إنّ محاولة تسليط الضوء على الإدارة نابع أساسا من دورها البارز ومكانتها الوازنة في كسب رهان التنمية في بلادنا، باعتبارها الأداة المعتمدة لتنزيل السياسات العمومية في مختلف القطاعات الوزارية، وكذا محركا أساسيا لتنفيذ مختلف مشاريع التنمية بتعاون مع القطاع الخاص والجماعات الترابية، إلا أن هذه المكانة الهامة التي تتمتع بها الإدارة على المستوى النظري؛ تعتريها واقعيا مجموعة من الإشكالات حولتها إلى معيق بنيوي لأي تنمية منشودة وعاملا أساسيا في إضعاف الجهود التنموية المبذولة على الصعيد الوطني والجهوي. سبق للبنك الدولي في تقريره الشهير لسنة 1995 أن حمّل الإدارة المغربية قسطا وافرا من المسؤولية عن تقويض فرص التنمية ببلادنا، وبخلاف الأسلوب المباشر الذي تميز به تقرير" السكتة القلبية" بتعبير الملك الراحل الحسن الثاني، نجد أن تقرير النموذج التنموي الجديد استحضر الإدارة وأعطابها والوظائف المنوطة بها لإنجاح رهاناته الكبرى في محور مقتضب و في إشارات متناثرة ومتفرقة، فكيف شخّص تقرير النموذج التنموي الجديد واقع الإدارة المغربية وتأثيره على التنمية ؟ وكيف اقترح تحويلها إلى رافعة من رافعات التغيير ؟ * تشخيص الواقع: الإدارة عنصر معيق للتنمية. دون أن يضع عنوانا مستقلا تضَّمن تقرير النموذج التنموي إشارات متفرقة لواقع الإدارة المغربية في علاقتها بالنموذج التنموي، باعتبارها إحدى معيقات وكوابح التنمية في بلادنا، محاولا بذلك تشخيص وضعيتها الراهنة ووضع الأصبع على مكامن الخلل التي كانت ولا زالت تعد عاملا رئيسيا في فشل مجموعة من البرامج الإصلاحية بمختلف القطاعات العمومية، الأمر الذي أدى بحسب التقرير الرسمي إلى تسجيل " إحباطات عميقة ومغذية لأجواء أزمة ثقة في الفعل العمومي وإزاء الدولة"، وقد عزى التقرير المسؤولية التقصيرية للإدارة المغربية إزّاء استحقاقات التنمية للعوامل التالية: * ضعف الحسّ الأخلاقي وقيم النزاهة لدى المكلفين بتدبير الشأن العام؛ * ضعف روح المبادرة لدى الموظفين، وذلك في ظل ثقافة سائدة لا تعترف بالاجتهاد ولا المبادرة ولا الحق في الخطأ؛ * طغيان ثقافة الامتثال بدل ثقافة الريادة وحسن الأداء، الأمر الذي يحول دون الإنتاج التلقائي للأفكار والمشاريع؛ * غياب رؤية إصلاحية استراتيجية وشاملة من شأنها وضع تصور إصلاحي للإدارة المغربية وفق مقاربة إدماجية تنظر للإدارة كوحدة وليس كقطاعات؛ * تشتت وتعدد وضعف منظومات تدبير الموارد البشرية المعمول بها والتي ترتكز على الأقدمية؛ * ضعف التزام المسؤولين بأدوارهم الإصلاحية ؛ * غياب الوسائل والآليات الضرورية لتنفيذ السياسات العمومية؛ من خلال ما سبق من مقاربات يتضح جليّا على أن التشخيص الذي جاء به تقرير النموذج التنموي للإدارة المغربية تحلى بالواقعية، على اعتبار أن الإدارة المغربية لا تنقصها الإمكانات سواء القانونية أو المادية والبشرية، وإنما المشكل الأساسي يَكْمُنُ في ضعف استغلال واستثمار هذه الإمكانات الهامة بما يخدم المصلحة العامة، بعيدا عن منطق الولاءات والعلاقات الزبونية والمصالح الشخصية، مما يعيدنا دائما إلى موضوع ضعف الأخلاقيات بالمرفق العام وضعف التحلي بقيم وأخلاق و"عقل الدولة" لدى الكثير من مسؤولي