على "تايوان"، خاصة و أن تفجر أي نزاع مسلح بين الصين و تايوان سيكون له تأثيرات خطيرة تتجاوز بكثير تأثيرات الحرب الروسية الأوكرانية، فإذا كانت الأزمة الروسية الأوكرانية قد أدخلت العالم في موجة تضخم جامح و ركود تضخمي سينتهي حتما بأسقاط أنظمة و تغيير حكومات، فإن أي نزاع مسلح بين الصين من جهة و تايوان و حلفاءها الغربيين من جهة أخرى ستكون له تأثيرات بالغة الخطورة و العالم العربي ليس ببعيد عن هذه التأثيرات… و إلى حدود كتابة هذا المقال فقد تأكد زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي "نانسي بيلوسي" إلى تايوان برفقة وفد من الكونغرس، و تم إستقبالها من قبل الرئيسة التايوانية "تساي إنغ ون" يوم الأربعاء 02-08-2022 في "تايبيه" .. و قد أثارت هذه الزيارة غضب الصين و حاولت الصين منع الزيارة منذ البداية، عبر الطرق الدبلوماسية و عبر الحشد العسكري و تبني سياسة التهديد و الوعيد … ومن المعلوم أن مسؤولون أميركيون يتوجهون بانتظام إلى تايوان تعبيرا عن دعمهم لها، لكن زيارة بيلوسي وهي من أعلى المسؤولين في الدولة الأميركية ولها وزن في الحياة السياسية، ستكون غير مسبوقة منذ زيارة سلفها "نيوت غينغريتش" عام 1997. فرئيسة مجلس النواب الأميركي شخصية محورية في المعسكر الديموقراطي ومقرّبة من الرئيس "جو بايدن"، لذلك فإن زيارتها لتايوان يعقد مهمة الخارجية الأميركية التي تجهد لعدم حصول تصعيد إضافي في العلاقات مع الصين… و تنتهج الولاياتالمتحدة حيال تايوان سياسة خارجية تعرف باسم "الغموض الاستراتيجي" تقوم على الاعتراف بحكومة صينية واحدة وهي سلطات بكين والاستمرار بتقديم دعم حاسم لتايبيه مع الامتناع عن توضيح ما إذا كانت ستدافع عنها عسكريا في حال غزتها الصين لإعادتها إلى سيادتها. و منذ الإعلان عن هذه الزيارة توالت التهديدات الصينية دبلوماسيا و عسكريا، ورد جيش التحرير الشعبي الصيني على الزيارة المحتملة بإجراء مناورات عسكرية، وتدريبات بالذخيرة الحية، وإرسال طائرات عسكرية بالقرب من الجزيرة، ونشر سفن تابعة للبحرية الصينية في المنطقة لإغلاق المناطق البحرية، كما عبرت مقاتلات من طراز "سوخوي 35 " مضيق تايوان..كما أعلنت وزارة الدفاع التايوانية أن 21 طائرة صينية دخلت يوم الأربعاء منطقة الدفاع الجوي لتايوان.. لكن أهم ما يميز اللحظات الأولى من زيارة بيلوسي لتايوان ، هو مزج الصين بين القوة الصلبة و الخطاب الدبلوماسي، ففي الوقت الذي تم تنفيذ مناورات عسكرية و التلويح باستخدام القوة الصلبة، إختارت الصين أيضا لغة دبلوماسية شديدة اللهجة فقد جاء في بيان لوزارة الخارجية الصينية ما يلي : " – الصين ستتخذ بالتأكيد جميع التدابير اللازمة لحماية سيادتها و سلامة أراضيها بحزم ردا على زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي إلى تايوان ..نحث أمريكا على التوقف عن التدخل في الشؤون الداخلية للصين و عدم الاستمرار في المسار الخاطئ و الخطير ..