خلفية المشهد المالية العامة و نهاية المجال المحفوظ بعدما كانت بالأمس مجالا محفوظا لبعض المتخصصين، أصبحت المالية العامة في الوقت الحاضر في قلب الحدث اليومي للمغاربة والتوانسة والجزائريين والموريطانيين ، ولمواطني باقي بلدان العالم العربي بربيعها وشتائها وصيفها وخريفها، وصولا إلى باقي بلدان العالم بلا استثناء، فموضوعاتها مثل ...باتت حاليا موضوعة تحت مجهر المتابعة والتحليل والتعليق من طرف الإعلام بمختلف أشكاله، ومن قبل المواطنين حتى غير المتعلمين منهم. إن هذا الوصول المتوثب إلى معلومة المالية العامة، وما نتج عنه من تشكل تدريجي لسلطة مضادة، هو حاليا بمثابة البوصلة للممارسة المالية العمومية المعاصرة ولحكامتها، وهو ما استدعى كل هذا الانخراط النشط والمتصاعد للمجتمع والبرلمان المالية العامة والحاجة إلى المزاوجة بين الحكامة التدبيرية والحكامة الديموقراطية إن ما نلاحظه اليوم من استدماج تدريجي ومتواصل لقواعد ومبادئ التدبير المعتمدة لدى القطاع الخاص ، من خلال مفاهيم ك... يعبر عن مسار عالمي، وإن في سياقات مختلفة ، ففي دول العالم الثالث ومنها دول المغرب العربي، الغرض هو عقلنة تدبير الأموال العامة، ومكافحة الهدر والفساد من أجل الحد من الفقر وتلبية الحاجيات الاجتماعية المتصاعدة وتطويق التوترات السياسية والأمنية المترتبة عنها. كما يأتي هذا التوجه تنفيذا لتعهدات وتوصيات دولية . بالموازاة مع ذلك نلاحظ أن الحكامة المالية العمومية الجديدة باتت تزاوج بين هذا التصور التدبيري الذي يتغيا النجاعة، والتصور الديموقراطي القائم على الشفافية والمحاسبة ومشاركة المواطنين، وذلك من خلال كشف حقائق الحسابات العمومية كشفا ميسرا ومفصلا ، ومن خلال تخويل سلطات رقابية جديدة للمنتخبين المحليين والوطنيين... وفي المحصلة فإن إدراك معايير حسن تدبير المالية ساعد على التوجه نحو عقلة اتخاذ أو المشاركة الحقيقية في اتخاذ القرار التشريعي المناسب وتفعيل الوظيفة الرقابية ، والمساهمة في توجيهها نحو البعد التقييمي النوعي، وبالتالي نحن هنا أمام عملية تزاوج و اندماج في بوثقة متناسقة ومتوازية ومتفاعلة بين الثقافة التدبيرية والثقافة الديموقراطية. آثار هذه التحولات والدور المنتظر للأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة أدت تلك التحولات الكبرى إلى ضع موضع تساؤل ومراجعة المبادئ الكلاسيكية للقانون العام المالي والمحاسبي: ونشوء قواعد مقابلة من هنا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لخبرة مؤسسات الدولة المختصة في الرقابة والمحاسبة على المالية العامة، ولوظائفها الاستشارية. وعلى رأسها المجالس العليا للحسابات كأجهزة داعمة للحكامة الديموقراطية في المغرب ، كما في العالم، تستشعر حيث تستشعر كافة الأطراف المعنية ، الحاجة والفائدة من وجود جهاز رقابي مستقل وفعال:بدءا بالبرلمان مرورا بالحكومة ، وانتهاء بالرأي العام خصوصا عندما يكون معززا بمجتمع مدني حي وحيوي، دون أن ننسى النظام السياسي ، الذي يستفيد من وجود مجلس أعلى للحسابات قوي وفعالا باعتباره جالبا للثقة في الدولة ومروجا لسمعتها السياسية والاستثمارية. المراقبة