المتتبع لأحداث و تطورات تنزيل مشروع إصلاح القطب الإعلامي العمومي الذي قدمه وزير الإتصال من خلال دفتر التحملات (cahier des charges) و الذي قوبل بمقاومة غير مسبوقة و شرسة من طرف المسؤولين عن القطاع يخلص إلى أن من يسير و يرسم التوجه العام للإعلام العمومي ليست الحكومة من خلال وزارة الإتصال بل جهات أكثر نفوذا و قوة من الحكومة المنتخبة من طرف الشعب و أن القانون المنظم للقطاع السمعي البصري الذي ينص على أن وزارة الاتصال هي الوزارة الوصية على هذا القطاع مجرد در الرماد على العيون و محاولة لإعطاء صورة ديموقراطية عن طريقة تسيير الإعلام الوطني في حين أن هذه الوزارة هي مجرد واجهة تلصق على جدارها قرارات جاهزة و محددة سلفا ترسم معالمها من وراء الكواليس.و الأدلة كثيرة على ذلك أولاها العصيان المدني الذي أعلنه مدراء القنوات العمومية ضد دفتر تحملات الحكومة و هو رد فعل غريب أدهش الجميع فكيف لموظفين أن يتجرؤوا و ينتفضوا علنا ضد قرارات الحكومة و وزير الاتصال الذي من المفروض يمثل رئيسهم المباشر؟ و لم يستطع هذا الأخير و لا حتى رئيس الحكومة الرد بالشكل الذي يظهر أن هؤلاء الموظفين يشتغلون تحت إمرتهم و يأتمرون بأوامرهم و اكتفيا بمهاجمة هذا التصرف اللامسؤول من داخل قبة البرلمان حيث انتقد وزير الاتصال الخرجات الإعلامية لمدراء القطب الإعلامي بالقول أنهم لم يقرؤوا دفتر التحملات الذي أعده و انتقد أيضا حصيلة عملهم و تسييرهم للمؤسسات الإعلامية و خصوصا القناة الثانية التي ذهب بها مديرها العام سليم الشيخ إلى حافة الإفلاس و كان لابد من تدخل الدولة عبر ضخ المزيد من ملايير الدراهم التي تستخلص من دافعي الضرائب لإنقاذها.و كان من المفروض على وزير الإتصال إن كان فعلا المسؤول الأول عن الإعلام العمومي أن يأمر بإعفاء سليم الشيخ من منصبه الذي أبان عن ضعف في الكفاءة و التسيير.وربما هذه نتيجة طبيعية بالنظر للمسار المهني لهذا الرجل والذي اطلعت عليه بالصدفة في إحدى المجلات حيث كان يدير شركة "Fromageries Bel Maroc" التي توزع ماركة "la vache qui rit" أو "البقرة الضاحكة" و التي لا علاقة لها بقطاع الإعلام و قد جيء به لكي يطبق سياسة البقرة الضاحكة على ذقون المغاربة. إن هذا الصراع بين الحكومة و مسؤولي الإعلام العمومي يظهر جليا أن ميزان القوى بينهما متكافئ و ربما ترجح الكفة إلى الطرف الثاني خصوصا أنه لم يسبق أن تغير مسؤولو القنوات العمومية مع مجيء و تعاقب الحكومات بل إن فيصل العرايشي ظل على رأس القناة الأولى و بعد ذلك مديرا عاما للقطب الإعلامي برمته عقودا من الزمن.هذا الأمر هو الذي يجعل الفساد يستفحل في المؤسسات العمومية و تتنامى فيها مستنقعات "للتماسيح" التي تكبر و تتقوى أضراسها و يصعب بعد ذلك افتكاكها لهذا لا يمكن أن تجد في الشركات الخاصة و خصوصا المتعددة الجنسيات "les mutinationales" أن مسؤولا يبقى في منصبه فوق أربع سنوات على أكثر تقدير كيف ما كانت نتائجه و رقم المعاملات الذي حققه فما بالك إذا كانت حصيلته عكس المتوقع أو جر الشركة إلى حافة الإفلاس فإن مصيره هو الطرد ذلك أنه كلما مكث مسؤول ما في منصبه مدة طويلة إلا و نسج علاقات كثيرة و قوية مع مختلف المتدخلين في عملية الإنتاج و بالتالي الاستفادة من جميع الصفقات خصوصا مع الممونين "les fournisseurs" و أيضا سيمكنه من إخماد أصوات المستخدمين المعارضين له و حتى مردوده في العمل سيتراجع عما كان عليه من قبل عكس المسؤول حديث التنصيب الذي تكون له نظرة جديدة للأشياء و متحمس للاشتغال و ربما يكشف أعطاب سلفه لتبرئة ذمته.