في غمرة هيجان أخطاء الحكومة ضد شعبها، وفي حق نفسها، تأبى النقابات من جهتها إلا أن ترتكب في حق من أوكلوها شرف الدفاع عنهم، وحملوها أمانة حماية مكتسباتاهم أخطاء حاسمة من طينة ودرجة حمق أخطاء الحكومة نفسها، وهذا ما تسير على منواله ووفقه النقابات التعليمية هذه الأيام. فبعد أن كانت نقطة الضوء الوحيدة في عيون رجل التعليم، أمست منفذه الوحيد على عوالم الموت السيئ المذاق والقبيح الوجه، إذ بعد سلسلة الاقتطاعات التي فرضتها وزارة التعليم في حق مجموعة من الإضرابات الجهوية المشروعة وصمت المكاتب النقابية الجهوية المطبق عنها، جاءت الطامة الكبرى بالاقتطاع عن الإضرابات الوطنية، ليتأكد للجميع أن النقابة لم تكن غير فزاعة بقبعة نضالية وعينين ودودتان، وأذرع من لفافات الحشيش، وبالطبع ببذلة مرقعة من أثواب فلاح غريب، أو بالأحرى رجل تعليم مسكين. منظر النقابات اليوم مفجع ومحزن للغاية، قريرة العين تنام، غير عابئة بما يسلب من مكاسب تحققت معها يوم كان المناضل الشجاع هو أول من يشحذ قرنيه للنطاح، وأول من يفكر بقلب الطاولة على الحكومة إذا كان عليها غير الملفات المطلبية للقواعد، أما اليوم فالحوارات الاجتماعية، هي مناسبات طريفة لتنعم بمتاع الحياة الدنيا، ومناسبة ظريفة للاستمتاع بما لذ وطاب، وإذ الاجتماعات النقابية بين الوزارة والنقابات مجرد مبادلات منافقة من المجاملات والمزاح الذي لا طعم له، يتجاوز الضحك من الشغيلة التعليمية بنكتة الدفاع عن حقوقهم إلى الاستهتار بهم، حيث دفعهم إلى الإضراب والتخلي عنهم فور السماع باقتطاع أجرة اليوم المضرب فيه. النقابة باختصار، صهيل بلا جواد. لا بل جوادا ممسوخا، إنها غراب ناعب، ففي الوقت الذي ننتظره فيها لتفك شفرة مآسينا وما سلب، ويسلب منا ولتحل سائر مشاكل بمواجهات وأفكار وتحركات ومواقف قوية وصلبة وشجاعة، تفاجئنا بالحل الذي لم تعرف سواه، وهو رقن البيانات الشديدة اللهجة فتجيش آلالاف الكلمات السكرانة بغضب الحياة الفارقة في الحماس، لإلهاء رجل التعليم عن رتابة حالة الموت التي يعيشها بعنتريات بياناتها العاجية والضاجة بالتهديد والشتائم والرغبة الجهوية في الالتزام بالخيار النضالي المجيد لتحقيق الانتصارات التي جاء "غودو". على النقابات أن تشعر بالعار من نفسها، فقد افتضح أمرها، ولتعتذر للجميع عن أخطائها في حق الجميع وفي حق تاريخها وفي حق حاضرنا ومستقبلنا، وإن مهمتها في صنع المعارك الدونكيشوتية على بياناتها الطويلة ما عادت تطرب أحدا، وخطاباتها كثيرة الطنطنة القليلة الفائدة المموهة والمسفسطة ما عادت آذاننا تحتمل الإنصات إليها، حتى لو تمنينا لو استمتعنا لهزيم الرعد لأجل أن تصاب ألسنة النقابيين بالخرس والخرص، فالخرس وحده هو من يليق بذوي الألسنة الثرثارة و الطويلة. وكأنب بمناضلي الأمس صاروا وعاظا وخطباء منابر، ليس لهم من هوية النضال إلا بعض المصطلحات المتهالكة التي يتمترسون خلفها من قبيل "نندد ب..." ومستعدون ..."، و" هذا لا يزيدنا إلا..." ، وغير هذا من الكلمات المموهة والمسفسطة التي تصوغ معارك طاحنة على مستوى الورق، وتفقد انتصارات على الأرض، ومعها تفقد مكتسبات، بل وحقوقا أيضا في توزيع مضحك ومتبادل لأوراق اللعب والأدوار بين الوزارة والنقابة فالأولى تقوم بصفع رجل التعليم وسرقة قطعة الخبز التي بيده، والنقابة تلعب دور الأخ الأكبر الوحش الراغب في الانتقام لأخيه الأصغر. مع كامل الأسف هذا هو الحال نقاباتنا ونقابييها الضعفاء جدا الذين يسبون الوزارة في بلاغاتهم لنا في الصباح ويسارعون عشية لتقبيل يد الوزارة ككائنات مجهولة التاريخ و الولادة، لتنعي فضيلة الدفاع عن حقوق الناس، وتحمل جسد كرامة رجل التعليم في موكب مهيب بعدد المخدوعين فيها بعواطف الود والحسرة إلى القبر الذي حفرته الحكومة على أقصى يمين الجحيم جحيم الاقتطاع.