يحكي الفيلسوف البنغالي طاغور، في إحدى رواياته، قصة طفل نشأ بين أحضان أسرة هندوسية، محافظة متدينة، وفية للتقاليد العريقة الواغلة في القدم، واختار الولد أن يسلك طريق الرهبنة ويصير رجل الدين ومجدد الإيمان في القرية، وبالفعل كان لهذا الابن ما أراد، وصار راهبا سيدا لديره ومتأمرا على جماعته، شديد التدين، ناصحا ومربيا، ومنبريا للهجوم والتحريض على خصوم الدين، ولم يكن هؤلاء الخصوم سوى "الآخرون" الذين لا يسري في عروقهم دم هندوسي، خاض الراهب معارك وجلب انتصارات لجماعته، وبطش بالأنجاس والملعونين، المارقين، البعيدين عن نور العقيدة وبركة الإله الذي قرر أن لا تسع جناحاه سوى أبناء الطائفة الهندوسية المباركة. وفي لحظة منعرج روائي، يقرر طاغور أن يقلب الطاولة على القارئ، حيث يجعل من لحظات احتضار الوالدة على فراش الموت، بحضور بعض وجهاء القرية، والراهب أسير حزنه، وليمة تعترف فيها للشاب "جورا" وهو اسم بطلنا، أنه ليس إبنا لها من صلبها، بل إنه من والدين إيرلندين قتلا في مجزرة ذهب ضحيتها المئات على أيدي هنود متمردين، وعثرت عليه الأسرة الهندوسية بين الجثث، فقررت تبنيه وتربيته بالطبع وفق ديانتها وتقاليدها ذات النزعة المحافظة التقليدية. تموت من يفترض أنها الأم، تاركة "جورا" بين الشلل والصدمة، "جورا" الذي بنى هويته على رفض الأجانب، وعلى احتقارهم وازدرائهم. وأكثر من ذلك، بانتشار الخبر في القرية أقفلت في وجه "جورا" أبواب الدير ونزعت عنه الرهبنة، فدمه ملوث ونجس، وإلهه الهندوسي لا ينظر إلى سليل الأبوين الأيرلنديين، إلا كما ينظر أسد في عليائه إلى جيفة عطنة. وفي نهاية الفصول، يتصالح جوبا مع إنسانيته، ويعود إلى الفطرة الأولى، إلى اعتبار كل البشر إخوة، وينقل جهده وجهاده من معسكر جماعته المنغلقة المتعبدة بكراهية الآخر الكافر النجس، إلى دعوة الناس إلى اعتناق مبادئ السلام والمحبة، فالإنسان، قبل أن يكون هندوسيا أو إيرلنديا، يبقى إنسانا، كما يمكن أن يكون كذلك وعلى نفس الدرجة، عاشقا للهند ولحضارتها وفلسفتها وفنونها، ويشترك في نفس العشق للمعشوق مسلموها وسيخها كما هندوسيوها. إن ممارسة التضييق، أو حصر الهوية في مصدر واحد، واعتبارها من بعد ذلك المرآة الوحيدة الذي ينظر من خلالها إلى الفرد، يشكل خطرا كبيرا على الانسانية برمتها، وإذا كان قولبة الناس وإطلاق الاتهام بناء على أحكام مسبقة هواية هذا العصر، بدءا بشاب مغربي وسم بالارهاب والتطرف بمجرد أن حط قدميه على أرضية مطار غربي ذات 11 من شتنبر، حتى ولو كان للارهاب شاجبا، أو للدين منكرا، وليس انتهاء بأستاذ جامعي غربي، يحاضر في جامعة مغربية حول حقوق المرأة، فيرميه المتابعون بالنفاق وإضمار الرغبة في تشتيت الأسرة وإفساد المجتمعات الإسلامية وفق خارطة طريق حربية صليبية استعمارية حاقدة، فإن ذلك من شأنه تهديد البشرية وتدمير الثقة بين الأفراد والشعوب. إن تقسيما متفردا للبشرية هنا عن طريق هوية مركزية والنظرة الاختزالية المراد من ورائها تصنيف الناس، يمكن بسهولة أن يؤصلا لعقود أكيدة من الكراهية والعنف، كما في رواية طاغور، كأنما لم يكن من السهل على "جورا" أن يعتبر خصومه المفترضين إخوة في الوطن، متساوون في الولاء له، محبون للخير للجميع، عاشقون لموسيقاه وتراثه وترابه. وبالمثل، يمكن أن يعتبر الطالب المغربي المسافر إلى الغرب لأجل دراسة الفيزياء، فوق كونه عربيا، ومسلما، محبا للعلوم الفيزيائية، معجبا بحضارة الغرب وعلومه التي هي ملك الانسانية جمعاء، وأكثر من ذلك، مفتونا بفريق للكرة، وعاشقا