تَشَكَّلت الأغلبية الحكومية بسرعة فائقة، وتقديري أنه لولا بعض الحرج لما احتاج تعيين الحكومة لأكثر من أسبوع واحد لا غير، ذلك أن الحاجة كانت ماسة لإغلاق ملف الانتخابات ومخرجاتها في أقصر وقت ممكن، لأسباب سياسية لا تخفى، ولأسباب مرتبطة بملفات استراتيجية يلزم التقدم فيها استكمال البناء المؤسساتي والشروع في العمل، فقضايا الدولة لا تنتظر، وزمن الدولة متعال عن الزمن الانتخابي والحزبي. وبعيدا عن بعض القفشات التي قد لا تخلو منها أول جلسة لرئيس حكومة، فلكل داخل دهشة، لا بد من تسجيل المجهود الكبير الذي بذله أخنوش لتحسين أداء خرجاته العامة، بالرغم من بعض "الهفوات" وزلات لسان عربي لا زال يتلمس طريقة بين فصحى تعانقها على ضجر كلمات عامية حينا وإفرنجية "فرنسية" حينا آخر، بعيدا عن كل هذا وغيره من الملاحظات التي لن تمر في غفلة عن كثير من الناس الذين قد تستهويهم الرغبة في استكشاف أداء رئيس حكومة "التحالف الثلاثي المستجد"، سنحاول في هذا المقال تقديم ملاحظات متعلقة بالتنصيب البرلماني للحكومة والذي بموجبه استكملت حكومة أخنوش شرعيتها الدستورية. بداية لا بأس من تسجيل بعض الملاحظات الشكلية السريعة، ومنها الإشادة بالتطور الملحوظ في ملكة القراءة لرئيس الحكومة، رغم أخطاء شَكْلِ كثير من الكلمات، وهو أمر سهل التجاوز مستقبلا إذا اعتمد فريق الإعداد شَكْلَ الكلمات، وخاصة الصعبة منها. والملاحظة الثانية، هو صعوبات كبيرة يجدها أخنوش في الارتجال، فكلما ابتعد عن القراءة اضطرب، رغم ما بذله من مجهودات لا تخفى لمحاولة التغطية عن هذا الأمر، وذلك من خلال اللجوء المتكرر إلى لغة موليير، واستعمال بعض الكلمات من قاموس علوم التدبير، لكن ذلك لم يمكنه من إخفاء ضعفه البَيِّن في ملكات الخطابة التي وإن تطورت فهي تعاني من صعوبات بنيوية، مرتبطة بفقر في اللغة، ومثال عن ذلك ما قاله في مجلس المستشارين: "من بعد واش 4 %، واش 5 %، واش 6 %، واش مليون، واش.. القريحة La volonté، إن شاء الله، d'aller de l'avant et de réussir"، وتلخص هذه الجملةُ البِنْيَةَ المرتبكة لخطاب رئيس الحكومة، ومن الارتباك استعمال لفظ بالعربية لا معنى له في هذا السياق ولا علاقة له به وهو لفظ "القريحة". والحقيقة التي لا شك فيها أن أخنوش ستكون عنده صعوبات حقيقة في الارتجال، خاصة حين التفاعل مع قضايا السياسة، ذلك أن هذا الأمر يحتاج إلى خلفية سياسية قوية، ودُرْبَة في الحجاج السياسي، وهي مهارات تكتسب على مهل ولا يمكن أن تخرجها من قبعة ساحر بارع، كما لا يمكن استنباتها على عجل في حصص التدريب مدفوعة الأجر "coaching"، ذلك أن السياسة هي أفكار ومضامين قبل أن تكون أشكالا وقوالبَ. أما الملاحظة الشكلية الأخيرة فهي عن الوقت القصير الذي خصَّصَه رئيس الحكومة للتعقيب على مداخلات البرلمانيين؛ فمن أصل 3 ساعات وتسع دقائق استغرقتها الجلسة العمومية لمناقشة البرنامج الحكومي بمجلس النواب، لم يتجاوز