تايوان هي القضية الأهم و الأكثر جوهرية و الأكثر حساسية في العلاقات الأمريكيةالصينة ".. و بعد الزيارة مباشرة أعلن البيت الأبيض "أن زيارة بيلوسي لتايوان كان قرارها وحدها و نراقب عن كثب الوضع ، و ندعم تايوان و سندافع عن منطقة المحيطين الهندي و الهادئ" و بنفس اللغة قامت الإدارة الأمريكية بالرد المبطن على الصين ، فالزيارة بحسب ما جاء في بيان البيت الأبيض لا تعبر بالضرورة عن إرادة ووجهة نظر الإدارة الأمريكية ، فهي زيارة تهم رئيسة مجلس النواب، و من المعلوم أن هناك فصل للسلط في أمريكا و مجلس النواب سيد قراره، لكن في المقابل يقرر البيت الأبيض أنه ملتزم بدعم تايوان و بالدفاع عن منطقة المحيطين الهندي و الهادئ، فهو لم يعلن الدفاع عن "تايوان" و في ذلك امتداد لسياسة "الغموض الاستراتيجي".. وتعتبر بكين جزيرة "تايوان" التي تتمتع بحكم ديمقراطي، إقليما منشقا عن جمهورية الصين الشعبية، يجب إعادته للبر الرئيس، وتعتبرها المقاطعة رقم 23…و تقع مقاطعة تايوان في الجنوب الشرقي من بر الصين الرئيسي، وتطل على المحيط الهادي شرقا، وتواجه مقاطعة "فوجيان" الصينية عبر مضيق تايوان غربا، وتضم ما يزيد عن 80 جزيرة كبيرة وصغيرة، ومنها جزيرة تايوان نفسها والجزر القريبة التابعة لها وجزر" بنغهو"، وتبلغ مساحتها الإجمالية 36 ألف كيلومتر مربع. كانت تايوان تدعى قديما "ييتشو" و"ليوتشيو". وابتداءا من أواسط القرن الثاني عشر، بدأت الحكومات الصينية في مختلف العصور تأسيس هيئات إدارية في "تايوان"، ومارست عليها السلطة الإدارية، وهذه الحالة الأساسية لم تتغير حتى خلال 50 سنة احتل الغزاة اليابانيونتايوان فيها بعد الحرب الصينية – اليابانية عام 1894.. وبعد انتصار حرب المقاومة التي خاضها الشعب الصيني ضد اليابان عام 1945، استأنفت حكومة الصين من جديد إقامة هيئاتها الإدارية في مقاطعة تايوان. وقبيل تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949، تراجعت سلطات "الكومينتانغ" من بر الصين إلى تايوان. وبعد اندلاع نيران الحرب الكورية عام 1950، أرسلت الولاياتالمتحدةالأمريكية أسطولها البحري السابع لغزو تايوان ومضيق تايوان، كما وقعت مع سلطات تايوان "معاهدة الدفاع المشترك" عام 1954، مما أدى إلى حالة انفصال تايوان عن بر الصين ، وقد بذلت حكومة الصين جهودا دائبة من أجل حل مسألة تايوان وتحقيق الوحدة.. وفي فبراير 1972، زار الصين الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، وأعلن الجانبان الصيني والأمريكي "بيان شانغهاي". وفي أول يناير 1979، أقامت جمهورية الصين الشعبية مع الولاياتالمتحدةالأمريكية رسميا علاقات دبلوماسية، واعترفت الولاياتالمتحدةالأمريكية بأن حكومة جمهورية الصين الشعبية هي الحكومة الشرعية الوحيدة للصين، وأن "تايوان" جزء من الصين، كما أعلنت عن إنهاء "علاقتها الدبلوماسية" مع سلطات "تايوان" وإلغاء "معاهدة الدفاع المشترك"، وسحب كافة العسكريين الأمريكيين المرابطين في تايوان. وفي هذه الظروف التاريخية، طرحت حكومة الصين، منطلقة من المصالح القومية ومستقبل الوطن كلية ووفقا لمبادئ احترام التاريخ والحقائق الواقعية والبحث عن الحقيقة واستنادا إلى الوقائع والاهتمام بمصالح مختلف الأطراف، طرحت المبدأ الأساسي حول "التوحيد السلمي وبلد واحد ونظامان". منذ أن وجهت اللجنة الدائمة للمجلس الوطني لنواب الشعب "رسالة إلى المواطنين في تايوان" في أول يناير 1979، والحكومة الصينية تنفذ بحزم المبدأ الأساسي حول "التوحيد السلمي وبلد واحد .. نظامان"، وتدعو إلى توحيد الوطن عبر المفاوضات وتحقيق التبادل المباشر للخدمات البريدية والنشاطات التجارية وفتح الخطوط الجوية بين جانبي المضيق، كما بادرت إلى اتخاذ سلسلة من الإجراءات الهادفة إلى دفع تنمية العلاقات بين جانبي المضيق، وخاصة في المجال الاقتصادي، فتح الأبواب للترحيب برجال الأعمال التايوانيين