الإدارة العمومية وموظفيها، الذين ينظرون للمنصب الإداري على أنه غنيمة ينبغي استغلاله في تحقيق المصالح الشخصية قدر المستطاع؛ ولا يتمثلونه كتكليف ومسؤولية يجب أن يُسهموا من خلالها في تجويد الفعل العمومي لربح معركة التنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلاد . وبذلك، فإن مظاهر ضعف أخلاقيات المرفق العمومي كما تضمنها التقرير ويعيشها الحقل الإداري المغربي، هي من الأسباب الرئيسية التي أدت لفقدان الثقة في الإدارة من طرف المرتفق، وقد استعمل التقرير بهذا الخصوص لغة صريحة ومؤلمة للغاية كانت بمثابة إنذار لعمق الأزمة، وبالأخص عندما تحدث عن تشكل قناعة لدى الموطن مفادها أن "الإدارة والقطاعات والمرافق العمومية لم تعد تؤدي وظيفتها، مولدة بذلك إحباطات عميقة ومغذية لأجواء عدم الثقة في الفعل العمومي وإزاء الدولة". وقد تشكلت هذه الحالة المقلقة من انعدام الثقة في الدولة ومؤسساتها بفعل تراكم سلوكيات لا تمت بصلة بأخلاقيات المرفق العمومي، تصدر بشكل يومي عن فئات عريضة من الموظفين العموميين الذين تغيب عنهم وبشكل غريب حقيقة أن الإدارة وجدت أساسا من أجل خدمة المواطن وفق القانون وتبعا للاختصاصات والصلاحيات المخولة لها، ضمن معايير الجودة والشفافية والمحاسبة والمسؤولية المؤسسَة على القيم التدبيرية الفضلى للمرفق العمومي والتي أقرها الدستور المغربي وفي مقدمتها : المساواة والإنصاف والاستمرارية وتكافؤ الفرص . ب-المقترحات : نحو إدارة رافعة للتغيير. مع تنامي التطلعات والاحتياجات المجتمعية والتطورات المطردة التي تعرفها بلادنا على عدة مستويات، أضحت الحاجة ملحة لاستئناف تأهيل إدارة مغربية قادرة على مواجهة التحديات الآنية والمستقبلية، وفق رؤية شمولية ونظرة استشرافية ، في ظل تحديات العولمة الرقمية ومستجدات الطوارئ الصحية لجائحة كوفيد -19 وتوابعها، وبذلك عمل واضعو تقرير "النموذج التنموي الجديد" على صوغ معالم خطة لتطوير الإدارة المغربية على النحو الذي تصبح فيه دعامة أساسية لتنفيذ التصور الإصلاحي المتضمن في مشروع النموذج الجديد للتنمية بالمغرب، و ذلك وفق مداخل تضع المواطن في صلب اهتمامات الجهاز الإداري، من خلال الانفتاح عليه أكثر وفق استراتيجية تواصلية- تشاركية تنطلق من الرغبة في التعرف على حاجياته الأساسية في مختلف المجالات ثم إشراكه في وضع البرامج والسياسات العمومية. وبهذا الخصوص أكد التقرير على ضرورة الحرص على حسن الاستجابة لمتطلبات المواطن بالفعالية والسرعة اللازمتين، من خلال التحول من إدارة متعالية على محيطها منغمسة في سلطويتها إلى إدارة مواطنة همّها خدمة المواطن، وهو ما عبّر عنه التقرير بضرورة "تطوير نظرة الإدارة للمواطن، من شخص خاضع للإدارة إلى مرتفق ملزم بالضريبة يستحق خدمة ذات جودة" ويستلزم نجاح هذا المسار ما يلي : * الانخراط أكثر في عصرنة الإدارة ورقمنتها بشكل كامل، على النحو الذي يُمكّن من توظيفها في عمليات التتبع والتقييم وقياس جودة الخدمات المقدمة للمرتفق، كما دعا التقرير إلى تطوير وإحداث المزيد من المنصات الرقمية لتشمل جميع الخدمات المقدمة للمواطنين ؛ * الحرص على توفر الإدارة على كفاءات تتحمل المسؤولية ويراعي عملها حسن