بعد أن ظلت قضية الصحراء الغربية لسنوات عديدة خطا أحمرا، لا تطاله أقلام الإعلاميين والمثقفين المغاربة، كما ظلت شأنا يرتبط بقدسية الملك خاصة زمن الحسن الثاني الذي كانت شخصيته القوية تلقى بظلالها على كل شيء. اليوم وبعد صمت طويل أو على الأصح بعد تكميم أو تلحيم لتلك الأقلام، هاهي تنطلق في بعض المواقع الإلكترونية ووسائل الإعلام لمعالجة الصراع الصحراوي المغربي أحيانا من باب إلقاء اللوم على المخزن الذي ترى أنه فشل إلى حد الآن في دراسة هذا الملف، واضعة الكثير من التصورات والخلاصات والحلول وكأن هذه القضية شأنا مغربيا كغيرها من قضايا المملكة كالفساد وفشلّ " الديمقراطية" وإنتهاكات حقوق الإنسان إلى مشاكل الفقر والمخدرات وماشابه ذلك. "فتدبير ملف الصحراء الغربية" كما يريد الأشقاء المغاربة ليس بالأمر الهين، فهو لم ولن يدخل في سلم المشاكل المغربية أبدا، ومن الخطأ أن يتجاهل هؤلاء المتنورين بالذات جوهر المشكل كونه يتعلق بمسألة تصفية الإستعمار، ومطالبة شعب بأكمله بحقه في تقرير المصير والإستقلال الوطني، اليوم ضد الإحتلال المغربي تماما كما بالأمس ضد الإستعمار الإسباني. قد نشفع للبعض من الجيل الجديد من أبناء المغرب الذين روضوا منذ 1975 على الأطروحة المغربية التي لقنت له تلقينا مسيسا بدءا من خارطة المملكة "الجشعة" إلى عقدة العلم المغربي وصورة الملك المبسوطين بشكل مقزز في ساحات ومباني المدن الصحراوية المحتلة. على الرغم من أن هذا الجيل نفسه، هو جيل الفايسبوك والتواصل مع العالم الخارجي الذي- بلا شك - إكتشف هزلية الطرح المغربي وضعفه مقارنة مع ما يحصده الشعب الصحراوي بقيادة جبهة البوليساريو من تضامن عالمي إكتسح القارات، عبر دبلوماسية ثورية متواضعة لا تشتري ذمم الحكومات والأشخاص ولا تجيد فبركة اللوبيات المتخصصة ولاسياسة مسح الخطوات التي ينتهجها المغرب مسخرا لذلك أموالا طائلة لو سخرت لصالح المعوزين والمتسولين لديه، لأعطت للمملكة وجها أكثر إشراقا ونظافة. أرجع وأقول أن العديد من الأقلام المغربية لاتحاول طرح المشكل بشجاعة سياسية وإعلامية قادرة على تنوير الرأي المغربي المغيب الذي آن له الآوان أن يزاح عنه غربال يحجب شمس قضية تتربع بإمتياز منذ عقود على أجندة الأممالمتحدة والإتحاد الإفريقي والبرلمان الأوروبي وتمشي بوتيرة متصاعدة لتتبوأ كل مرة مكانتها اللائقة خاصة مع واقع حقوق الإنسان في المناطق المحتلة الذي يسفه النظام المغربي ويعود به عقودا إلى الوراء ليظل المغرب للأسف – موصوما بالإنتهاكات السافرة لحقوق الإنسان ضد الصحراويين، لكن ضد المغاربة أيضا، وكأن هذه المملكة محكوم عليها بالسؤدد على جماجم وعظام البشر، إنطلاقا من فلسفة القهر والذل والخنوع – أي أن لايرفع أحد رأسه أبدا وأن يظل يركع إلى أن يخر ساجدا لغير الله، يقبل يد حاكم لا يتلذذ إلا بدوس كرامة شعبه في القرن الواحد والعشرين. أقول إن بعض الأقلام تلوم المخزن على ضعفه وتعاطيه مع الملف الصحراوي، وتعالج نجاحات جبهة البوليساريو دبلوماسيا وإعلاميا وثقافيا، وتقوم بالمقارنات بين ما تحققه البوليساريو على هذه الأصعدة وما فشل فيه المغرب بوزرائه" المحنكين" " وديمقراطيته المبهرة" وأمواله الطائلة، وصولاته وجولاته في دول المعمورة، حيث لم تنج دولة او دويلة من زيارة مبعوثيه في حين