و الدليل الآخر على عدم وجود سلطة للحكومة على القنوات العمومية هو عدم تطبيق النسخة الأولى من دفتر التحملات على الرغم من المصادقة عليه من طرف الهيأة العليا للاتصال السمعي البصري المعروفة اختصارا ب "الهاكا" و يجب بعد ذلك أن يدخل حيز التنفيذ كما ينص على ذلك قانون الإعلام السمعي البصري لكن و بعد التدخل الملكي الذي كان بمثابة انتصار لمسؤولي الاعلام لم يجرى تنفيذ دفتر التحملات بل أكثر من ذلك قرر الملك إعفاء رئيس مجلس الهاكا الذي وقع على دفتر تحملات الخلفي و تنصيب أمينة المريني خلفا له.هذا التنصيب الذي لم يدخل السرور و البهجة على المريني فقط بل حتى سميرة سيطايل مديرة الأخبار"لي ماكيحملش فيها بنكيران الشعرة" التي كما تداولته بعض الصحف أرسلت رسائل قصيرة عبر الهاتف للمقربين إليها من داخل القناة ابتهاجا بالخبر الذي هو انتصار معنوي لها و لمدراء القنوات العمومية.و التاريخ أيضا شاهد على خروج القطب الإعلامي العمومي عن سلطة الحكومة ذلك أنه كان في قبضة وزير الداخلية السابق القوي و أشهر من تعاقب على رأس هذه الوزارة الراحل إدريس البصري المقرب جدا من الملك الراحل الحسن الثاني و الذي كان آنذاك يعتبر الرجل الثاني في الدولة بدون منازع ويشرف على الأمن الداخلي و الإعلام العمومي حيث كانت وزارة الاتصال مدمجة في وزارة واحدة مع الداخلية وهي وزارة الداخلية و الإعلام. الكل متفق على رداءة التليفزيون المغربي و الفساد الذي يعتريه والكل يطالب بتغيير المسؤولين عنه و بإعادة النظر في البرامج المقدمة و عندما بادر وزير الاتصال و حاول إصلاح ما يمكن إصلاحه وقف الكل ,و أخص بالذكر البرلمانيين, موقف المتفرج من صراعه مع مسؤولي القنوات العمومية بل إن البعض دافع عنهم و قال إن من حقهم انتقاد قرارات الحكومة و إبداء آرائهم وهم في حقيقة الأمر لا يدافعون عنهم بقدر ما يحاربون الوزير الملتحي مهما كانت نيته في الإصلاح وفي نفس الوقت يخذلون المواطن المغربي الذي وضع ثقته فيهم و منح لهم صوته الذي بوأهم مقاعد مريحة في البرلمان. والكل يعلم أن القطب الإعلامي العمومي لا يتبع لوزارة الاتصال إلا على الورق لذلك قدم وزير الاتصال سابقا السيد العربي المساري استقالته كي لا تلتصق به تهمة تدني جودة التيلفزيون العمومي ويتلقى راتبا سمينا نظير ذلك.وكما صرح المفكر و الباحث المغربي الكبير المهدي المنجرة منذ زمن بعيد أن القناة الثانية هي مشروع صهيوني علماني فرنسي.فإذا كان الأمر كذلك فلماذا تناط مسؤولية الإعلام إلى وزير الإتصال؟ الأجدر أن يستقل الإعلام العمومي عن سلطة الحكومة و أن يموله من يتحكم فيه وليس دافعو الضرائب و أن يحرر هذا القطاع في وجه القنوات الخاصة و آنذاك يمكن أن يفعلوا ما شاءوا في التليفزيون العمومي و سنرى من سوف يتابعه أو يسأل عنه.