طيلة اثنا عشرة سنة قضيتها كأستاذ بكلية الحقوق، وأنا أسأل الطلبة سؤالا بسيطا، هو ماذا نعني بصندوق المقاصة؟ فنادرا ما كنت أجد الجواب عن هذا السؤال الغريب أتذاك، لكن اليوم ،أصبح هذا الصندوق وعلاقته بالمجال الاجتماعي، معروف حتى لدى المواطن الذي لم تطأ قدماه لا مدرسة ولا كتابا، صحيح أن ما يجهله المواطن العادي هو أن هذا الصندوق تم تأسيسه من أجل مساعدة الطبقات المحدودة الدخل، عبر دعم المواد الغذائية الأكثر استهلاكا ،لكن اتضح بأن الطبقات الغنية والمتوسطة هي التي تستفيد من هذا الصندوق، لأنها الأكثر استهلاكا لهذه المواد المدعمة، ابتداء من الغاز الى السكر.ورغم ذلك، فهذا الصندوق لعب دورا كبيرا في تخفيف العبء عن الطبقات المعوزة، وفي تأكيد الدور الاجتماعي للدولة، وذلك إذا ما نظرنا الى حجم النفقات الاجتماعية في بنية التمويل العمومي، والأسئلة المطروحة في هذا الإطار، هو هل الظرفية الحالية تسمح بإلغاء هذا الصندوق؟ وماذا أعدت الحكومة كإجراءات موازية لتنفيذ هذه الخطوة الجد شجاعة ، والتي أعتبرها بمثابة انتحار سياسي؟ هل المدة التي قضتها حكومة الإسلاميين في إدارة الشأن العام كافية لاتخاذ مثل هذه المبادرات، التي لا يتخذها سوى كبار الساسة مثل اردوكان و تشافيز ؟ إلغاء صندوق المقاصة يدخل في إطار مجموعة من الشوائب التي تنخر المال العام،ومن الأسباب التي تجعل الميزانية في حالة عجز دائم، فإلغاء نفقات الدعم كان ضمن الوصفات التي نص عليها منظرو منظمات الإقراض الدولية سنة 1983، فالمعروف أن السلطات المالية أتذاك، التزمت تقريبا بجميع الوصفات المنصوص عليها في سياسة التقويم الهيكلي، إلا إلغاء صندوق المقاصة، رغم أن مستويات العجز والتضخم كانت تفوق بكثير وبدرجات عليا ما تعرفه المالية العمومية اليوم. فهل السلطات المالية كانت غير واعية بالضرر الذي يحدثه هذا الصندوق بالمال العام؟ وهل منظرو منظومة الإصلاح اليوم لم يجدوا سوى هذه الخطوة الجريئة -وغير المحسوبة العواقب- ليستهلوا بها الإصلاحات المنتظرة؟ فالإقدام على مثل هذه الخطوات، يتطلب ثقة لامتناهية من المواطن، وكاريزما تخول لك ارتكاب الأخطاء الفادحة، ويفسرها المواطن-مهما علت درجة وعيه وثقافته-لصالحك، فيقول انه لو لم يفعل هذا لخسرنا هذا. وهل تظن الحكومة أن مجرد الإعلان عن لائحة المقالع، ورخص النقل، وحمل شعار مكافحة الفساد بدون الشروع في تنفيذه، إجراءات كافية لتجعل المواطن يبارك مبادراتها من حين لآخر؟ فإلغاء صندوق المقاصة في هذه الظرفية مازال بعيد المدى، لأن المواطن لن يثق في الحكومة بما فيه الكفاية، فالثقة التي أفرزتها صناديق الاقتراع شيء، وواقع تدبير الشأن العام شيء آخر، المواطن يريد حلولا عاجلة لمشاكله، كره الانتظار والتضحيات. المطالبون بالتضحية اليوم ،هم هؤلاء الذين راكموا الثروات، واستفادوا من هفوات وأخطاء الحكومات السابقة، سواء عن قصد أو عن غير قصد. فمازال المواطن لم يشم رياح التغيير، ليتقبل مثل هذه المبادرة غير المحسوبة العواقب. مداخل الإصلاح بالمغرب متعددة، والتي بإمكانها أن تبت الثقة في المواطن و تنعش المالية العمومية، فالمنظومة الضريبية في حاجة الى تفعيل حقيقي، فالإدارة الضريبية عاجزة عن الضبط الضريبي، وحمل الممتنعين والمتلاعبين في هذا المجال على المساهمة في إنعاش خزينة الدولة، ليس لضعف الترسانة القانونية، أو لضعف قوتها الاقتراحية في