اتسم تاريخ البشرية مند أول ظهور للإنسان على كوكب الأرض بطابع الصراع الوجودي حول الذات البشرية كمعطى طبيعي أصيل من مميزاته أنه كائن حر بالطبيعة من كل التضييقات والسجون والامتلاك مثله مثل الطير والدواب والأشجار والنباتات . حتى أتى حين من الدهر, فانقض البشر بعضهم على بعض ليس بدافع التملك والهيمنة فقط ولكن أيضا تمثيلا لتعاليم الميتافيزيقا التي أنتجها الاجتماع البشري على مر العصور لكي تتم مصادرة الجِبلة الأصلية للإنسان التي هي الحرية الطبيعية على حساب العبودية الغير طبيعية. في البدء كانت الحرية , وكان الانسان مخلوقا حرا بالطبيعة مجبول عليها بالفطرة يتنفسها هواء نقيا ويستشعرها وجودا روحانيا قبل أن يسفكها دما ملوثا. كان مفكرو العصور الوسطى - كما ذكر لنا " إتين ذي لا بويسيه" في تحفته الأدبية " مقالة في العبودية المختارة " - حائرون إزاء اندثار الدولة الرومانية وظهور دول جديدة تؤسس لقانون الدولة عوض قانون الانسان. فكان المخرج أن فرق القديس توماس الأكويني بين القانون الطبيعي والقانون الوضعي : الأول هو القانون الذي غرسته الطبيعة في جميع المخلوقات بينما الثاني هو القانون الذي بموجبه يتم استلاب الحرية الطبيعية وهكذا بدأت الحروب. لقد ثم خرق قوانين الطبيعة التي تضخم الذات الانسانية الحرة من طرف قوانين وضعها البشر أنفسهم وجعلوا لهم أصناما يعبدونها فحطوا من وجوديتهم على حساب تضخيم وجود غيرهم . هؤلاء المحتالون على الحرية الطبيعية للبشر هم ثلاثة أصناف: رجال الدين والحكام والشعوب المستعبَدة. عندما حاول الانسان التعقل وممارسة اختياراته العقائدية وتفسير الظواهر الطبيعية حوله, ظهر رجال الدين منذ ظهور الحضارات القديمة وقبل بروز الديانات التوحيدية وهم فئة تدعي القول باسم الله أو الخالق أو المعبود وهي وحدها القادرة على فك ألغاز الرسائل الالهية المشفرة التي يستعصي على العامة فهمها. لكن ومع بروز هذه الفئة كمؤسسة دينية خصوصا مع مجيء النصوص المقدسة كقيم مؤسساتية مؤطرة للوجود الانساني العام , انفردت هذه المؤسسات التمثيلية للتدين باحتكار الفهم الجمعي عبر تفسير النصوص المقدسة وإضفاء طابع الذاتي التاريخي عليها. فالأحبار والباباوات والفقهاء والحاخامات أنتجوا موروثا ثقيلا مجانبا لتعاليم النصوص المقدسة الأصلية سواء عبر التحريف المتعمد أو التنصيص السياسي ومن تمى تحول الانسان كمعطى جوهري في الديانات النقية إلى الانسان كمعطى ثانوي في الديانات التحويلية التي انتجتها المؤسسة الدينية. هنا بالتحديد استلبت الحرية الانسانية وتحولت من الوضع الطبيعي لها إلى الوضع المستحدث المشروط بالتأويلات الكهنوتية التي استنطقت النص المقدس من أجل امتلاك سلطته وجعلت من الانسان عبدا مملوكا ورعية تُرعى. لقد بين تاريخ الحروب الأهلية أن السلطة السياسية أو سلطة الحكام بتعبير أدق كانت وراء نشوب معظم ثورات الشعوب ضد ظلم الحكام الذين كانوا يستغلون سلطة الحكم من أجل استعباد الشعوب وامتلاك خيراتهم واستغلال أراضيهم وغالبا ما كانت هذه العملية