لأغاني البيتلز، وكارها لعقوبة الإعدام، وميالا إلى النظرية الماركسية في الاقتصاد. أليس سهلا على البشرية انطلاقا من هذه الانتماءات كلها، أن تصور الطالب المغربي، صديقا للألماني المتيم بالفيزياء، رفيقا إلى الملاعب للكطلاني المشجع للبارصا، مقربا أكثر للعجوز البريطاني الهائم بموسيقى الثمانينيات، ناشطا حقوقيا إلى جانب إيطاليين يتظاهرون ضد عقوبة الإعدام، ومناضلا في جمعية تضم جنسيات مختلفة، تنادي بكبح جماح عولمة اقتصادية متوحشة لا تبقي ولا تذر. ووفق هذه الأنشطة التي ذكرت، يصبح من العبث ومن السخف اعتبار طالبنا، مسلما وكفى، يوسم بما اتهمت به عقيدته، وكأن إسلامه هو الهوية الضيقة المركزية المتفردة والوحيدة، التي تختزل كيانه. لو اكتفى الطالب بأن يكون مسلما وكفى، وكان الجامعي المحاضر مسيحيا وكفى، وجعلنا شعور كل واحد من هاذين مقتصرا على الجماعة التي ينتمي إليها، ونفخنا فيها، باسم التضامن الداخلي، ونفخنا أيضا في اتجاه البعد عن الجماعة الأخرى، والتنافر مع ما تمثله من قيم وأولويات، كنا لنحصل على بركان قابل للاستثارة والانفجار في أية لحظة، بمجرد أن يعلو المنصة أحد الراغين الزابدين بخطابات طائفية، يقتنص آيات من هنا، وصحابة كرام من هناك، ويصب زيتهم على ناره فيشتعل العالم. أمارتيا كومار سن، هندي حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، عايش أعمال القتل الجماعى التي تدعمها السياسات الطائفية والتي اجتاحت الهند في الأربعينيات، بين الهندوس والمسلمين والسيخ، فألف كتابا رائعا بعنوان "العقل قبل الهوية" بجوار مؤلفات أخرى حول نفس الفكرة، إشكالية الهوية المفروضة والنظر إلى الإنسان بعين عمياء لا ترى فيه سوى ديانته، كمقدمة لممارسة القتل والترويع. وكما عاشت الهند على وقع المجازر، في رواندا كان الناس روانديين وكفى، وفجأة أطل من علبة الباندورا من يقول لهم أنهم ليسوا روانديين ولكنهم بالتحديد من طائفة الهوتو، ومعنى ذلك أن عليهم أن يمقتوا أبناء طائفة التوتسي. وكذلك في يوغوسلافيا، ما اكتفى الناس بأن كانوا يوغسلافيين أو بلقانيين أو أوربيين، بل جاء من قال لهم، أنتم في الحقيقة صربيون، وهذا معناه أنكم على النقيض من المسلمين الذين تكرهونهم قطعا، وعليكم مواجهتهم. وعلى نفس الوتيرة في الهند، كان الناس بشرا منذ مئات السنين، فتحولوا فجأة وبشكل عام، منتصف القرن الماضي، إلى هندوس عديمي الرحمة، ومسلمين شديدي القسوة، يقتل بعضهم بعضا. ومصر، بلد الثمانين مليونا، والثورة التي لا تنتهي، سارت على هذا النهج، وارتكبت نفس الأخطاء القاتلة المشتتة للشعوب، عندما فرضت على الناس هوية فريدة وحيدة، كأنما استحال فجأة النظر إلى الناس من غير هذه الزاوية القاتلة، لقد كان الناس مصريين طوال سنين، وفي لحظة جنون إعلامي، وإجرام فقهاء معدومي البصيرة، صار الناس إما إخوانيين يمثلون الإسلام، أومعارضين كفارا ملحدين، واستحال الصراع السياسي المقبول، حربا دينية عنوانها الأوحد هوية الناس وعقيدتهم، الإسلام في مقابل الكفر. إن الهوية المختزلة، المقولبة، المفروضة والمسيسة، وحدت الإخوان ومن شايعهم، ولكنها شتتت المجتمع ومزقت الأمة، فقد صار الشيعة أنجاسا، يضربون ويقتلون ولا من مبالي، والأقباط كالأجانب في وطنهم، وقس على ذلك البهائيون، وحتى دعاة علمنة السياسة، صاروا كفارا وملحدين. فتحولت ميادين الاحتجاج السلمي إلى ساحات وغى حقيقي، يتقاتل فيها ملسمون صالحون وكفار مرتدون، والحال أنهم مصريون يقتلون مصريين، أنصار شرعية الصندوق الذباحون، وأنصار مشروعية الشارع