ثبتت لوائح الدول المعترفة بالجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية RASD ، فالإعتراف حكم قانوني لايقبل التراجع الذي يستأنس به الإحتلال المغربي أحيانا، إلى الإنتشار الواسع لسفارات الجمهورية وتمثيلياتها عبر العالم رغم شحة الإمكانيات المادية، والتوجه الذي تسير بإتجاهه دول الشمال الأوروبي المطالبة بوقف إتفاقيات الشراكة الإقتصادية مع المغرب إلى حد المطالبة بالإعتراف بالجمهورية الصحراوية. هذا إذا ما نظرنا إلى حجم الإدانة للمغرب في مجال حقوق الإنسان والتي كان أخرها إشهار أمريكا لعصاها في وجه الحليف المدلل الذي أقام الدنيا ولم يقعدها متجاهلا أن العصا قد تنزل في أي وقت على رأسه وأن غدا لناظره لقريب. المهم، ما أريد التأكيد عليه كي لا يظل المثقفون والإعلاميون المغاربة في "غفلة مقصودةّ" عن واقع مر وحقيقي، أنه آن الآوان لطرح المشكل بموضوعية وبتجرد، فلماذا يخاف المغاربة الأحرار من نقاش قضية أقحموا فيها كطرف، وعليهم أن يبحثوا في جذورها التاريخية والسياسية والثقافية والإنسانية بعيدا عن التوريط أو الهامشية. إن نجاح الفعلل الصحراوي بقيادة جبهة البوليساريو يعود إلى عدة أسباب منها: 1- للشعب الصحراوي قضية، رسمت معالمها منذ بداية الستينات عندما أسس الفقيد سيدي محمد ابراهيم بصيري لفكر وطني صحراوي الذي لا تشوبه شائبة وعندما طرح التساؤل حول واقع شعب مشتت بدوي، مفقر، يتيه بحثا عن الكلأ وأرضه تختزن خيرات كثيرة لا يعرف قيمتها، مهوس بنزعة الجهاد في سبيل الله، يقارع الكفر أينما حل وأرتحل، فجاهد دفاعا عن حرمة الدين الإسلامي في الجزائر وموريتانيا والمغرب نفسه. 2- نمو الشعور الوطني الصحراوي بعد إستقلال دول الجوار، لينتبه الشعب الصحراوي إلى نفسه وإذا هو قبائل مشتتة لا تحدها حدود ولا يربطها كيان وهي ضحية الجهل والفقر المدقع. 3- تأسيس الحركة الجنينية كبداية للإطار السياسي الموعود الذي يلملم شتات الشعب الصحراوي ويؤسس بفكر وطني جامع، توج بإنتفاضة الزملة التاريخية (17 جوان 1970)، محددة القطيعة الأبدية مع الإستعمار الإسباني- فقد الزعيم بصيري، ولم يفقد الشعب الصحراوي خيط البداية نحو نقطة اللارجوع. 4- التمهيد لنقطة إنطلاق أخرى تكون أكثر حبكة، تؤسس للتواصل، وتعد للثوابت والمرجعيات المحكمة، بزعامة الشهيد الولي مصطفى السيد، الشاب الذكي الذي بدأ بالفعل حواراته من الجامعة المغربية كونها الأرض الخصبة للفكر الوطني المغربي، باحثا عن الدعم والمساندة لدى المغاربة الذين كانوا بين كماشة المخزن ومطارداته البوليسية والموت في مخابئه السرية، كان الكلام أنذاك عن الحرية مسا من الجنون، ورغم ذلك فتح نقاشا لازال الكثير من المغاربة الأحرار يتذكرونه أحيانا بموضوعية، تنصف الشاب الوطني ذي النظرة الثاقبة حول مصير شعب، وأحيانا بنظرة ظالمة تقوقعه أسفا في سياق مغربي محض لم يكن هو منحاه أبدا. 5- تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهبF.POLISARIO وإندلاع الكفاح المسلح أي بعد 10 أيام فقط من تأسيس الحركة عام 1973 واضعا نقطة الإنطلاق الأبدي نحو تقرير المصير والإستقلال الوطني، لتجسد ذلك الشهيد البشير لحلاوي بدمه الطاهر مؤكدا أن ما أخذ بالقوة لايسترد إلا بها. 6- إعلان الشهيد الولي مصطفى السيد عن ميلاد الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية في 27/2/1976 ككيان يجمع عليه كل الصحراويين على إختلاف منبتهم وفكرهم وتواجدهم، رغبة منهم في تزكية الوحدة الوطنية التي أعلنوها في 12 اكتوبر 1975 على أنقاض هياكل قبلية هشة ومتمصلحة دجنها الإستعمار الإسباني حماية لمصالحه، هذه الوحدة هي قسم كل الصحراويين وضمانة وجودهم وهي منبع فخرهم ومدعاة تميزهم وسر هويتهم رأس حريتهم في حرب الوجود. 