الديموقراطية لحكامة تجد راحتها في أحضان النمط الانجلوسكسوني للرقابة العليا على المال العام ذلك أن المدرسة الأنجلوسكسونية معروفة بعراقتها وبراغمتيتها وتفاعلها الوثيق مع الرقابة والمساءلة البرلمانية : مثال: نموذج النضج الامريكي أو نموذج مراقبة مردودية المال العام البريطاني أو التقييم الكندي اما المدرسة اللاتينية التي ينتمي لها النموذج المغربي : فتعتمد أسلوب محكمة الحسابات حيث المسافة مماثلة بين جهاز الرقابة وكل من السلطتين التشريعية والتنفيذية لكن حتى في فرنسا نفسها ثار الجدل في السنوات الأخيرة بصدد الانتقال للنمط الأنجلوسكسوني : رفض ثقافي، النفسية الوطنية في سياق صراع النماذج الدولي. إصلاح المجلس الأعلى للحسابات وسياق التحول نحو الديموقراطية ( 1996-2002) دسترة المجلس الأعلى للحسابات وتدعيم اختصاصاته بعد فشل التجربة السابقة (79-96) ، مقومات الإصلاح : الإاردة السياسية، والإجماع لاالوطني وتحركات المجتمع المدني والسياسي، وملاحظات الممولين الدوليين على رأسهم الاتحاد الوروبي الخطوط الكبرى للإصلاح في إطار دستور 1996 على أساسها صدرت في 13 يونيو 2002 المدونة ولم تتحرك العجلة عمليا إلا ابتداء من سنة 2005. المهمة الرسالية التقليدية في دستور 96 : تقديم الحساب والمساعدة المحدودة بما أنها موضعية، عبر اختصاصاته القضائية وغير القضائية. ازدواجية الطابع وتنوع الاختصاصات واندماجها ( المراقبة المندمجة) يكتسي طابعين مندمجين، قضائي وغير قضائي ،مع أرجحية للطابع القضائي، أما الطابع غير القضائي الاختصاصت الرقابية الادارية والاستشارية لفائدة الحكومة ومرافقها ولفائدة البرلمان. الاختصاصات الاستشارية والحاجة لتدعيم المراقبة الديموقراطية للحكامة في إطار اختصاصاته الاستشارية يبذل المجلس الأعلى للحسابات ومجالسه الجهوية العون الفني والإسناد الفكري للسلطتين التشريعية والتنفيذية وكذا للسلطات المحلية: بذل المساعدة للبرلمان : وتتمثل هذه المساعدة تقليديا في التقرير حول تنفيذ الميزانية والتصريح العام بالمطابقة. التقرير حول تنفيذ الميزانية والتصريح العام بالمطابقة : لا تنجزان في التوقيت المناسب. أسباب التأخير: بينت دراسة 2003 أهم أسباب التأخير تتمثل فيما يلي : غياب مقتضى تنظيمي يحدد بوضوح آجال تحضير وتقديم الحسابات. بطء مسطرة ترحيل الاعتمادات والبطء على مستوى تركيز ومعالجة المعطيات المتعلقة بإعداد مشروع قانون التصفية. أهمية إيداع مشروع قانون التصفية مرفقا بتقريري المجلس الأعلى للحسابات في الوقت المناسب: عصفوران بحجر واحد مادامت هذه اللحظة غائبة فإن دور المجلس ، كما أن ملخصات التقارير حول تنفيذ قانون المالية عديمة الفائدة تاريخيا و نوعيا . طلب توضيحات حول تنفيذ القانون المالي، وإحالة مخالفات التأديب المالي على المجلس من قبل رئيسي غرفتي البرلمان: لكن هاتين الآليتين لم يسبق تحريكهما حتى الآن. بذل المساعدة للحكومة التقارير الرقابية: وتنزيل الالتزامات السياسية للحكومة على أرض الواقع في مجال الحكامة ومكافحة الهدر والفساد. ملاحظة: غير أن جداول تتبع التوصيات ابتداء من تقرير 2009 تنقصها الشفافية والمهنية والكشف عن جميع حقائق التتبع . البرمجة : اقتراح إدراج قضية ضمن برنامج عمله (بنكيران يقترح المكتب الشريف للفوسفاط وجطو يرد بتحفظ؟) تنبيه الحكومة إلى بعض الاختلالات الأفقية :. لم يعرف مآلها حتى الآن ؟ تقديم الاستشارة القانونية والمالية : هذا الاختصاص يمارسه المجلس الأعلى للحسابات عمليا الاختصاصات الرقابية التخليقية مراقبة حسابات الأحزاب السياسية وتدقيق النفقات الانتخابية شرع فيها ابتداء من سنة 2006 ،بدون أنياب رادعة مراقبة التصريحات بالممتلكات : الملاحظات : تضخم عدد المصرحين، وتناثر المرجعية القانونية ، ومتى تتبع التصريحات، بعد تلقي أزيد من 100 ألف تصريح. التقرير السنوي لحظة اختبار البعد الديموقراطي لمراقبة الحكامة تكمن أهمية نشر التقرير السنوي بالجريدة الرسمية في إغناء النقاش العمومي الوطني وتدعيم المراقبة الديموقراطية للحكامة. الضوابط المنهجية للتقرير السنوي من حيث الجوهر : عدم مراعاة جميع المحاور الأساسية للتقرير السنوي بالنسبة للجهاز الأعلى للرقابة ذي التنظيم القضائي: من حيث المسطرة القانونية والفنية والمهنية: المشاكل التالية: - مخالفة التوقيت القانوني للنشر - غياب الملخص التركيبي أو التنفيذي - مخالفة المسطرة وعدم ذكر الصفة العبر والتوصيات في سبيل تعزيز المراقبة الديموقراطية للحكامة: بخصوص شفافية المجلس الأعلى للحسابات شفافية التقارير السنوية وعرض النتائج على الإعلام والتفاعل مع أصحاب الملاحظات ،والانفتاح على البرلمان والمجتمع المدني: بخصوص مسؤولية المجلس الأعلى للحسابات: الحاجة إلى تقديم المجلس للحساب و تقييم أدائه مستجدات دستور 2011 تكريس لدور المجلس في المراقبة الديموقراطية للحكامة خلفية التعديل الدستوري متطلبات الحراك الديموقراطي ، والرد على أسئلة ما قبل دستور 2011 المستجدات تكريس علوية المجلس الأعلى للحسابات وشمولية رقابته واستقلاله تحديد وتوسيع المهمة الرسالية للمجلس توثيق العلاقة التفاعلية مع البرلمان في إطار المراقبة الديموقراطية للحكامة وذلك من خلال تدعيم المساعدة للبرلمان لتشمل جميع المجالات المتعلقة بوظائف البرلمان في التشريع والمراقبة وتقييم السياسات العمومية كان النص الدستوري السابق يحصر في نقطتين هذه المساعدة .أما الآن فإن الدستور أقام جسرا متواصلا ومنهجيا طوال السنة مع البرلمان، وهذا هو الجديد المهم، إن تفعيل هذا النص الثمين وتعزيزه ببرلمان مؤهل وجريء وبمجلس أعلى للحسابات مؤهل وجريء ومنفتح لهو ضمانة لصوغ تجربة مغربية-مغربية في المراقبة وتوازن السلط، وفي خلاصة فإن الدستور الجديد كرس المعادلة الثلاثية الأضلاع للرقابة والمساءلة بما يتماشى مع أعلى المعايير الدولية كما كرس الدستور شفافية مخرجات المجلس باعتبارها جسرا للمراقبة الديموقراطية للحكامة من خلال نشر التقارير الخاصة، أي تفاصيل الرقابة في حينها ومن خلال تنصيب المجلس مستشارا دائما للبرلمان في كل ما يتعلق بالتشريع والرقابة ولاسيما تقييم السياسات العمومية من شؤون. وكذا من خلال نشر المقررات القضائية هذا النشر الذي سيسمح ببزوغ مادة الاجتهاد القضائي المالي الصادر عن المحاكم المالية وبالتالي المساهمة في مشاركة الباحثين وعموم المهتمين بمن فيهم