ردُّ رئيس الحكومة 19:40 دقيقة أي ما نسبته 10,26%، ونفس الأمر تكرر بمجلس المستشارين، فمن أصل ساعة و50 دقيقة، استغرق الرد 14 دقيقة، أي ما نسبته 12,72%، ولا شك أن هذا الذي حصل جعل من تعقيب رئيس الحكومة أقصر تعقيب في تاريخ الحكومات المغربية -فيما أظن- في جلسات مناقشة التصريح الحكومي. ويمكن أن يدعي البعض أن هذا الأمر يحسب لأخنوش، ذلك أن إطالة الكلام في السياسة هو مضيعة للوقت وأحد أعطاب الممارسة السياسية، وأن الأصل في السياسة هو العمل والإنجاز وحسن تدبير الملفات؛ وهو أمر يعتقده كثير من تكنقراطيي السياسة والتدبير العمومي؛ بيد أنه يعاكس كل التجارب الديموقراطية العريقة، لأن الديموقراطية ليست انتخاباتٍ فقط، كما أن المسؤولية العمومية لا تختصر في القدرة على تدبير الملفات فحسب، بل هي في العمقِ نقاشٌ عموميٌّ حرٌّ ومسؤول ومنتَظِم، والبرلمان هو أحد فضاءاته الطبيعية والأساسية. والراجح عندي أن لجوء رئيس الحكومة للاختصار مردُّه بشكل أساسي إلى الصعوبات الكبيرة التي يجدها في الارتجال وما يقتضيه ذلك من تمكُّن من اللغة ومن تفاعل تلقائي مع مختلف المداخلات والتساؤلات والانتظارات، والإجابة على الإشكالات السياسية والتدبيرية دون المرور عبر وسائل وتقنيات التأطير القبلي و"البروفات" التي تتم تحت إشراف "خبراء عُلَبِ التواصل" كما جرى به العمل في مختلف خرجات أخنوش قبل أن يصبح رئيسا للحكومة. وقناعتي أن هذا الأمر سيشكل له عائقا كبيرا في تدبير حضوره وأدائه في جلسات الأسئلة الشهرية التي هو ملزم دستوريا بحضورها مرتين في كل شهر طوال الولاية الانتدابية. قَليلٌ مِنْ"كَلَامِ السيَاسَةِ".. كثيرون لا يراهنون على قدرة عزيز أخنوش في أن يضيف للسياسة بمعناها النبيل إضافاتٍ ذاتَ بال، ففاقد الشيء لا يعطيه؛ ذلك أن السياسة، كما يتمثلها رئيس الحكومة ومن نسج على منواله، لا تعني إلا القدرة على تدبير الملفات من خلال "كفاءات" قادرة على "الإنجاز"ب "نجاعة" و"إتقان"، أما الكلام فهو مضيعة للوقت والجهد. لكن الإشكال الذي يعيق هذه المقاربة هو أن منصب رئيس الحكومة يقتضي بالضرورة التفاعل مع قضايا السياسة، خاصة حينما تُطرح قضاياها في قبة البرلمان من قبل عموم البرلمانيين والمعَارِضين منهم على وجه الخصوص؛ وهو الأمر الذي لم يحدث خلال ردِّ رئيس الحكومة في البرلمان بالرغم مما أُثِيرمن قضايا سياسية أساسية لم يتفاعل معها هذا الأخير،فكأن الأمر لا يعنيه، أو كأن الأسئلة كانت موجَّهةً إلى شخصية أخرى.والحقيقة أن قضايا السياسة العامة تعني بالأساس من تقع على عاتقه مسؤولية تدبير الشأن الحكومي، ولا وجود لشأن حكومي مُفْرَغٍ من القضايا الكبرى للسياسة التي مهما اجتهد كثيرون في تبخيسها فإن طبيعةَ العمران البشري يجعلها ضاغطة وحاضرة مؤثرة؛ فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. ومن القضايا السياسية الأساسية التي أثارها البرلمانيون حين مناقشتهم لمضامين التصريح