الأداء وتحقيق النتائج على النحو الذي يضمن بقاء الجهاز الإداري بعيدا عن منطق الانتماء الحزبي؛ * التجديد المنتظم لمسؤولي الوظيفة العمومية العليا على المستويين الوطني والمحلي مع فتح مجال للمبادرة دون أن تكون مقيدة بهاجس الخوف من المخاطر والمعاقبة ؛ * تبسيط المساطر الإدارية والإجراءات اللازمة للحصول على الخدمة الإدارية؛ * الاهتمام بعملية التواصل مع المواطن قصد إضفاء شفافية أكبر على تدخلات الإدارة؛ * تعزيز الشفافية وتيسير الولوج للمعطيات والمعلومات ذات الصلة بالشأن العام؛ * تمتيع المواطن بحق التظلم في حالة نزاع أو عدم الرضا عن الخدمات التي تقدمها الإدارة؛ * تمتيع المواطن ووسائل الإعلام والمجتمع المدني بالحق في الحصول على المعلومات وتيسير عملية الولوج للخدمات الإدارية . وعلاوة على ما ورد في التقرير، نرى أن مسار جعل الإدارة المغربية رافعة للتغيير وقائدة للإصلاح الاقتصادي والاجتماعي يتطلب تنفيذ مجموعة من الإصلاحات : * تحيين النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية ليقدم من جهة ضمانات تشكل حافزا للموارد البشرية في النهوض بمهامها بكل جدية ومسؤولية، ويؤسس من جهة أخرى لزواجر رادعة للسلوكيات المشينة التي تسيئ للإدارة الوطنية، وهو ما سيسهم في إرساء وظيفة عمومية مهنية ناجعة ومحفزة، ويضمن كذلك الانتقال من نموذج إداري قائم على تدبير المسارات إلى نموذج مؤسس على تدبير الكفاءات بما يحقق الانسجام مع مضامين النموذج التنموي الجديد ؛ * وضع قانون خاص باستغلال الإمكانات المادية والمالية الموضوعة رهن إشارة الإدارات العمومية ينص بشكل حصري على مجالات وأشكال الاستغلال التي يجب أن تُحددها طبيعة المهام المسندة، مع الحرص على تطبيقه بشكل صارم؛ * فرض التصريح الإجباري بالممتلكات على كل موظفي الإدارات العمومية وعلى أزواجهم وأبنائهم، طيلة مسارهم الإداري، تخليقا للحياة العامة وتكريسا لمبادئ المحاسبة وحماية المال العام وقيم الاستقامة والنزاهة ؛ * إصلاح منظومة الأجور وإعادة النظر فيها باعتماد مبدأ المساواة والحد من الفوارق الشاسعة في الأجور بين القطاعات الوزارية تحقيقا للأمن الوظيفي والعدالة ؛ * تعزيز الضمانات القانونية والقضائية لحماية الموظف من التعسف الإداري وذلك بدعم استقلالية القضاء الإداري وفرض تنفيذ الأحكام القضائية النهائية الصادرة ضد الإدارة؛ -تفعيل دور مؤسسات الحكامة الجيدة وأخص بالذكر: مؤسسة الوسيط والمجلس الوطني لحقوق الإنسان والهيأة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة، المجلس الأعلى للحسابات في ترسيخ سيادة القانون وإشاعة مبادئ العدل والإنصاف وقيم التخليق والشفافية والمحاسبة وذلك بمنح هذه المؤسسات الهامة المزيد من الآليات والضمانات التي من شأنها وضع حدّ لكل الخروقات والتجاوزات في المجال الإداري؛ – دعم ثقافة سيادة القانون والمواطنة وحقوق الإنسان عبر القيام ببرامج وحملات تحسيسية عن طريق الإعلام والصحافة، والعمل أكثر على تدعيمها لدى الناشئة -مسؤولي وموظفي ومرتفقي الغد -من خلال تقوية حضورها بالمناهج التربوية والتعليمية. وإذا كانت هذه المقترحات ترتبط بشكل العام "بالماكرو" أي بالمجال القانوني والإداري العام