تعتبر المفاهيم عموما مفاتيح للفهم وتشكيل للفكر النظري والعملي عموما.وتكتسي في الخطاب السياسي أهمية قصوى لا بالنسبة لمنتجيها أو مروجيها فحسب، بل لمستهلكيها أيضا،حيث تتحول بفعل كثرة استعمالها إلى شعارات تبرر ممارسة السلطة السياسية وتشرعنها،وتغطي على حقيقتها لزرع الوهم وسوء الفهم الذي يقود الى سوء العمل بالضرورة.ومن هنا سنقتصر على بعض المفاهيم التي يكثر استعمالها في الحقل السياسي المغربي عموما ، و التي تحولت إلى لازمة على لسان الفاعلين ضمن النظام السياسي وأداة لممارسة السلطة وشرعنتها ولو من طرف واحد.ومن بين أهم المفاهيم المشاعة بين المتدخلين في المجال السياسي نجد مفهومي "النظام الديمقراطي الحداثي" و" الامن والإستقرار". لقد راهن العهد الجديد في المغرب على تغيير الخطاب السياسي، أكثر من مراهنته على إصلاح النظام القائم، وبذلك ظهرت مفاهيم جديدة وبدأ التداول الاعلامي لها يكسبها مناعة من كل نقد وتفكيك.هكذا نجد بأن مفهوم "النظام الديمقراطي الحداثي " كتوصيف للنظام السياسي المراد إرساؤه على أنقاض النظام السابق ، معلنا من الجهات العليا في البلاد. وبذلك حاول كل خدّام المخزن أن يوهموننا بأنه مجرد الحديث عن هكذا نظام في كل الخطب والمؤتمرات والندوات والاستجوابات...كاف لجعل هذا النظام ،الذي لا نشك في أن مروجي هذا الخطاب من النخبة على الأقل على دراية تامة بمقدماته وشروط بنائه، يقوم في المغرب قياما تاما وكاملا !! هكذا إذن مع استمرار وتجذر المشروعية التقليدية للسلطة السياسية في البلاد ، والتي لازالت بعيدة كليا عن نموذج دولة "التعاقد الإجتماعي"، الذي نظّر له فلاسفة الأنوار،وفي ظل انعدام تام للفصل بين السلط التشريعية والتنفيذية والقضائية، وفي ظل وجود حقوق الانسان أيضا على مستوى الخطاب فقط، وفي ظل غياب سيادة القانون وعدم اتصافه بالعدالة والمساواة، في ظل كل هذه الاوضاع التي لا ينكرها إلا جاحد، لم يجد "مستشهروا" وموظفوا المخزن بصيغته الجديدة حرجا في التطبيل والتزمير للديمقراطية التي أصبحت واقعا قائما بمجرد وفاة الملك الراحل و"بيعة " الملك الحالي، وكأن النظام الديمقراطي ليس ثقافة وبنى وممارسات عقلانية لا يمكن أن تتحقق في ظل مجتمع تقليدي بكل المعاني الممكنة.أما صفة "الحداثي" التي ألحقت زورا وبهتانا بالنظام السياسي المغربي في العهد الجديد،فلا نعتقد بأننا محتاجون الى البرهنة على فشل مشروع التحديث الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في البلاد منذ الحصول على الاستقلال الشكلي إلى الآن ،في حين يبقى الحديث عن "الحداثة" كمنظومة قيم وكثقاقة تمجد العقل وتتديّن بالعلم في كل مجالات الحيات أو كروح للعصر، حديثا دون موضوع في الحالة المغربية، على الاقل هنا والآن. أما المفهوم الثاني الذي كثر استعماله مع الربيع العربي المبارك وصيغته المغربية ممثلة في حركة " 20 فبراير " المجيدة، فهو مقولة "الأمن والاستقرار".وهي المقولة - الشعار التي بدأ كل من يتوجس من تغيير جذري للبنى المكونة للنظام القائم في رفعها ،مثل إنذارات حكام مباريات كرة القدم، أمام كل مطالب بحقه، مما يجعل من هؤلاء " المتمردين" أو " الخارجين على الصف" أمام الرأي العام " مثيري فوضى". ولسنا محتاجين هنا الى القول بأن مفاهيم "النظام والاستقرار " تعود الى رائد المدرسة الوضعية المحافظة في العلوم الاجتماعية الفرنسي "اوجست كونت"، وإلى ظرفية ما بعد الثورة الفرنسية وما تبعها من ثورات وتمردات،رغم أنه أضاف الى هذه المفاهيم مفهوم "التقدم" الذي يعتبر قانون للطبيعة والمجتمع على السواء، بحسبانه ملازما للحركة التي لا ينفي أحد كونها سنة للحياة كلها. فهل يعني التشبث بمقولة "الاستقرار" أن النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي القائم حاليا في المغرب مثاليا لا يحتاج إلا للمحافظة عليه من كل تغيير غير مرغوب فيه ؟ وما هو نوع الأمن المدعى عليه ؟ هل أصبحت المطالبة السلمية بالحقوق تهديدا للنظام العام ؟ ومتى عاش الشعب المغربي في أمن واستقرار اقتصادي واجتماعي؟ أم المقصود فقط هو الاستقرار السياسي الذي يعتبر ضمانا لاستمرار الاستغلال الاقتصادي والسيطرة السياسية والهيمنة الايديولوجية ؟ هل الوضع العام الذي يجعل من فئة قليلة جدا تحتكر وسائل الانتاج والإكراه، مقابل وقوع الغالبية الساحقة من المجتمع ضحية لكل الأعطاب الاجتماعية من فقر وجريمة وبطالة وأمية ومرض... قابل للاستمرار إلى ما لا نهاية لمجرد قدرة المستفيدين منه على إبداع مفاهيم ومقولات وشعارات حسب الظروف والحالات تبرر الوضع القائم ؟ لا اعتقد ذلك، على الأقل هذا ما يعلمنا التاريخ... أن يتمسك الحكام بمقولات ايديولوجية بل وديماغوجية تزور الوقائع والأحداث، لتبرير وشرعنة سلطتهم التي غالبا ما تكون مفتقدة للمشروعية العقلانية التعاقدية، أو الديمقراطية تحديدا، فهذه مسألة مفهومة،لكن أن يشاركهم في هذه اللعبة ، التي لا يحتاج كشفها لنبوغ او ذكاء كبير، زمرة من مدعي تمثيل الشعب من اليمين واليسار، فهذا في حد ذاته سبب كافي لكي يكفر الشعب بكل ما يأتيه من كل هؤلاء، وكأني به استبطن قول إمام الاصلاح محمد عبده عندما صرخ قائلا : " أعوذ بالله من السياسة ومن لفظ السياسة ومن كل حرف يلفظ من كلمة السياسة، ومن ساس ويسوس وسائس ومسوس". ولعل هذا الوضع أيضا يمكن إدراجه ضمن مفهوم "الاستثناء المغربي" والذي يحتاج إلى مقال آخر لتفكيكه.