الحكومي، ولم يتفاعل معها رئيس الحكومة: – القضية الوطنية: فلم يتضمن تعقيب رئيس الحكومة أي إشارة ولا تعليق في هذا الشأن، خاصة وأن الكل يعلم حجم التحديات والمؤامرات التي تحاك ضد المغرب ووحدته الترابية؛ وكان الزمان والمكان مناسبين لكي يُعَبِّرَ رئيسُ الحكومة المغربية بتلقائية وبقوة وخارج النصّ المكتوب على إجماع المغاربة واصطفافهم خلف جلالة الملك في قضيهم الوطنية الأولى. – قضايا الديموقراطية والحريات وحقوق الانسان: لم يستطع رئيس الحكومة أن يدلي ولو بجملة واحدة في هذا الموضوع، من أي زاوية شاء،وهو أمر غريب وعجيب. فكيف لرئيس الحكومة أن يلزم الصمت إزاء هذه القضايا في محطة تنصيب حكومته وهي لحظة لا تتكرر، فهذا معناه أن هذه القضايا لا تعنيه ولا علاقة له بها. – الاحتجاجات الاجتماعية ورجوع السلطوية وديموقراطية الواجهة: لميَلِج رئيس الحكومة هذا المجال، ولم يتناوله في تعقيبه. وكان يَسَعُه أن يستثمِرَه ليعطي معنى سياسياللعنوان الأبرز لبرنامجه الحكومي وهو "تدعيم ركائز الدولة الاجتماعية"، والتي ستمكن من معالجة الهشاشة المجالية والاجتماعية بما يمكن من نزع الأسباب البنيوية للاحتجاجات الاجتماعية. وإذا كان رئيس الحكومة غير قادر على الوقوف على أرضية "الإنجاز الاجتماعي"،وهي الأولوية الكبرى لحكومته، فكيف له أن يقول كلاما سياسيا في السلطوية وديموقراطية الواجهة؟ – الانفراج السياسي والإفراج على معتقلي الاحتجاجات الاجتماعية وإطلاق سراح الصحفيين المعتقلين: لم يلتفت رئيس الحكومة لهذا الكلام رغم أنه تردد في أكثر من مداخلة، وجزء منه قال به حزب الاستقلال وهو أحد مكونات الأغلبية الحكومية، فالتحرك فوق رمال الحقوق والحريات مغامرة لا يمكن لأحزاب الإدارة وقادتها القيام بها، فلا اللسان يسعفهم، ولا الخلفية السياسة تساعدهم، ولا وظيفتهم في النسق السياسي تسمح لهم بذلك. – استغلال مؤسسات الدولة للاغتناء غير المشروع والجاه المفيد للمال: هذا الكلام ما كان ينبغي له أن يمر دون تعليق، لأنه موجه بالأساس للسيد رئيس الحكومة الذي عانى وسيظل يعاني من وصمة "تحالف المال والسلطة". لكن الأدهى من ذلك هو أن هذا الكلام اليوم صار يمس الحكومة بشكل عام بحكم رئاستها من قبل أغنى رجل في المملكة، ثم بحكم استقدام كثير من وزيراتها ووزرائها الذين يدبرون قطاعات أساسية من عالم المال والأعمال. كان يحتاج هذا الكلام إلى رد ولو على سبيل حماية الرئيس لفريقه الحكومي في إطار ما كرره مرارا من حاجة رئاسة الحكومة إلى "Le leadership"، فماذا يبقى من مهام القيادة إذا كان القائد عاجزا عن الدفاع عن فريقه الحكومي؟ – تخليق الحياة العامة ومحاربة الفساد والرشوة واقتصاد الريع والامتيازات والإثراء غير المشروع: لو لم يكن من مبرر للتفاعل مع هذا الكلام إلا مبرر وروده على لسان أحد مكونات التحالف الثلاثي لكان ذلك السبب كاف للتعليق على هذا الكلام السياسي "الغليظ".