تتم بدعم من المؤسسة الدينية أو بتواطؤ معها. فقد حدث أن اجتمع الفقهاء في الاسلام مع السلطة السياسية بطلب منهم أو بإنشاء من الحكام أنفسهم حتى ظهر علم الآداب السلطانية كنافدة فقهية تشرعن السلطة كوسيلة للخضوع الاجباري من طرف الجماعة. لذلك اجتمعت سلطة القوة بسلطة النص التاريخي من أجل كبح جماح تلك الحرية التي ستجعل الناس يثورون على الحكام الذين يحكمون باسم القوة و باسم الله ولا يحكمون بشرائع الله. لذلك فقد نُظر إلى الانشقاقات السياسية التي عرفها تاريخ السلطة الاسلامية على أنها خروج عن الشرع وعن الأصل الذي انتجته المؤسسة الفقهية وجعلت كل خارج عنه مذنبا وجب عقابه وتجريم فعله. وبالمثل , اتحد الإكليروس و الكنيسة مع الحكام المدنيين في أوروبا مند القرن الثاني عشر وامتلكت حق الحكم وحق الغفران عن طريق بيع الصكوك حتى أتى الأمير هنري الثامن الذي خرق القواعد واستولى على الكنيسة وممتلكاتها ونصب نفسه ملكا للكنيسة أيضا. الحرية اذن تستلب باسم الله كما تستلب بقوة السلطة السياسية وتبلغ أشد استلابا حين تجتمع السلطتان معا , سلطة الدين والسياسة حينها تظهر العبودية والرق والحروب والاستبداد وكل أشكال الاحتيالات ضد حرية الانسان في الوجود والتفكير والإحساس والإيمان والكفر والاستقلالية. لكن تبلغ عملية الاحتيال على الحرية الطبيعية للبشر مبلغا معقدا وغريبا حينما تصدر طوعيا من طرف البشر انفسهم حيت يقتادون للعبودية فرادى وجماعات بملء ارادتهم بل يعملون ويجاهرون من أجل استمرار انقيادهم للطواغيت والمستبدين. ويعزي " دي لابوسيه" ذلك إلى إرادة العبودية التي غرسها الطغاة في عقول الناس حتى صارت محبة الحرية نفسها تبدو اليوم كأنها شيء لا يمت إلى الطبيعة بسبب , كالجياد الحرة التي ما ان يستدرجها الفارس تحت السرج وتحمل رحالها حتى تقول أنها كانت في البدء ملكا لمالكها وأن آباءها عاشت كذلك. والحق أن الطاغية - كما يستطرد ذي لابوسيه - لا يملك من السلطان إلا ما أعطوه (الشعوب) ولا من القدرة على الأذى إلا بقدر احتمالهم الأذى منه , ولا كان يستطيع انزال الشر بهم لولا ايثارهم الصبر عليه بدل مواجهته. عودة للحرية اذن , إلى الأصل الطبيعي للإنسان الذي فُطر به أول الأمر بدون قيود ولا خضوع لأحد بل لصوت العقل والطبيعة وكفى. ذلك أن تحرر الإنسان معطى وجودي تلقائي به يتحقق الإبداع والرقي الانساني وبه تبنى الحضارات الانسانية على أساس احترام حرية الانسان ووجوده وعقله, لنعد اذن والعود جميل وكما يقول شاعر الحرية أبو القاسم الشابي: كذا صاغك الله يا ابن الوجود وألقتك في الكون هذي الحياه فمالك ترضى بذلّ القيود و تحني لمن كبّلوك الجباه ألا انهض و سر في سبيل الحياة فمن نام لم تنتظره الحياه و لا تخشى ممّا وراء التّلاع فما ثمّ إلاّ الضّحى في صباه و إلاّ ربيع الوجود الغرير يطرّز بالورد ضافي رداه و إلاّ أريج الزّهور الصّباح و رقص الأشعّة بين المياه و إلاّ حمام المروج الأنيق يغرّد منطلقا في غناه إلى النّور فالنّور عذب جميل إلى النّور فالنّور ظلّ الإله.