على الصعيد الوطني، فإنه يتعين على مسؤولي الوظيفة العمومية على صعيد "الميكرو" أي ضمن بنية الإدارة الداخلية تحمل مسؤوليتهم في الاستثمار الأمثل للإمكانات البشرية الموضوعة رهن إشارة الجهاز الإداري الذي يترأسونه، وذلك بالعمل على تطوير منظومة تدبيرها وتأهيلها لمواكبة التحولات الاقتصادية والاجتماعية المتسارعة وطنيا ودوليا، بما يضمن تطوير المرفق العمومي والرفع من مستوى أدائه وتعزيز قدراته في تنفيذ البرنامج التنموي الجديد وكسب ثقة المواطن فيه، وهذه الأخلاقيات تحتاج على المستوى الإداري إلى تحقيق المساواة بين الموظفين أولا، وجعل القدرة على الأداء الجيد المعيار التفاضلي الوحيد والأوحد بينهم، مع الحرص على تأسيس مناخ إداري محفز للاجتهاد عوض الانكفاء على النمط البيروقراطي التقليدي الذي يحصر الموظف في مهام روتينية ويقتل فيه روح الاجتهاد والابتكار والإبداع، وفي هذا المضمار يجب تبويئ عملية التنقيط الإداري قيمتها الحقيقية في مكافأة الموظف المجتهد وتحفيز المتكاسل باعتماد تقارير سنوية حول مردودية الموظفين مع اخضاعهم للتكوين المستمر الناجع على غرار القطاع الخاص. ومن النقط الهامة أيضا التي تحدث عنها تقرير النموذج التنموي والتي تعتبر من البؤر السوداء داخل الإدارة العمومية نجد سيادة ثقافة الامتثال بدل ثقافة الريادة وحسن الأداء، وهي الثقافة السلبية التي نلمسها واقعيا داخل معظم الإدارات العمومية، وأسهمت في شيوع مظاهر الإحباط واختلال التوازن النفسي لدى فئات من الموظفين وجعلتهم غير قادرين على الاجتهاد والإنتاج، بل صار معظمهم متشبثا بالجمود وعبارة عن آلة معطلة تفتقد الحيوية والرغبة في العمل، وبهذا الخصوص يجب على المسؤولين الإداريين الانتباه لما يشكله هذا الوضع من انعكاسات سلبية تؤدي في نهاية المطاف إلى تضييع فرص تنموية ومؤشرات نمو على الاقتصاد الوطني. وفي الأخير، تجدر الإشارة إلى أن ما تضمنه تقرير النموذج التنموي الجديد بخصوص الإدارة المغربية على أهميته سواء على مستوى التشخيص أو الاقتراح، كان في مجمله موضوع تقارير سابقة صادرة عن مؤسسات وطنية ودولية منذ فجر الاستقلال، كما أن الجهاز الإداري رغم التطور الكبير الذي عرفته الترسانة القانونية والمؤسساتية الناظمة له( تبسيط المساطر، تحسين بنية الاستقبال، تعليل القرارات الإدارية، محاربة الرشوة، الوسيط، الرقمنة…) ظلّ ممانعا لكلّ الجهود الإصلاحية بل وتراكمت فيه مظاهر جديدة من الفساد، مما يجعلنا أمام مسلمة مفادها؛ أنّ المشكل الحقيقي الذي يعاني من الجهاز الإداري المغربي لا يكمن في غياب التشخيص أو حتى ضعف التأطير القانوني، إنما في وجود " جيوب مقاومة التغيير" -بتعبير الوزير الأول الراحل عبد الرحمن اليوسفي- تسعى لإفراغ القاعدة القانونية من مضامينها المعيارية. وبكلمة، تبقى إرادة الإصلاح بما تحمله من دلالات تحولها إلى همّ وطني وانخراط حقيقي لكلّ الفاعلين العموميين وفي طليعتهم النخبة الإدارية، هي اللبنة المحورية التي يتأسس عليها أفق تمتين الثقة بين المواطن والجهاز الإداري، وبين هذا الأخير ومتطلبات التنمية المرتبطة أشدّ الارتباط بجودة الأداء العمومي وشفافية مناخ الأعمال المحفزين للاستثمار والنمو الاقتصادي.