وعوض التفاعل مع المضامين، فضَّل رئيس الحكومة تنبيه رئيس فريق الوحدة والتعادلية إلى الانضباط وعدم تكرار تجارب طبعت سلوك الأغلبيات الحكومية السابقة. – قضية فلسطين وقضية التطبيع: لم يتفاعل رئيس الحكومة إطلاقا مع هذا الملف، وهو الملف الذي سيكون له حضور بارز في هذه الحكومة. فالإعلان الثلاثي إن كان توقيعه قد تم في نهاية الولاية الحكومية السابقة، فإن تزيل مقتضياته سيتم في عهد حكومة أخنوش. وكان من المفروض من رئيس حكومة ليبرالي متحرِّر من كثير من الإكراهات، ومتحمس للتعاون مع "دولة إسرائيل"، أن يعبر عن ذلك في بداية ولايته الحكومية، وأن يوضح الإطار السياسي العام الذي سينهجه في تدبير هذا الملف، وكيف سيقوم من موقعه بتنفيذ التزامات ومسؤوليات المغرب تجاه القضية الفلسطينية والقدس الشريف. هذه بعض أهم القضايا والملفات السياسة التي تناولنها البرلمانيون حين مناقشتهم للتصريح الحكومي، والتي كانت تقتضي من رئيس الحكومة أن يتفاعل معها، وأن يوضح موقف حكومته منها، لكنه للأسف لم يفعل، وفضّل عوض ذلك أن يبادر بالتصفيق على بعض البرلمانيين الذين أثاروا هذه القضايا حين إنهائهم لمداخلتهم. فهل كان التصفيق اتفاقا معهم على تلك المضامين، أم كان من باب "الصواب" فقط؟ والخلاصة أن من هندس هذه الحكومة أراد لها أن تكون حكومة قليلة السياسة وضعيفة الحزبية وكثيرة "التقنوية". وهو الأمر الذي جلّاه سلوك رئيس الحكومة في أول خروج رسمي له بالبرلمان. ولكن إضافة إلى هذا المعطى الأساسي، فإن شخصية رئيس الحكومة وقدراته لا تسمح له بأن يغامر في "دهاليز السياسة" وقضاياها الكبرى. فلا التمكن من اللغة يسعفه، ولا خلفيته الحزبية الإدارية تساعده، ولا تَملُّكُه لمهارات الخطابة التلقائية المتحرِّرَة من خدمات "علب التواصل" وحصص ال"coaching" مدفوعة الأجر تُقَوِّيه، وقد أثَّر هذا الأمر بشكل كبير على أداء رئيس الحكومة في البرلمان في الشق المتعلق بالقضايا السياسية، وكرس الانطباع العام عن هذه الحكومة التي لا يمكنها الاسهام في القرارات السياسية والاستراتيجية بالنظر إلى بنيتها "التقنوية"، فضلا عن ضعفها السياسي العام سواء تعلق الأمر برئيسها أو بأغلب وزيراتها ووزرائها، وخاصة منهم أولئك القادمون من عالم المال والأعمال. ولهذا فإن نجاح هذه الحكومة في المهام التي كلفت بها يقتضي أن يتوفر لها مناخ نادر الوجود في السياسة وهو "البيات السياسي" حيث لا طير يطير ولا وحش يسير ولا ثعبان يزحف. ختاما، هل سنكون أمام تجربة حكومية يختص فيها رئيس الحكومة بالتدبير و"Le leadership"، ويكون مكان صناعة السياسة وصانعيها خارج الحكومة وأغلبيتها الصامتةوالمنغمسة في قضايا التدبير؟ إن حدث هذا الأمر فسنكون إزاء تجربة مثيرة كثيرة الفرجة والمفاجآت. قَليلٌ مِنْ" كَلَامِ التَّدْبِير".. إن كان متفهما ضعف الأداء السياسي العام لرئيس الحكومة في علاقته بالقضايا والإشكالات السياسة العامة التي تمت إثارتها في مناقشة التصريح الحكومي للأسباب التي أوردناها سابقا (التَّنْصِيبُ الحُكُومِي.. (2/3) قَليلٌ مِنْ "كَلَامِ السيَاسَةِ")، فإن الشق المتعلق بالتدبير كان المفروض فيه أن يكون أقوى وأجود، وأن يغطي عن الضعف البَيِّنِ الذي ظهر جليا في الشق السياسي العام. فالتدبير هو سبب وجود (la raison d'être) هذه الحكومة، وهو رأسمال رئيسها كما يدعي ذلك. لكنه للأسف لم يستطع أن يجيب على عدد مهم من أسئلة البرلمانيين المتعلقة بالشق التدبيري الصِّرْف في التصريح الحكومي. وهذا الأمر مثير للاستغراب، إذ المفروض في رئيس حكومة قادم إلى السياسة من عالم المال والأعمال، إضافة إلى كونه وزيرا في الحكومات المتعاقبة منذ 14 سنة، فضلا عن أنه رئيس حزب أمضى الولاية الحكومية المنصرمة كاملة وهو يستعد لقيادة حكومة 2021، المفروض في شخص من هذا الحجم أن يتفوق في إبراز قدراته الاستثنائية في الشق التدبيري، وما يقتضيه ذلك من شرح وبيان وتفسير لاختياراته التدبيرية ولسياساته العمومية. ومن القضايا التدبيرية الأساسية التي لم يتفاعل معها رئيس الحكومة حين التنصيب البرلماني: – الهيكلة الحكومية: فإن كان يحسب بكل موضوعية لهذه الحكومةاختيارها لتسميات جديدة تساير في ألفاظها آخر ما استجد في "عالم الهياكل التنظيمية" للحكومات، فللأسفلم يقدم رئيس الحكومة ما يُقنِع به لتفسير اختياراته في هيكلة حكومته. فإذا استثنينا "القصة" التي حكاها من "القلب" عن مجريات تشكيل الأغلبية الحكومية وصياغة البرنامج الحكومي وهيكلة الحكومة واختيار وزرائها، فإن هذا الأخير لم يتفاعل مع عدة إشكالات مرتبطة بهذا الموضوع. ومنها عدم القدرة على تقليص عدد الوزراء بالنظر إلى تَشَكُّلِ الأغلبية من ثلاثة أحزاب فقط، وهي فرصة نادرة لم يسبق لها مثيل، وكانت مناسبة مواتية لمزيد تجميع وتقليص لعدد من القطاعات في أقطاب منسجمة تتيح التقائية أكبر ونجاعة أفضل للسياسات العمومية. ومن الأسئلة التي ظلت بدون جواب من قبل رئيس الحكومة سؤال العودة إلىاعتماد كتاب الدولة، في تناقض واضح مع خيار التقليص في عدد أعضاء الحكومة، كما أنه لم يجب عن سبب تأخير ذلك عن محطتي التعيين والتنصيب، وهو الأمر الذي قد يُفَسَّرُ بعدم القدرة على تحمل تبعات الإعلان عن حكومة متضخمة العدد مقارنة مع حكومة سعد الدين العثماني، ولا شك أن هذا الأمر يعتبر تراجعا كبيرا عن مكتسب التقليص الذي ظل لسنوات مطلبا سياسيا وشعبيا ملحا. ومن الأسئلة التي لم يجب عنها أيضا رئيس الحكومة سؤال تفتيت أقطاب حكومية منسجمة تُمَكِّن من النجاعة والفعالية، وتوزيع عدد من القطاعات بمنطق غير واضح؛ وهو الأمر الذي يقتضي الشرح والتوضيح. فمثلا لماذا تم تقسيم وزارة التجهيز والنقل واللوجستيك والماء إلى وزارتين،إضافة إلى ما يتم ترويجه من تعيينكاتب دولة في الماء، مما سيحول وزارة واحدة دبّرها العدلة والتنمية لمدة 10 سنوات بوزير واحد إلى قطاع يتعاون على تدبيره ثلاث"كفاءات" من بينها الأمين العام لحزب الاستقلال؟ فهل كان هذا التقسيم مجرد "خلطة" لإيهام حزب الاستقلال أنه حصل على حصته من عدد الوزارات ولو ضدا على منطق التقليص؟ – تمويل البرنامج الحكومي: كان هذا الموضوع من أبرز المواضيع التي أثارت جدلا واسعا داخل البرلمان وخارجه. وقد طُرِحَ على رئيس الحكومة بأكثر من صيغة وأكثر من مرة، لكن للأسف فإن أجوبة هذا الأخير ظلت فضفاضة وغير مقنعة. فبغض النظر عن الطموحات الكبيرة التي تضمنها التصريح الحكومي ووعوده المغرية، يبقى سؤال التمويل سؤالا أساسيا لكنه ظل بدون جواب مقنع. والمفارقة العجيبة في هذا الأمر أن المعروف على "البروفايلات" القادمة من عالم المال والأعمال إتقانها للغة الأرقام وقدرتها على الإقناع بها؛ لكن جواب رئيس الحكومة لم يُقَدِّمْ أيَّ تقدير مالي لكلفة إنجاز سياسات "الدولة الاجتماعية" مع العلم أن المغرب ليس هو أول دولة ستخترع هذه العجلة، والتي يعلم المهتمون بها أن إشكالها الأساسي هو قدرة الحكومات على توفير التمويل اللازم لسياسات الحماية الاجتماعية التي تعتبر عنوانها الأبرز، وتأثير ذلك على نجاعة سياساتها العمومية في ظل تنامي الطلب الاجتماعي المتزايد بسبب إشكالات المجتمعات الحديثة، من مثل الانتقال الديموغرافي والإقصاء الاجتماعيومعدلات النمو المنخفضة فضلا عن التأثيرات البنيوية للجائحة على الاقتصاد والأوضاع الاجتماعية. وبالنظر لما أعلنه رئيس الحكومة من التزامات ذات طبيعة اجتماعية بالأساس،ومنها أولوية تدعيم ركائز الدولة الاجتماعية؛وهو ما يقتضي توفير الاعتمادات اللازمة لقطاعات يعرف الجميع أنها "مفترسة للميزانياتbudgétivore–" ومتطلبة للسيولة. ولأن البرنامج الحكومي لم يقدم أرقاما، فإن الرجوع للبرنامج الانتخابي لحزب رئيس الحكومةيمكن أن يعطينا فكرة عن احتياجات تمويل"وعود أخنوش ومن معه"؛ فالاحتياج الإضافي لتمويل هذه الوعود يستلزم ضخ 270 مليار درهم خلال هذه الولاية الحكومية، وهو ما يقتضي توفير موارد إضافية سنوية تصل إلى 54 مليار درهم. فكيف سيوفر رئيس الحكومة هذه الأموال؟ لا جواب. لذلك سنظل ننتظر جوابا صريحا وواضحا من أخنوش و"حكومة الكفاءات"يشرحُ لنا فيه،كيف سيُمَوِّلُ الوعود والطموحات الكبيرة التي تضمنها البرنامج الحكومي؟ كيف سيقوم بذلك وقد التزم بتحقيق نسبة نمو لا تتجاوز 4%خلال خمس سنوات (تراجع أخنوش عن ذلك في مشروع قانون المالية 2022 واكتفى بإثبات نسبة 3,2%)، وعجز في الميزانيةبين 3,5%إلى3,8%، ونسبة التضخم في حدود 2%، هذا فضلا عن عدم إمكانية اللجوء للاقتراض لتمويل نفقات التسيير طبقا للقانون التنظيمي للمالية 13-130؟ والأهمُّ من هذا كله، كيف سينجز كلَّ ما وَعَدَ به دون الإضراربما تم تحقيقه من مكتسبات الإصلاحات البنيوية الكبرى التي عرفتها المالية العمومية خلال العقد المنصرم؟ – الصحة: وما أدراك ما الصحة؟ حصانُ طروادة حزب رئيس الحكومة، والذي أصر طوال خمس سنوات الماضية على اعتبارها الحقيبة الحكومية رقم واحد للأحرار،كما أنه حرص على منحها لأحسن كفاءة من حزبه، لكنها للأسف لم تبدأ مشوارها لتحقق وعود حزب رئيس الحكومة.ويبقى السؤال الكبير والعريض، هو كيف سيتِمُّإنجاز إصلاحات تمنع الإحساس ب"الحكرة" كما روج لذلك رئيس الحكومة لمدة خمس سنوات مضت بوزير قديم لا علاقة له بحزب "الكفاءات". وفي علاقة بالتنصيب البرلماني لم يكلف رئيس الحكومة نفسه عناء الحديث عن هذا القطاع،ولم يقدم أي معطيات تدبيرية توضح كيف سيتم إصلاح هذا القطاع الاجتماعي الكبير.وإذا استثنينا الكلام العام من قبيل تعزيز ميزانية الصحة العمومية من دون تقديم أي تعهد مُرَقَّمٍ، فردود رئيس الحكومة لم تتضمن أي إشارة لهذا القطاع على أهميته وأولويته بالنسبة للبرنامج الحكومي.فعلى سبيل المثال،لم يوضح رئيس الحكومة كيف سيرفع من عدد الأطر الطبية، وخاصة الأطباء منهم، والطاقة الاستيعابية لكليات الطب وقدراتها التأطيرية معروفة ومعلومة.كما هو معلوم أيضا أن تكوين طبيب عام يتطلب 8 سنوات وتكوين طبيب اختصاصي يتطلب 13 سنة، فكيف سيتم رفع عدد الأطر الطبية؟ وبأي عدد؟ لم يقدم رئيس الحكومة أي معطى في هذا الشأن، كما هو الحال في عموم برنامجه الحكومي. – التعليم والأساتذة أطر الأكاديميات أو الأساتذة المتعاقدون: اعتبر البرنامج الحكومي التعليم قطاعا ذا أولوية ضمن قطاعات أربعة وهي إضافة إلى هذا الأخير الصحة والشغل والحكامة وإصلاح الإدارة. لكن رئيس الحكومة لم يكن واضحا ولا دقيقا في تفاعله مع تساؤلات البرلمانيين في هذا الشأن. فلَمْ يشر إطلاقا إلى مرجعياتِ ما عبَّر عنه من تعهدات والتزامات، وغاب بشكل كلي الحديث عن مرجعية الرؤية الاستراتيجية والقانون الإطار. وهو ما يطرح أكثر من سؤال عن رؤية أخنوش ومن معه لهذا القطاع، خاصة إذا استحضرنا أن البرنامج الحكومي (ص:50)اعتبر إعادة النظر في المقررات الدراسية والمناهج التربوية، وتجويد تكوين الأساتذة وتحديد معاييرتوظيفهم والرفع من أجورهم، أهمَّالتزام سيقوم به في هذا القطاع. لكن كيف سيتم ذلك؟وفي إطار أي مرجعية؟ ومتى؟ وأين؟ لا جواب قدَّمه رئيس الحكومة في البرلمان. بل إن أكبر وعد انتخابي قدمه حزبه لشغيلة قطاع التعليم والقاضي بالزيادة في الأجر الشهري بما قيمته 2500 درهم، كَانَ صَرْحاً مِنْخَيَالٍ فَهَوَى في متتالية من الشروط المتعددة المقتضيات والمتدخلين والحيثيات مما يجعل تحقيقه سرابا يحسبه الظمآن ماء. وفي موضوع أطر الأكاديميات أو الأساتذة المتعاقدون، قال رئيس الحكومة في الغرفة الثانية "باقي كاع ما ابدينا واحد باغي يدير الإضراب، ها ماشي وقت الإضراب، هذا وقت العمل، (…)، إييه المتعاقدين، حنا نجلسوا، أنا عمري ما جلست على هاد dossier، بكل صراحة، أنا كنت وزير الفلاحةما عنديش، ولكن أنا والسيد وزير التعليم نجلسوا وغادي نشوفوا، ونقولوا اللي يمكن واللي ما يمكنشي، ونسدوا هاداك dossier".. انتهى كلام أخنوش. وبغض النظر عن عدم جدية ومصداقية ما قاله