على مدار عمر البشرية عرف الانسان ظواهر طبيعية و غير طبيعية كثيرة من بينها ظاهرة الاوبئة التي تهجم كالأشباح مخفية و شفافة ,وتنتشر كالرياح العاتية لا يوقفها و لا يصدها حاجز او رادع,كالطاعون وأنفلونزا الخنازير. اوبئة على اختلاف و تعدد المسببات و الظروف المحفزة لها لكنها تتشابه في الاثر الذي تحدثه , تثير الذعر والهلع و تحصد ارواح اعداد هائلة من البشر , تخلق نفس الحالة من عدم الامان و الرعب والخوف المهزوم لدى الكبار و الصغار وتوقظ شعورهم بالعجز و الضعف امام عدو جبار و فتاك لا حيلة لنا معه سوى الدعاء والتذرع الى الله مهما بلغ تطور العلم و جبروت الانسان كل هذه الاوبئة كانت تصيب الجسد,لم نسمع يوما عن وباء اصاب نفوس البشر , يسمم الاحساس و يفتك بالعقول ,هذا النوع من الاوبئة ,كوباء الاكتئاب,النفاق ,السلبية موجود و محسوس ولكن لا يستوقف او يسترعي انتباه الناس او يستفز احساسهم كالنوع الاخر , هذه الاوبئة ان وجدت لا تحرك اهتمام الناس ولا تقلق مضجعهم مهما استوغلت و استشرت في القلوب والخواطر تظل مسكوت عنها لا بل يتعايش الانسان ويتألف معها ويستأنس ويتكيف مع وجودها لا يستنفر الانسان ولا يروعه إلا ما يهدد حياته نفسها وليس مستواها و جودتها ,المهم ان يعيش حتى لو حياة مشوهة او ملوثة او مخنوقة. عصرنا الحالي لا يخلو من اوبئة جسدية و نفسية منها وباء الخوف, نعم وباء الخوف لا اجد اصوب و ادق من ذلك التوصيف , ليس تشويها للواقع او نظرة سوداوية او حتى من باب الفلسفة وإنما مجرد رصد عادي لمظاهر وسلوكيات من صميم حياتنا. كثير من الناس في مجتمعنا يحركهم الخوف ويستوطن دواخلهم ويشكل المحرك السري و الدافع الخفي في كواليس النفس كما لو انه ساحر يحرك الانسان بعد ان ينومه مغناطيسيا, لانراه و لا نلمسه و لكن نحسه ,كالجن الذي يسكن البدن و يتحكم به دون وعي منه او ادراك و يسلبه ارادته و تحكمه في نفسه , الخوف هو القفص الذي يسجن رغباتنا و ملامحنا و يكبل جوارحنا فيجعل المرء اشبه بسجين يتحرك داخل سجنه يتعامل مع الاخرين و لكن من وراء جدار زنزانة. كم من الفتيات يقدمن على الزواج لمجرد الخوف من العنوسة,, من نظرة الاخر من احتقار و استهداف المجتمع الذي يرى فريسة سهلة و هدفا مناسبا لسهامه فيمهلها مدة لتحصل على حماية و الا صارت صيدا مستباحا للتهجم عليه بكل انواع القذائف فيأتي الزواج مجرد وسيلة دفاع , غطاء و مخبئ يردع عنها سهام و هجمات الاخرين, جحر تختبئ فيه و تامن فيه من شر و عنف المجتمع, شرنقة تحتمي داخلها من قساوة و خبث العالم الخارجي و ليس هدف في حد ذاته . كذلك هناك من الناس من يبحثون عن النجاح و التفوق و الوصول الى اعلى و ارفع المراكز او تكوين ثروة طائلة باي شكل او وسيلة ليس طموحا او رغبة في تحقيق الذات او لإعطاء معنى للحياة و انما خوفا من الضعف و الهوان و سعيا لاكتساب حماية من اي خطر او تهديد و النجاح المتمثل في المال او السلطة او الشهادات ما هو إلا سلاح للدفاع عن النفس ورحلة الانسان للوصول لهذا النجاح ليس بحثا عن شيء بقدر ما هو انصياع للخوف وهروب من الخطر بأشكاله و انواعه كتقلبات الزمن و ظلم الاخرين. احيانا يكون فعل الخير نفسه مبعثه ليس طيبة او احسانا او تعاطفا مع المحتاج او تنفيذا لوصايا الدين و التزاما بمبادئ و معاني نبيلة و انما اتقاء شر الاخرين و رغبة في تفادي وتجنب لعناتهم و نيران حسدهم لذا كثير من الناس تقوم بما يسمى ب"الصدقة" عقب أي حدث سعيد لكي يسلموا من ويلات العين الحسود و ليس ايمانا منهم بقيمة الاحسان و مراعاة لظروف الفقراء و المساكين او حبا في افراحهم وإنما خشية منهم . حتى في الحياة الاجتماعية اليومية صار الانسان اشبه بصندوق محكم الغلق سميك الجدار و المجتمع بجميع فئاته عبارة عن صناديق و علب تتعامل مع بعضها من وراء جدران عالية و غليظة نختبئ وراءها حيث كل