الإجرام غريزة حيوانية وعنف باطني في الإنسان ، ولكن كبته وتلطيفه لا يتم إلا بالقانون والمقومات الموازية في المجتمع كالدين والأخلاق والتربية. والمغرب من بين الدول التي تعاني حاليا من ظاهرة الإجرام والعنف المفرط. فما هي الأسباب التي تقف وراء هذه الأفعال والسلوكات الهمجية؟ قد يبادر كثير من المتتبعين إلى القول إن القبضة الحديدية للجهاز الأمني في العهد القديم، وعدم الاعتراف بحقوق الإنسان كانا سببا رئيسيا في تدني نسب الجريمة والعنف. وفي المقابل، إن العهد الجديد باعترافه بحقوق الإنسان والانفتاح قد مهد الطريق، ووفر الأرضية الخصبة لتجذر الجريمة واستفحالها داخل المجتمع المغربي. ولكن آخرين سوف يسارعون إلى القول إن الإجرام كان متفشيا منذ القديم بيد أن الإعلام كانت تتحكم فيه قناة واحدة هي الداخلية، ولم تكن الشبكة العنكبوتية أيضا منتشرة بالشكل الذي يجعلها تفضح كل صغيرة وكبيرة في الحال. ولكلا الفريقين نصيب من الحقيقة ولكن ما دلالة كلا القولين؟ كثيرة هي الأسباب التي تقف وراء ظاهرة الإجرام والعنف الهمجي المتصاعد. وفي غياب إحصائيات دقيقة ومحايدة لا يمكننا الاطمئنان إلى أي استنتاج أو حكم. ولكننا مع ذلك نستطيع القول ونحن واثقون إن التفكك الأسري، والهدر المدرسي، وغياب الوازع الديني المبني على العلم، وتدني العدل في جميع مستوياته، وغياب الشروط الموضوعية للعيش الكريم، كل ذلك ساهم بشكل كبير في تفشي الظاهرة وتناسلها. من دون أن ننسى المقاربات الحكومية التي تمرر غالبا عبر إملاءات النظرة المعيارية لا الوضعية، وهو ما فتح الباب مشرعا لاستقطاب شرائح واسعة إلى الميدان بعد أن كانت بعيدة أومترفعة. فاعتداء التلاميذ بعنف على الأساتذة، والاعتداء المضاد على التلاميذ، وقتل رجال شرطة على يد زميل، وإطلاق الرصاص على شرطي أثناء ممارسة عمله من مسدس خاص لشخص من طينة خاصة، والانتحار المتصاعد بمسدسات الخدمة والمحجوزات الكثيرة من الأسلحة في الموانئ والمطارات والحواجز الطرقية جعل المغاربة يستفيقون من غفوتهم ويدركون أن الأمر جد وما هو بالهزل. ولم يقتصرالعنف على هذه الفئة بل تعداها إلى عنف الأصول حيث رأينا من يقتل أباه أو أمه والعكس صحيح؛ حيث تعمد الأمهات العازبات إلى خنق مواليدهن أو تقطيعهم إربا من دون أي رحمة أو شفقة. وقد يتفهم المجتمع التخلي عن الأبناء وهم أحياء اتقاء العار والفضيحة، ولكن أن يتجاوز الأمر حدود المنطق الاجتماعي والإنساني والحضاري ويدخل منطق الغاب بالتقتيل بأبشع الصور فهذا ما لا يستساغ ولا يتقبله كل من في قلبه ذرة عاطفة أومسؤولية. وكل هذه الأعراض وغيرها تستدعي التشخيص المبكر والرصد قبل فوات الأوان. ولا ينحصر الإجرام في الدم بل يتعداه إلى العرض والمال؛ فحين يتعرض شخص للاغتصاب الجسدي ذكرا كان أم أنثى لا جرم أنه سوف يعيش بنفسية مريضة، ومن المتعذر أن يسترجع عافيته، وهو ما قد يدفعه إلى الانتقام إن آجلا أو عاجلا بطريقة أو بأخرى؛ يثأر لنفسه من الفاعل إن استطاع أو من المجتمع في شخص الضحية المختارة التي يسهل عليه إسقاطها في شباكه. أما المغتصب في ماله فلا يقل حسرة وألما وإحساسا بالظلم والغبن عن باقي الضحايا لذلك غالبا ما يلجأ بدوره إلى الانتقام بطرقه الخاصة. لذا ألا يمكن اعتبار الأطفال المتخلى عنهم والذين لم يتمتعوا بحضن الأمومة والأبوة والأخوة والقرابة والأسرة والمدرسة بصفة خاصة هم الذين يشكلون نسبة مهمة من هؤلاء؟ أليس من يسكن في وضعية غير لائقة حتى بالحيوانات هم بالدرجة الأولى من يكونون أكثر هشاشة وعرضة لممارسة الإجرام للتنكيل بالمجتمع؟ ناهيك عن المشردين ومروجي المخدرات وكل الممنوعات. إذن يستحيل الحديث عن الإجرام من دون ربطه بالمناخ العام والمحيط والمكونات المتمثلة في الجرم والمجرم والضحية والأمن والمجتمع. فلكي تتم العملية الإجرامية لابد من توافر شروطها؛ فعلى مستوى الفضاء كلما كان رجال الأمن بكثرة، وعم الضوء، وغص المكان بالناس، كلما قل أو انعدم الإجرام. وعلى المستوى الأخلاقي يندر أن يجرم من تربى تربية حسنة، وكبر في بيئة أسرية متزنة وميسورة الحال. أما في ما يخص الضحية _الذكر والأنثى_ فبدورها لو كانت ظروفها المادية مريحة لتجنبت التسكع في الليل والدروب المظلمة والانحراف... والجاني بدوره لو تآلف مع المجتمع بعمل يوفر له مصاريفه اليومية وبيتا يؤويه ويمنحه سلطة الأبوة لما اضطر إلى قطع الطريق أو القتل أو السرقة... فالغرابة هي المتحكمة في دواخل المجرمين بدل الألفة لأن الوطن لم يرحمهم، ولم يولهم حق عنايتهم، ولم يرد الاعتبار لهم. وهنا قمين بنا استحضار مفهوم الألفة عند جاستون باشلار لتطبيقه على الوطن. أقول هذا لأن أمثال هؤلاء "المواطنين" يعتبرون بلدهم فضاء غريبا وهم لا تحكمهم الألفة التي يحس بها المواطنون الصالحون. لذا لابد من تصحيح هذه الفكرة لديهم عبر إعادة إدماجهم بتمتيعهم بحقوق المواطنة كاملة (القراءة، العمل،السكن) ليحسوا بوضعهم الاعتباري، ويتذوقوا ألفة المكان، فيعملون على حمايته من كل المخاطر لأن العكس سيعرضهم ومصالحهم للخطر. ولا نكتفي بدمجهم عن طريق الإرشاد. فشتان بين المثالية والواقعية. فهؤلاء "المواطنون" إلى مساعدات مادية عينية أحوج منهم إلى مساعدات تثقيفية أو نصحية. فإذا كان هؤلاء مرضى نفسيا فعلى الدولة أن تتحمل مسؤولياتها، وتعمل على الحد من مسببات هذه الأمراض، أو محاولة تقليصها إلى الحدود الدنيا. أما أمثال هؤلاء المجرمين المرضى فلا تفتح لهم الأبواب على مصراعيها بعد قضاء العقوبات المخففة، بل يلزمها تتبع كل حالة على حدة وضرورة استدعائهم ومراقبتهم مراقبة دورية إلى أن يندمجوا اندماجا إيجابيا. وفي المقابل تقوم بحملة وطنية لجمع المشردين والمتسولين والأمهات العازبات وإدماجهم في المجتمع، ومحاولة خلق مناخ عام ينبني على الدمقرطة الحقيقية لامتصاص الاحتقان أو التخفيف منه في المدى القريب والمتوسط. إن الإجرام يشكل تهديدا للسلم الاجتماعي مع ما قد يترتب عنه من عواقب وخيمة تنعكس على الاقتصاد وسمعة البلاد. والمقاربات الأمنية مهمة للغاية ولكنها وحدها قاصرة عن بلوغ المرامي المتوخاة إذا لم تربط بالتربية المبنية على التسامح والتآخي والتحاور والتجاوز داخل الأسرة والمدرسة والشارع. ولا بد من ربط هذا كله بالمنظومة السجنية عن طريق إشراك علماء النفس والاجتماع والدين والقانون والفاعلين المدنيين، قصد إعادة الإدماج، وتخفيض نسبة العود مع فتح السجون في وجه البرلمان والمنظمات الحقوقية غير الرسمية الوطنية والدولية لتكون السجون كلها تحت سلطة الحكومة وخاضعة للمراقبة المستمرة. ولعل الدستور الجديد حين تحدث عن إحداث المجلس الأعلى للأمن في الفصل 54 منه كان على حق شريطة أن ينزل تنزيلا ديمقراطيا ليكون مجال الأمن موسعا ويخرج من إطار الأمن المخزني الكلاسيكي المبني على منظومة التحكم العام إلى الأمن القومي ليشمل جميع مكونات الأمة، لأن المشاورات كلما اتسعت قاعدتها إلا ودرست من جوانب أوسع وأشمل، فيتقلص التهور والقرارات الأحادية المتسمة غالبا بالمحاباة أو الظرفية أو المزاج.