رئيس الحكومة مما لا يليق به ولا برئيس حزب جعل من ملف التعليم ملفا أساسيا في حملته الانتخابية لمدة خمس سنوات، ثم يدَّعي مع ذلك تحت قبة البرلمان أنه لا يملك تصورا واضحا، وأن هذا الملف لم يكن معنيًّا به لأنه كان وزير الفلاحة! وهو الملف الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، وبالتالي فإن حديثه هذا حديث غير مسؤول ويدعو إلى السخرية. – التقاعد: لم يلتفت رئيس الحكومة لهذا الملف الملتهب، والذي يوجد مكتملاوجاهزا وينتظر ماذا ستقرر فيه حكومة الكفاءات. ومعلوم أن هذا الملف يقتضي اتخاذ إجراءات عاجلة، وأن عدم القيام بذلك سيهدد أنظمة التقاعد بالانهيار في أفق سنة 2026. كما أن منطق تدعيم ركائز الدولة الاجتماعية، يقتضي قبل كل شيء الحفاظ على المكتسبات الاجتماعية للمواطنين، وعلى رأسها الحق في ضمان الحق في ضمان التقاعد الذي يمول هؤلاء المواطنون أنظمتَه من عرق جبينهم. للأسف، مرة أخرى فضَّلرئيسُ حكومة الكفاءات ورجال الأعمال الصمتَفي هذا الموضوع. – المقاصة وإشكالات المحروقات وتقلبات الأسعار: أثير هذا الموضوع ولم يستطع رئيس الحكومة التفاعل معه، طبعا لا بد من تفَهُّم الحرج الكبير الذي يجده أخنوش في تناول مثل هذه الملفات، فهي تعنيه بشكل مباشر من مستويات متعددة، منها كونه المستثمر الأول والفاعل المهيمنعلى هذا القطاع، إضافة إلى حكاية"الأرباح غير الأخلاقية لما قيمته 1700 مليار"، فضلا عن تداعيات تقرير مجلس المنافسة وتقرير اللجنة التي عينها جلالة الملك للتحقيق في أشغاله المتعلقة بملف المحروقات، إضافة إلى توصيات اللجنة التي أحالها جلالة الملك على رئاسة الحكومة لتفعيلها. لكن رغم كل هذا الحرج، فعلى رئيس الحكومة أن ينسى اليوم أنه فاعل اقتصادي، وأنه أغنى رجل في المملكة، وعليه أن يتصرف باعتباره رجل دولة عليه أن يتحمل مسؤولياته في كل الملفات، خاصة منها ملف المقاصة والمحروقات، الذي لا تحفى تأثيراته على الاقتصاد الوطني وعلى المعيش اليومي للمواطنين.وكان من المفروض أن يتفاعل رئيس الحكومة مع مداخلات البرلمانيين في هذا الموضوع من دون عُقَد، لكنه للأسف فضَّل الصمت مرة أخرى. وفي الختام، إن حكومة أخنوش تعاني من إشكالات بنيوية سيصعب عليها تجاوزها، فإذا كان تقليص "السياسة" في تركيبتها له مبررات موضوعية وذاتية وفقا لتقديرات أهل الحل والعقد، فإن ارتباكها وعدم وضوح خياراتها التدبيرية، وضعف تواصل رئيسها، وهيمنة كثير من "التقنويين" على ملفاتها الأساسية، كل هذا يؤشر على صعوبات جمة ستعترضها في مسارها الطويل والمثقل بآمال عريضة وحالمة تمَّ حشدُها وترويجها بوسائل شتى تحت ضغط رغبة التخلص من "تجربة العدالة والتنمية".إن هذا الأمر هو ما سيجعل حكومة أخنوش حكومةً مجبَرَة على تحقيق مطالب اجتماعية واقتصادية كبرى. لكن كيف السبيل إلى ذلك في محيط سياسي واقتصادي واجتماعي قَلِق ومضطرب، وبحكومة زادُها في السياسة قليل، وزادُها في التدبير غامض؟