الواطنين في الاطلاع على الشق المحاسبة والمساءلة في عمل المجلس بعد اطلاعهم على الشق الرقابي فقط حتى الآن. كما أن توجيه نسخة من التقرير المرفوع للملك إلى كل من رئيس الحكومة، ورئيسي مجلسي البرلمان ثم نشره بالجريدة الرسمية من شأنه تدعيم وتنشيط الرقابة السياسية على مدار السنة من خلال المعلومات والآراء والتقارير، إضافة إلى الرقابة السياسية في نهاية السنة من خلال التقرير السنوي. أما تقديم الرئيس الأول للمجلس عرضا أمام البرلمان، ويكون متبوعا بمناقشة( فيكرس مفهوم المحاسبة المزدوجة للمجلس أمام المعنيين بنشاطه وللأجهزة التي خضعت للرقابة أمام البرلمان والرأي العام) وما يهم أكثر هو الجانب الأول أي تقديم للمجلس لحساب تصرفه أمام الجمهور والبرلمان وهذا تكريس مغربي لمعيار مسؤولية الأجهزة العليا للرقابة إزاء ممثلي الأمة، وهذا ليس انتقاصا من استقلاليتها بل على العكس إن كشفها لمعايير اشتغالها وتقبلها للملاحظات البناءة سيكون ترجمة لمبدأ مهني راسخ في الرقابة والتدقيق والمحاسبة وهو مبدأ قابلية الرقابة للتحقق من مهنيتها ، ضمانا لمصداقيتها، وتعزيزا لاستقلاليتها الذاتية. وفيه تجاوب مع مطالب الاطلاع على طريقة اشتغال المجلس وعلى آليات التوصل إلى النتائج التي توصل إليها، كي يطمئن الجميع إلى أن المجلس "يصفي الحسابات " العمومية، ولا يصفي الحسابات مع أحد. لكن قرار المجلس الدستوري الصادر في بداية سنة 2012 حول تقديم الحساب أمام البرلمان بالنسبة لرؤساء مؤسسات الحكامة ( خطأ وتراجع عن فلسفة الاصلاح الدستوري وتضييق من مجال المراقبة الديموقراطية للحكامة) إن الحكامة الداخلية للمجلس الأعلى للحسابات جزء أساسي وممر إجباري للملاءمة والتأهيل، لاينبغي إهماله ويتمثل في هيمنة الرئاسة ومحدودية دور النيابة العامة وتغييب صوت قضاة المحاكم المالية، وقلة الموارد المالية والبشرية خاتمة أجل، لقد تضمن الدستور الجديد عدة أجوبة هامة تتعلق باستقلال وفعالية وشفافية ومسؤولية المجلس الأعلى للحسابات وشكلت إطارا للعمل في سبيل تدعيم مفهوم المراقبة لديموقراطية للحكامة العمومية بوجه عام ، ولحكامة المالية العمومية بوجه خاص، وذلك وفقا للمعايير الدولية وبالتوافق مع إمكانات ومحددات النظام السياسي والقانوني المغربي، لكن مع ذلك فإن بعض القضايا الهامة بقيت بحاجة للتقنين. راجين أن لا يقف معدلو مدونة المحاكم المالية الذين يشتغلون حاليا على تعديلها، عند حدود الملائمة التقنية مع الدستور ،بل أن يتم استغلال هذه المناسبة التاريخية لإنجاز تعديلات شاملة تهم حكامة المجلس الداخلية وطرق تدبيره وميكانزمات اشتغاله، لكي ينسجم المنتوج التعديلي المرتقب مع سياق التحول نحو الديموقراطية ويستجيب لتحديات ورهانات الشفافية والمحاسبة لكن في اتجاهين داخلي وخارجي، وهذه التحديات والرهانات المرتبطة بالشفافية والمحاسبة هي بالضبط غاية وموضوع هذا النشاط العلمي المتميز ، والذي جاء ، وبامتياز، موفقا في اختيار عنوانه وتوقيته. نص مداخلة الدكتور محمد براو في إطار الندوة الدولية حول المالية العامة بالمغرب العربي وتحديات ورهانات المساءلة والشفافية المنعقدة بالرباط بتاريخ 8 و 9 مايو 2013