7- النضال المستميت وطنيا وعالميا في ظروف معقدة وصعبة من أجل: أ- البناء الفعلي للدولة الصحراوية كحقيقة لا رجعة فيها، وليست " الدولة الوهمية" كما يدعي النظام المغربي أمام رأيه، هي اليوم دولة مؤسسات قد تكون ضعيفة لا ترقى إلى المستوى المطلوب، دولة في واقع الحرب العسكرية بالأمس، وواقع الحرب الإعلامية والتقنية والأمنية لكنها لم تركع أمام كل المحاولات المغربية المدمرة، إنها لاتزال بخير والحمد لله، وهي من أكبر الرهانات السياسية والأمنية في شمال إفريقيا وبدونها لن تقوم قائمة للحلم المغاربي المنشود، دولة علمت وكونت وارتقت بالإنسان الصحراوي إلى مصاف البشر المحترم والذي يطرح له كم من حساب، نموذج في الديمقراطية وحرية التعبير وترقية المرأة، تشمخ رغم الإحتياج والمصاعب وتعطي للصحراويين أحقية الحلم بدولة مستقلة الكل مطالب بصياغة شكلها وعمقها. ب- تعزيز إنتفاضة الإستقلال المباركة في الأرض المحتلة، حيث تسقط كل رهانات الإحتلال المغربي الذي لم يستوعب بعد سيكولوجية المقاومة السلمية هناك، هؤلاء الأطفال في الروض والمدارس والثانويات ثم شباب الجامعات، ألم يولدوا تحت العلم المغربي؟ أليسوا هم اليوم من أهم الفاعلين السلميين؟ إنه لمن الغباوة بمكان عدم إستلهام العبر والرسائل من هذا وحده. هؤلاء الأطفال ليسوا جيل البوليساريو، لكنهم جيل التواصل الذي يصنع الإستمرارية، فالقضية ليست قضية أشخاص بعينهم أو تنظيم بعينه بقدر ماهي قضية شعب لن يتراجع عنها مهما كانت رهانات المحتل ومناوراته وضغوطاته. ج- توسيع قاعدة التحالف العالمية من مبدأ الإقناع بشرعية القضية الصحراوية وإحترام حق الشعوب في تقرير مصيرها، إضافة إلى توصيل شكل ومنهاج الدولة الصحراوية المستقبلية من منطلق تأثيرها غدا كبوابة جيوسياسية هامة لها مقومات العلاقات الدولية المحترمة( نظام ديمقراطي، إقتصاد حر، حضور أمني واعد...الخ). بهذا أريد أن أختم داعية كل المحللين والإعلاميين والمثقفين المغاربة إلى الطرح الناضج والموضوعي لهذه القضية التي يجب أن يعالجوها من بابها الصحيح والواضح وأن لايراهنوا على مطامع وأحلام نظام قد يزول بين اللحظة والأخرى، نظام لم يشركهم عندما بدأ اللعبة فأتركوه" إفكها بسنيه" أو إنصحوه للصواب، راهنوا على شعب شقيق وجار يتقاسم معكم أواصر التاريخ واللغة والثقافة، قادرا على أن يرسم معكم ومع شعوب المغرب العربي فسيفساء رائعة للتكامل والإحترام والمحبة، راهنوا على مستقبل وضاء لأبناء مغرب حر كريم لايتعدى على حرمات الغير ولايسفك دم المضطهدين، مغرب بلا زنازن ولا محاكم صورية، مغرب لايسوده الخوف ولا هواجس المتابعات والتحقيقات، مغرب الحضارة والتنوع والتنمية المستدامة. * خديجة حمدي هي وزيرة الثقافة في حكومة "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية"، وزوجة محمد عبد العزيز زعيم "البزليساريو"