للاستثمار ومزاولة النشاطات التجارية في البر الصيني، وحماية حقوقهم ومصالحهم المشروعة. وبالإضافة إلى ذلك، تدفع حكومة الصين بصورة إيجابية تبادل الزيارات بين جانبي المضيق والتبادلات الثنائية في مجالات العلوم والتكنولوجيا والثقافة والرياضة البدنية والدراسة الأكاديمية والصحافة. في 30 يناير 1995، ألقى "جيانغ تسه مين" الأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني ورئيس جمهورية الصين الشعبية سابقا خطابا حول "تكثيف الجهود في سبيل إعادة توحيد الوطن"، شرح فيه مفاهيم مبدأ "التوحيد السلمي وبلد واحد .. نظامان"، وأشار فيه إلى التمسك بمبدأ الصين الواحدة، وأنه يمكن إجراء المفاوضات بين جانبي المضيق على مراحل، وبذل الجهود لتحقيق توحيد الوطن سلميا ولكن عدم التعهد بنبذ استخدام القوة المسلحة، وتنمية التبادل والتعاون الاقتصادي بين جانبي المضيق، ووراثة وتطوير التقاليد المجيدة لثقافة الأمة الصينية معا، وتعليق الأمل على المواطنين في تايوان، والترحيب بزيارة الأحزاب المختلفة والشخصيات من شتى الأوساط بتايوان إلى البر الصيني وتبادل الآراء معا حول العلاقات بين جانبي المضيق ومسألة توحيد الوطن سلميا، وإجراء زيارات بين الرؤساء على جانبي المضيق بشكل مناسب … وقد أصرت الحكومة الصينية قانونا يمنع "استقلال تايوان" عن الصين . قضية تايوان بالنسبة للصين و أمريكا قضية محورية و أساسية لعدة إعتبارات سأحاول شرحها في المقال الموالي، فالسيطرة على تايوان غنيمة استراتيجية و إقتصادية بالغة الأهمية، و الصين تدرك أن أي خطوة باتجاه السيطرة على الجزيرة ستقود حتما لتدخل عسكري أمريكي–غربي، و الصين غير مستعدة لتحمل مخاطر المجازفة، فهي تحرص قدر الإمكان على استمرار الوضع القائم في الجزيرة و ضمان استمرار نفس الموقف الأمريكي و عدم اتجاهه نحو دعم استقلال تايوان ..فالصين تحديدا غير قادرة على المجازفة في الوقت الراهن وذلك للأسباب التالية: الصين غير مستعدة–على الأقل في المدى المنظور– للمجازفة بتحمل تبعات أزمة إقتصادية عالمية تضُر بتوازناتها الماكرو إقتصادية، واستقرارها السياسي و الإجتماعي.. الصين تمتلك إستثمارات ضخمة بالدولار في الولاياتالمتحدة، وهي من دون شك تخشى من الإنهيار الفجائي لقيمة الدولار ، لأن في ذلك تبخر لإحتياطياتها المالية المُقومة بالدولار.. الصين مستفيدة من الوضع الدولي القائم، فصادرات الصين باتجاه السوق الأمريكي تجاوزت سقف 500 مليار دولار، بفائض تجاري يصل نحو 300 لصالح الصين، كما أن الصين تحقق فائض تجاري مع أغلب بلدان العالم، فهي تجني مكاسب الإنفتاح التجاري و سياسة التجارة الحرة التي أرستها أمريكا… لكن الإبتزاز الأمريكي للصين من الصعب أن يستمر إلى ما لا نهاية، فهذه الأخيرة تحاول الخروج من المصيدة بالتدريج، ودون إحداث هزات إرتدادية عنيفة قد تمس إستقرار الداخل الصيني، و في حالة تمكنها من خلق بدائل أمنة ، فستكون العواقب وخيمة على الولاياتالمتحدة و هذه الأخيرة بدورها تدرك ذهنية القيادة الصينية، و لفهم كلمة السر في هذا التنافس ينبغي العودة إلى العوامل الاقتصادية و هو ما سنحاول توضيحه في المقال الموالي إن شاء الله تعالى .. و الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون … إعلامي وأكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني والشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية والسياسات العامة..