ضبط هذا المجال، فهي تعتبر الأمر الناهي فيه، بإمكانها أن تقحم أي تعديل للمنظومة الضريبية عبر بوابة قوانين المالية، فمدونة الضرائب بكاملها صدرت ضمن قانون مالية 2007، ناهيك عن التعديلات اللا متناهية التي تصدر ضمن قوانين المالية، فالمشكل يتعلق بالرغبة الحقيقية في تأهيل هذا المجال، فنقص الموارد البشرية من الأسباب الرئيسية التي تعوق عمل الإدارة، فتوظيف الأطر والرفع من عدد المفتشين كفيل بحل هذه المعضلة، وبالتالي الرفع من الموارد، وحل مشكلة الباقي استخلاصه، ومحاربة القطاع غير الموازي، وكل مكامن الغش الضريبي. فالحكومة مازالت غير قادرة على استرجاع الأموال المنهوبة، وعلى مستوى الصحة، فالمغرب مازال لم يصل الى المستويات الدنيا للتطبيب، فطبيب لكل 10000 مواطن لا نجده حتى في بعض الدول الإفريقية، والاكتظاظ أصبحنا نجده حتى في المصحات الخصوصية. وبالنسبة لمنظومة التعليم،فالرغبة المعلنة اليوم للإصلاح ما هي إلا اعتراف بفشل هذه المنظومة، التي تعرف أوضاعا كارثية، بسبب تدني المستوى وانعدام شروط البحث العلمي، وندرة مراكز لاستقبال الأستاذ والطالب والتلميذ، وانعدام الحوافز لتشجيع البحث العلمي، كتجميد الترقية، مثلا فبإمكان الأستاذ الجامعي أن ينهي حياته المهنية، بدون أن يتجاوز درجة أستاذ التعليم العالي مؤهل، لأن مرسوم 19 فبراير 1997 يضع شروطا تعجيزية للترقي الى درجة أستاذ التعليم العالي، وذلك بسبب ضغط لوبي معين، من مصلحته أن تبقى الأوضاع كما هي عليها. وبالنسبة للأمن فالمملكة دخلت في مصاف الدول التي تعاني من تفاقم الجريمة. وأما البنية التحتية فما زالت دون المستوى، فعلى صعيد الطرق، فالأرواح تحصد بالدقائق لا بالساعات، كأننا نعيش حالة حرب، أبطالها طرقنا المتآكلة،كما أن السكن غير اللائق في ازدياد مضطرد، بسبب فشل السلطات المعنية في محاربة أسباب نموه . انطلاقا مما سبق، ماذا أعد أصحاب القرار اليوم بصفتهم ساهرين على الشأن العام لإلغاء صندوق المقاصة؟ وإذا افترضنا وتمت الموافقة على هذا الإلغاء، فكيف ستضبط السلطات المعنية العائلات التي ستستفيد من الدعم المباشر؟ التجربة أكدت في مجال محاربة السكن غير اللائق، أن المغاربة لا يساعدون على إنجاح مثل هذه المبادرات، فالكوخ "البراكة"غداة الاستفادة من هذا البرنامج تصبح له أربعة أبواب، أي عوض أن تستفيد عائلة، تستفيد أربعة عائلات. ألا يمكن أن يحول الواقع سياسة الدعم المباشر الى بزوغ ريع جديد يستفيد منه المقربون من السلطة بالمقابل أو بدونه؟ وبالتالي تحرم الفئات الأحق بهذا الدعم. وهل الحكومة قادرة على ضبط هذه السياسة؟ فالمسالة أعمق من خطاب أو إصدار قانون يلغي صندوق المقاصة، ويوجه الدعم مباشرة للمواطنين. فالإدارة العمومية - وما تحمله من بعض المفسدين، الذين سيصبحون يساومون بهذا الدعم ، إما بتلقي الرشاوى أو استعماله في فترة الانتخابات أو خلق مستفيدين أشباح – ستكون غير قادرة على إنجاح هذا القانون المنتظر. وإذا كانت الطبقة الغنية بإمكانها أن تتحمل تبعات هذه السياسة ،وذلك بالنظر للإمكانيات التي تنعم بها ،فما يمكن قوله بالنسبة للطبقة شبه المتوسطة؟ لا أقول طبقة متوسطة، لأننا في المغرب لنا طبقة قريبة من الطبقة الدنيا، فأغلبها يعيش بالقروض ودائما في حالة عجز، هذه الطبقة من المنتظر أن تندثر وتلتحق بالطبقة الدنيا أو أكثر، لأنها دخلت في التزامات كثيرة، وألفت طرقا للعيش غير عادية، انطلاقا من تدريس الأبناء في المدارس الخصوصية، وارتداء ملابس من صنف خاص، وقضاء عطل في أماكن معينة ... التي لا تدخر ولو سنتيما في آخر الشهر، فهل بإمكانها أن تتحمل عواقب وتبعات هذه السياسة المزمع الشروع فيها؟ السلطات العمومية في حاجة الى التروي، فهي مازالت في بداية ولايتها، قصر مدة إدارتها للشأن العام لا يسمح لها بتبني مثل هذه الخطوات السابقة لأوانها، فبالإمكان المراهنة على بعض المجالات البديلة لتنعش المالية العمومية، وتبت الثقة في نفس المواطن، وهي مجالات أصبح يشار إليها بالأصبع، ليس من لدن المتخصصين فحسب، بل حتى من لدن المواطن العادي، ونوردها على سبيل المثال لا الحصر: -التخفيف من الضغط الضريبي، وتحقيق عدالة ضريبية. -التقليص من النفقات الجبائية، والحد من سياسة الإعفاءات، خصوصا في المجالات الفلاحية ذات المردودية العالية -فرض ضريبة على الثروة، لحمل الأغنياء على المساهمة الفعالة في حل الأزمة المالية والاجتماعية. -تمتين طرق الرقابة على المال العام،مع تخصيص سلطة الزجر للمجلس الأعلى للحسابات ، ورفع عقوبة الجرائم المالية، واعتبارها خيانة عظمى. -- تبني سياسة شفافة لمحاربة اقتصاد الريع. -وضع ميثاق وطني للتقشف المالي، و عقلنة النفقات العمومية. -ضبط مجال الصفقات العمومية. - التخفيف من أسطول السيارات داخل الإدارة العمومية،وإصدار قانون يمنع السيارات الفارهة مهما كانت صفة المسؤول المستفيد. -تخفيض عدد النواب والمستشارين الى المائتين وإعادة النظر في تعويضاتهم،للتخفيف من النفقات . -إلغاء الرواتب العالية، والتي تتنافى مع بلد تعتمد ميزانيته على المساعدات والدين الخارجي، خصوصا في بعض القطاعات مثل جامعة كرة القدم، فمن غير المنطقي أن يساوي أجر المدرب الحالي أجر8 وزراء، و المدرب السابق أجر الحكومة بكاملها. -التخفيض من حجم الحقائب الوزارية، فلا يعقل أن تسير الوزارة الواحدة بوزيرين كما هو الحال بالنسبة للداخلية والخارجية والمالية، وحذف الحقائب الوزارية الفارغة، وإدماج الوزارات مثل الشباب والتضامن و الحكامة والداخلية والخارجية والجالية. -دمج الأقسام و المديريات للتخفيض من التعويضات والحوافز. يبدو أن الحكومة اليوم مطالبة بحل متناقضين، إما الإسراع في تنفيذ الإصلاحات وحل المشاكل التي خلفتها الحكومات السابقة، تلبية لرغبات الناخبين، أو التروي في تنفيذ سياسة الإصلاح، وهذا ما يرفضه المواطن الذي ضاق درعا من الانتظار وسياسة التسويف ،وهذا ما تراهن عليه المعارضة وجيوب مقاومة الإصلاح لإظهار فشل الحكومة. فالمنطق يظهر بأن ما تم إفساده لسنوات وعقود لا يمكن ترميمه خلال سنة أو سنتين، فتقييم العمل الحكومي يجب أن يشمل ولاية كاملة، خصوصا أن الحكومة الحالية تحملت المسؤولية في ظرفية صعبة(الأزمة المالية العالمية ، والحراك العربي، والجفاف...)، الكل يعرف آثارها على مصادر التمويل، وبالتالي فالجميع مطالب بالتعاون من أجل توفير المناخ الملائم لإدارة الشأن العام في أحسن الظروف، فالمتعطشون للسلطة وكذالك الذين ألفوا الاستوزار، وأبهة الدواوين، وتعويضات المسؤولية "والحبة والبارود اللي من دار القايد"، يجب أن يعلموا أن مصلحة الوطن قبل كل شيء، فالمعارضة البناءة الغرض منها التنوير لا التضليل، وتنبيه أصحاب القرار ومساعدتهم على إخراج الدولة من الأزمة. أستاذ المالية العامة بجامعة محمد الخامس السويسي