المجرمون. قد جاء دور المصريين اليوم، بعد روواندا ويوغسلافيا والعراق وبورما، وغيرها من بؤر التوتر، ليشرحوا للعالم الذي لا يفهم، أن استعمال الدين في السياسة، وفرض هوية وحيدة على الناس، سيدفع بمئات الآلاف إلى قتل مئات الآلاف، وسينتعش التحريض والكراهية والعنف، ولن يفهم أحد إلا متأخرا، أن تجنب ذلك ليس إلا بالالتفاف حول صيغة علمانية توافقية، تقول للناس أنتم لستم إخوانا مسلمون، أو مسيحيون، أو بهائيون، أو سلفيون، أو ملحدون، بل أنتم مصريون وكفى. إن فرض هوية واحدة، وقولبة الناس وفقها بالرغم من فسيفسائية هذه المجتمعات، التي خلقها كذلك الله تعالى لحكمة يعلمها، بأن جعلكم "شعوبا وقبائل لتعارفوا"، لجريمة كبرى ترتكب في حق الإنسانية، والأجيال الحالية الحالمة والقادمة، وعندما نرى اليوم، كيف يناصر هذه الجريمة سياسيون محترفون بارعون في الخطابة، على أناس بسطاء وساذجين، وكيف تحول دعاة الطائفية هؤلاء إلى زعماء سياسيين أقوياء، أو رموز إعلامية مؤثرة، نفهم كيف يمكن لهوية واحدة مفروضة، كالإسلام، أو طائفة ضيقة منه، كالتسنن أو التشيع، أن تعد المغدي الأول لكثير من الأعمال الوحشية. لقد كشف "أمارتيا كومار سن" أن التقسيم المتفرد للبشرية على أساس هوية مركزية، هو أكثر قابلية لإثارة المواجهات من عالم التصنيفات المتعددة والمتنوعة التي يتشكل منها العالم الذي نعيش فيه، فالاختزالية التي تنطوي عليها نظرية رفيعة كهذه يمكن أن تساهم مساهمة رئيسية في عنف السياسات الحقيرة، وتجعل العالم مكانا أكثر التهابا واضطرابا. وبالمقابل، فإن سلوك "جورا" في الأخير، بالاعتراف بانتماءات متعددة، وهوية تتألف من روافد كثيرة وتمتح من منابع عديدة لنفس الشخص، هدم الادعاء الكاذب على أننا جميعا متماثلون، ومكن من الأمل في بعث رسائل سلام من جديد، وإنقاذ البشرية من الضلال، فكيف يقول رسولنا "اختلاف أمتي رحمة"، وننكر ذلك في حياتنا العادية، كيف لا نرى أنفسنا أعضاء وفي نفس الوقت، لمجموعات متنوعة من الانتماءات، فكل إنسان له جنسية، مكان إقامة يسكنه، وأصل جغرافي يحن إليه، طبقة اجتماعية، انتماء سياسي، نشاط مهني، ميول أدبية، اهتمامات رياضية، ذوق موسيقي، التزامات اجتماعية، تمنح الشخص في النهاية هوية معينة، تعددية وجامعة، ومستقلة، ليس فيها ما يمكن أن يعلو على أخرى، أو أن يكون الهوية المتفردة، أو التصنيف الوحيد للمرء في المجتمع. إن إنسانيتنا المشتركة تتعرض لاعتداء وحشي شرس عندما تضيق الاختلافات بيننا، أو يفرَض علينا ذلك بالأحرى، إن الاعتقاد بهوية متفردة تجمعنا، وانتماء واحد يفرض علينا، لأكثر إثارة للشقاق من عالم متسع من التصنيفات المتعددة والمتنوعة. ولا أمل في تحقيق السلم إلا في في تعدد هوياتنا، التي تتقاطع كل منها عبر الأخرى، ومع كل البشرية بالضرورة في كثير من الزوايا. نهاية القرن الماضي تعرض العالم لقصف فكري، كان أبطاله متطرفون أمريكيون، عمدوا إلى اختلاق الصراع بين الناس، انطلاقا من خدعة كبرى ادعت انقسام العالم بل عمدت إلى تقسيمه إلى حضارات وفيدرالية أديان متنافسة أو متنافرة، وقد فرض علينا هذا المخادع انتماءا قسريا إلى حضارة إسلامية وكفى، وتلقف السياسيون المتعطشون إلى الحروب والمصالح هذه النظرية وعبدوا باسمها طريقا نحو حرب حضارية كبرى. وكان الهدف أن تخفي هذه النظرية حقائق يكاد ينفضح أمرها للعيان، من كون الصراعات الحالية والحروب الضروس ليست في الحقيقة سوى نتيجة تضارب مصالح القوى الكبرى أو عطش إلى مصادر الطاقة، أو سباق نحو المعادن النفيسة، ولكن الغطرسة