فرد يخفي دواخله حتى عن اقرب الناس اليه, يداري خوفه و نقط ضعفه , عقده و لحظات انكساره ,مشاعره و حتى اراءه و انطباعاته ازاء من يتعامل معهم ولا يفصح عنها الا على استحياء و تعنث, كل هذا لمجرد الخشية من نظرة الاخر و احكامه فالانسان يتظاهر بالقوة في عز ضعفه و المعرفة بكل شيء رغم جهله و يدعي المثالية والكمال رغم نواقصه خوفا من انتقاص الناس لقيمته . حتى المنافق قد ننتقده و ندينه ولكن قد نعذره في نفس الوقت و نتعاطف معه لان نفاقه نابع من الخوف ان يظهر حقيقته فكثير منا يتظاهر و يتصنع حب او كره شيء لمجرد الخوف من نقمة الناس فيفضل عدم السباحة ضد التيار و يتظاهر بغير طبيعته مجاراة لعادات و مفاهيم لا يؤمن بها خوفا من ان ينبذ و يعزل و ينظر اليه نظرة عنصرية منتقدة و مستغربة كم منا يبتاعون اغراضا غالية كالهاتف المحمول و يحرصون على شراء اغلى و احدث النماذج ليس رغبة فيها او احتياجا لها وانما انصياعا و اتباعا لمعايير التقييم الاجتماعي وخوفا من موقف الاخر . هذا ما قد يجعل الانسان منفصم الشخصية يرضي الناس في العلن و يرضي نفسه في الخفاء , يتظاهر بالعفة و الاحترام و الاستقامة ليس عن قناعة و ايمان و انما ارضاء لمحيطه و خوفا منهم ويقوم بما يحلو له في الخفاء و لا يطلق العنان لنفسه و نوازعه الا مختبئا و متجردا من مخاوفه كثير من المرات و انا اشاهد افلاما و ثائقية تحكي السير الذاتية للعلماء العباقرة العرب لاحظت ان اغلبهم تعرض في بداياته و احيانا على طول حياته للنبذ و الهجوم و نقمة مجتمعاتهم لا لشيء الا لانهم اتوا بما هو غريب عن ثقافتهم و عاداتهم و حلموا بما هو مغاير لواقعهم فما كان من امتهم إلا ان ترفضهم و تلعنهم خوفا من المجهول بغض النضر عن فائدته او ضرره دون تفكير او تحليل تمر الاجيال و الايام و يبقى الانسان كما هو حبيس الخوف الاعمى يخشى مالا يعرفه خيرا او شرا و يرضى بما يعرفه خيرا او شرا يفضل البقاء في مكانه بدل التقدم الى الامام خشية التعثر و الاخفاق و اختبار معنى الحياة ,يقنع و يستسلم لظلم صغير خوفا من ظلم اكبر يستكين لقانون الجماعة و يرتضي ان يحشر نفسه في قطيع يريح خوفه, يقنع لكونه نسخة مكررة باهتة اللون تستنسخ الماضي بكل ما فيه بدل ان يكون اصليا و حقيقيا, ان يكون ,ظلا, شفافا دون لون او طعم ,مجرد صدى لأصوات الاخرين. حتى العبادات كثير منا يطبقها بمنطق الخوف دون فهم او دراية لكونه يخشى العقاب و ليس اقتناعا او ادراكا لمغزى وهدف و خصوصية كل عبادة , كذالك القانون نحترمه و نخضع له خوفا من العقاب و ليس ايمانا بقدسية القانون و معناه كمثل السائق الذي يخفض سرعته ليس بوازع الالتزام و الاحترام الداخلي و التلقائي للقانون وإنما خوفا و رهبة من غرامة او اجراء يضره الحلم نفسه صار مصدر خوف, صرنا نخشى ان نحلم و نبتكر و نجدد, ان نسلك دربا جديدا و مختلفا عما هو سائد و نفضل ان ننهج صراطا معبدا و مألوفا و مضمونا بدل ان نجرب و نختبر و نعبر عن احلامنا و هواياتنا ونوسع افاقنا كم منا كبث احلامه و طموحاته و ميوله خوفا من المجهول او الفشل خوفا من التجربة و استسهل ان يكون تابعا لخطوات غيره . مهما اختلفت المواقف و المظاهر فالداء واحد كل منا يهرب منه و يتجنبه بطريقة مختلفة و يحمي نفسه بشكل منفرد و مغاير اما بالمال والنفاق او السلطة او التبعية.. مهما كبرنا و زاد رصيدنا من السنين و مهما صارت احجام اجسادنا نضل اطفالا نخاف من الوحوش الوهمية الغير موجودة و تنبت بذور الخوف فينا و تكبر معنا و تتجذر فينا فنصير نخاف من" بوعو" الكبار . مهما نجح الانسان و مهما جمع المال او وصل الى سلطة او انجب اولادا فنجاحه لامعنى له مادام وليد خوف و مادام الانسان عبدا سجينا لخوفه و معركته الحقيقية في الحياة هي تغلبه على المارد الذي يسكنه و يستعبده عند ذلك ينتصر الانسان و يخرج للحياة حرا طليقا .