الامبريالية واستخفافها بالشعوب، وهوس هذه الأخيرة بالملاحم وأوهام الانتصارات الجماعية، جعل صراعات الهوتو والتوتسي، والصرب والألبان، والتاميل والسيرلانكيين، والشيعة والسنة، أكثر من مجرد حرب بالوكالة، عندما تم إعادة تفسيرها بمفردات تاريخية متغطرسة، تتظاهر بالعمق في التحليل، وتستحضر ثراء التاريخ، وترى في هذه الصراعات، كل شيء، إلا دناءة وخسة وجور السياسات العالمية المعاصرة. إن النظرة والحكم المسبق على كل إنسان بانتمائه لحضارة ما، وفق هذا الحمق الهنتنتوني، يجعلنا نمارس ضحالة فكرية بتصور امرأة ريفية تقليدية في السعودية، والنساء الحضريات في تركيا، ضمن علبة خاصة واحدة، في مقابل حضارة أخرى، بمتدينيها وملحديها وتنوعها العقدي، وباختلافاتها الدينية من كاتوليك ومورمون وطائفة الآميش، كذلك ضمن علبة واحدة تقع على الطرف المقابل والمعادي. فهل نحن بصدد مشاهدة صراع عظيم للحضارات ؟ بين نموذج المرأة التركية الحضرية بجانب أختها الريفية البدوية السعودية من جهة باسم الحضارة الاسلامية، ضد نموذج تحالف الراهب الأرتودكسي اليوناني والممثلة السينمائية الأمريكية باسم الحضارة الغربية من جهة أخرى ؟ أو شيئا أكثر بساطة واعتيادية ممثلا في عطش النفس البشرية للسياسيين واللوبيات، وراء المصالح الآنية والدنيوية كالثروات والسلطة والتحكم. إن قصور نظرية الصراع الديني واضح، وتهافت فرضية الحرب الحضارية المحتومة جلي، لأنها حضارة إنسانية واحدة، والفضل في ذلك أن مجال الهوية الدينية لكل شخص في هذا العالم، لا يلغي كل نواحي الفهم والانتماءات الأخرى للانسان. ولأن الهوية اختيار وليست اكتشافا، فإنه لا يضير الإنسان في شيء أن يكون، وفي نفس الوقت، وعلى نفس الدرجة من الانتماء والولاء، مسلما، عربيا، أمازيغيا، مغربيا، عاشق لموسيقى محلية، يقرأ الروايات، حريص على رياضته الجماعية، يمارس مهنة الطب، كما أنه متفهم – على استحياء – لحقوق المثليين، وله انتماء سياسي وقناعات فكرية خاصة، ويرى فوق ذلك أن انتماءه الديني لا يغطي بالضرورة على بقية الانتماءات والاهتمامات الأخرى. وأن من حقه كفرد، أن يختار ويقرر أية قيم وانتماءات وأية أولويات يمكنه تقديمها في كل مناسبة، من دون أن يؤثر ذلك على عقيدته الاسلامية. أما إذا فرضت على الناس هوية واحدة، بقوة الإكراه التي يملكها السياسي الماكر، والطائفي الغادر، في ظروف يتوالى فيها قصف الإعلامي المحرض، وضرب الفقيه المسيس، لمستهلكين سذج، حالمين بالتمكين، وتواقين لنيل رضى الله، وفتح مبين، فالنتيجة كارثية لدى الطرفين، لدى من فرض الهوية والمراد إخضاعه، لأن شروط العنف قد توافرت، والوتر الحساس مستعد لالتقاط الإشارة، التي تجعل تجعل من لحم الأخ ودمه قربانا يقدم في معبد الله. إن الاصرار على الاشتراك في الانسانية جزء من مقاومتنا لأشكال العنف المرتقبة، المتربصة بالشعوب، وبأبناء الوطن الواحد، وبالاصرار نفسه، يتوجب على أبناء وطني رفض أي توجيه راديكالي للهوية، حتى لا تنزع وتقتصر على الدين فقط، فيتحول الناس فجأة إلى مجرد مسلمين وكفار، سفاحين أو ضحايا لمتعصبين لا يعرف القاتل منهم عن قتيله شيئا سوى ديانته، أو علمانيته. العنف في العراق، والعنف في سوريا، ولبنان، ومصر، وكل بؤر التوتر في العالم بالأمس واليوم، ينبغي أن يمثل الدرس الذي تستفيد منه الشعوب، لعل مستقبلا مشرقا يمكن تلمس خيوطه، بتعقل سياسيينا، وتريث شعوبنا، وتسامح فقهائنا، وحياد إعلامنا، وذلك قبل أن تسيل الدماء أنهارا، ويستحيل الغد خرابا ودمارا. الدين لله، والوطن للجميع.