قيل الكثير عن الزيادة الأخيرة في أسعار المحروقات ومبرراتها، لكن بلغة لا يفهمها إلا المهتمون بالشأن الاقتصادي، فكيف يمكن تفسير هذا القرار للمواطن البسيط؟ يعيش المغرب هذه السنة وضعية اقتصادية ومالية صعبة. وقد استلمت الحكومة الحالية مهامها في ظل تراجع مؤشرين اثنين، أولهما عجز الميزانية، الذي وصل إلى 6.1 في المائة من الناتج الداخلي الخام، وهو ما يعادل 50 مليار درهم، وهو ما أدى إلى تزايد نسبة الدين واستأنف الدين العمومي منحاه التصاعدي. أما المؤشر الثاني، فيرتبط بالحساب الجاري لميزان الأداءات الذي يحدد العلاقات التجارية والمالية بين المغرب وباقي العالم. وصل عجز هذا الميزان إلى غاية متم 2011 نسبة تناهز 7.9 في المائة، وهو ما يعادل بلغة الأرقام 65 مليار درهم. تفاقمت هذه الوضعية الاقتصادية الصعبة في الأشهر الأولى من السنة الجارية بحكم آثار الجفاف وتراجع علاقاتنا التجارية مع الخارج. غير أن العامل الأكثر تأثيرا يتمثل في ارتفاع الفاتورة الطاقية. لأول مرة في التاريخ يتم تسجيل معدل 118 دولار لبرميل النفط في الأشهر الأولى من السنة. في السنة الماضية، لم يتعد هذا المعدل حاجز 104 دولارات وفي 2010 ظل في حدود 78 دولار. وبصرف النظر عن تأثير هذا التطور على الميزان التجاري، فقد تسبب في استهلاك ما يناهز 80 في المائة من الميزانية المخصصة لصندوق المقاصة في الأشهر الخمسة الأولى من السنة الجارية. بلغة الأرقام، استهلكنا 22 مليار درهم، استهلك الغازوال وغاز البوتان مجملها. وإذا استمررنا على المنوال، فإن إجمالي الميزانية المخصصة لصندوق المقاصة في 2012، والتي تبلغ 32 مليار درهم، ستنفذ في منتصف يوليوز المقبل. وفي هذه الحالة، سينهي صندوق المقاصة هذه السنة بميزانية قياسية تصل إلى 60 مليار درهم. ما معنى هذا؟ معناه أننا مضطرون للبحث عن 26 مليار درهم إضافية لتغطية نمو نفقات المقاصة. ولذلك وجدت الحكومة نفسها أمام خيارين لتعبئة هذا الغلاف المالي. يتمثل الخيار الأول في الاستنجاد بتخفيض بنفقات الاستثمار. وهذا حل بسيط لن ينتبه إليه المواطنون ولن يفطنوا إليه. هذا ما كان معمولا به في السنوات الماضية؟ أتكلم فقط عن هذه الحكومة. لن ينتبه المواطنون تماما لقرار الاستنجاد بنفقات الاستثمار إلا بعد مضي سنتين أو ثلاث حين تتراجع نفقات الصحة والتعليم. شعبيا، لن يفطن أحد لهذا الإجراء، ولكننا سنوجه ضربات قاصمة للتنمية والتشغيل. وقد استبعدنا هذا الخيار. أما الخيار الثاني فيهم نفقات الاستهلاك من قبيل مصاريف الحفلات والسيارات والوقود. اتخذنا بشأنه إجراءات ستمكننا من توفير 5 ملايير درهم. وكانت هذه الزيادة الخيار الثالث المتاح للحكومة من أجل الحد من تفاقم نفقات المقاصة. ويجب التأكيد على أن هذه الزيادة محدودة، لأننا لا زلنا ندعم المواد التي تقرر أن تشمل هذه الزيادة، وهي الغازوال والبنزين والفيول الصناعي. عبد الإله ابن كيران، رئيس الحكومة، علل بوجود ميزانية الدولة في حالة خطر. هل تعتبرون أن هذا القرار كافيا لإنقاذ الميزانية من هذا الخطر؟ هذا القرار كاف في الظرفية الحالية لاعتبارات وجيهة. لو أننا انسقنا للقرارات الشعبية، لبلغ الدين العمومي نسبة لا تطاق. هذا الدين يتراكم تلقائيا بمجرد اللجوء إليه. يوجد الآن في مستوى معقول. ومن شأن ارتفاع الدين العمومي أن يفقد الدولة مصداقيتها أمام شركاء المغرب المؤسسات المالية الدولية، وسيؤدي إلى تراجع الصورة الاقتصادية للمغرب. وينجم صعوبات في الحصول على القروض وتطبيق نسب فوائد مرتفعة بسبب ارتفاع مخاطر الإقراض. أكثر من ذلك، قد تصل مستوى لا يقبل فيه أي طرف إقراض الدولة وإن ارتفعت نسبة الفائدة. هل يمكن أن تلجأ الحكومة إلى الاستدانة، خصوصا أن العدالة والتنمية كان يعلن دائما معارضته للجوء إلى الاستدانة؟ قرار الزيادة في أسعار المحروقات سيقلص اللجوء إلى الاستدانة، لأنه سيوفر 15 مليار درهم. كما أنه سيحافظ على مصداقيتنا المالية والاقتصادية ويبقي شروط الحصول على التمويل في مستويات معقولة. الارتفاع الحقيقي للأسعار يكون عندما ترتفع معدلات شروط الحصول على التمويلات، وليس عند إضافة درهم أو درهمين للحيلولة دون ارتفاع الدين العمومي. ولهذا السبب ارتأينا تفعيل إجراء يمكننا تحمل تبعاته، من باب المسؤولية والواجب. ولم تفكروا في تكلفته السياسية؟ المواطن المغربي له من الذكاء الاقتصادي والمالي ما لا يتمتع به غيره. أكيد أنه سيفهم بعد التفكير في أسباب هذا القرار أنه اتخذ من أجل توفير الأموال الضرورية لإنجاز المشاريع الاقتصادية والاجتماعية وحفظ الصورة الاقتصادية للمغرب، بالإضافة إلى توفير شروط التنمية والتشغيل. وأضرب لكم مثلا برب بيت كان بصدد تشييد منزل لأسرته، فوجد نفسه في عسر مالي. سيجد نفسه بكل تأكيد أمام خيارين: إما أن يتشدد قليلا في النفقات ويواصل البناء أو أن يستمر في الإنفاق على المأكل والمشرب ويوقف أشغال تشييد المنزل. خيارنا إكمال الإصلاح وتوفير شروط التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ولو تطلب ذلك زيادة درهم أو درهمين في أسعار المحروقات. لكن هذا الدرهم وهذين الدرهمين في واقع الأمر دراهم. مواد وخدمات كثيرة ستعرف أسعارها بدورها زيادات وسيستشعر ميزانية المواطن هذه الزيادات... يجب أن نفصل في هذا المقام بين الزيادات الناجمة عن قرار الحكومة القاضي برفع أسعار المحروقات وبين تلك المترتبة عن المضاربات والربح غير المشروع. مثلا، النقل العمومي بين الرباط وسلا، قطع مسافة 10 كيلومترات يستنفذ لترا من الوقود، وهذا معناه أن سيارات الأجرة ستضيف 20 سنتيما على كل شخص. وقد عقد الوزير المنتدب في الداخلية اجتماعا مع الأقسام الاقتصادية والاجتماعية في العمالات بخصوص هذا الموضوع، ولا سيما أن قطاع النقل العمومي مقنن ولا يمكن إقرار زيادة فيه بدون قرار رسمي. وبالنسبة إلى قطاع نقل البضائع، تأكد حسابيا أنه لا يمكن زيادة أكثر 6 سنتيمات في الكيلوغرام الواحد في كل ألف كيلومتر. وكل ما يخرج عن هذا الإطار، فإنه يعتبر من المضاربة والربح غير المشروع والحكومة ستعمل على التصدي لها لكي لا ينسب للقرار الحكومي ما لا يتحمل مسؤوليته. كما أننا سنحرص على شرح هذا الموضوع للمواطنين. الخطر أن الناس يفهمون أن أي زيادة ناجمة عن قرار الحكومة القاضي برفع أسعار المحروقات. بعد هذا القرار المفاجيء، تطرح تساؤلات عن القرارات التي ستتخذها الحكومة في إطار إصلاح صندوق المقاصة وما إذا كان هذا الإصلاح سيؤدي إلى ارتفاع الأسعار؟ إصلاح صندوق المقاصة يتضمن حزمة من الإجراءات. يكتسي شقها الأول طابعا ماليا ويتمثل في توفير هوامش في الميزانية العامة من أجل استثمارها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وماذا على المستوى الإجرائي؟ إجرائيا، هناك الشق المالي المشار إليه. وجانب آخر يقوم على الاستهداف عبر التركيز على الفئات الأكثر حاجة. فصندوق دعم التماسك الاجتماعي استهدف، رغم أنه لا يزال في بداياته، فئات محددة. نظام المساعدة الطبية على سبيل المثال يستهدف 8.5 ملايين مواطن، أغلبهم دخلهم محدود. الفئة الثانية هي ذوي الاحتياجات الخاصة، وتتكون بالأساس من المعاقين والأرامل، ستستفيد من برنامج خاص، بالإضافة إلى الأسر الفقيرة، خصوصا في العالم القروي، التي تستفيد من برنامج "تيسير"، الذي تم دمجه في صندوق دعم التماسك الاجتماعي، شرط تمدرس الأطفال وصحة الأم وأبنائها. وسنعمل على توجيه كل ما يتم اقتصاده من أموال المقاصة إلى دعم الفقراء. متى سيتم تعميم هذا الدعم؟ هل تتوفر الحكومة على أجندة زمنية لتعميمه؟ سيتم تفعيل هذا الإصلاح بالتدريج. علما أن نظام المساعدة الطبية بدأ مع الحكومة السابقة التي أرست دعائمه ووضعت أسس تدبيره وحظيت الحكومة الحالية بشرف التعجيل بتنزيل بتعليمات ملكية سامية. رئيس الحكومة والوزير المكلف بالشؤون العامة والحكامة أكدا في تصريحات صحافية أن إصلاح المقاصة سيتم قبل متم السنة الجارية. ما هي الخطوات العملية لإقرار هذا الإصلاح؟ وهل سيتم إلغاء دعم بعض المواد الأساسية؟ لا يمكنني قوله إن مسلسل إصلاح المقاصة انطلق مع صندوق دعم التماسك الاجتماعي. ويجب كذلك ألا نغفل مجموعة من الإجراءات التي تم إقرارها في قانون المالية في إطار تكريس بعده الاجتماعي. فهذه الإجراءات تندرج ضمن مسلسل إصلاح المقاصة وتكريس ثقافة استهداف الفئات الأكثر فقرا مثل صندوق التكافل العائلي الذي تم تفعليه وتعبئة غلاف مالي لدعم الفئات المستهدفة منه. لا ننس أيضا مراجعة قيمة منح الطلبة وإعفاء 3 ملايين ونصف المليون أسرة. تلزم الإشارة أيضا إلى دعم الأدوية المزمنة 900 مليون درهم، و الإعفاء من رسم الفضاء السمعي بالنسبة إلى الأسر الفقيرة، ومليوني درهم في إطار نظام التخفيف من آثار الجفاف، و13.2 مليار للحوار الاجتماعي. تم اتخاذ مجموعة من الإجراءات على أساس هذه العقلية ووفق ثقافة الاستهداف. كان ذلك بمثابة إعلان عن العمل على توسيع هامش التحرك في الميزانية في مجال تفعيل السياسات العمومية وفي الآن ذاته اقتصاد نفقات وتوجيهها إلى فئات معينة تعيش في وضعية صعبة أو تفتقر لمصادر مدرة للدخل مثل الطلبة. إذا كان الأغنياء قادرين على تحمل هذه الزيادات صار للفقراء برامج تستهدفهم. فما موقع الطبقة المتوسطة في هذا الإصلاح؟ تتكون هذه الفئة بالأساس من المأجورين. وقد استفادت هذه الفئة من الحوار الاجتماعي بغلاف مالي وصل إلى 13.2 مليار درهم. وقد أدت توافقات الحوار الاجتماعي إلى ارتفاع الأجور بنسبة 27 في المائة.. أتحدث عن القطاع العام. وصل الحد الأدنى للأجر إلى ألفين و800 درهم، وارتفع متوسط الأجور بدوره ليصل إلى 7 آلاف و200 درهم. وهذا يعني أن الطبقة المتوسطة نالت بدورها حظها من الإجراءات الممهدة لإصلاح المقاصة. وقد بينت الدراسة الأخيرة التي أنجزها مجلس المنافسة أن الفقراء والطبقة المتوسطة هما الفئتين الأقل استفادة من المقاصة. الدراسة بينت أن 20 في المائة من الأغنياء يستفيدون من المقاصة 5 مرات أكثر من الفقراء. وبالإضافة إلى الحوار الاجتماعي، تستفيد الطبقة المتوسطة من السياسات الاجتماعية سواء في التعليم أو الصحة. كما أن مناقشة قانون المالية للسنة الجارية شهدت حديثا عن إمكانية أن يتضمن قانون المالية للسنة المقبلة إجراءات لدعم الطبقة المتوسطة. هل ستشمل هذه الإجراءات القطاعين العام والخاص أم أنها ستنحصر في القطاع العام على غرار التدابير المتخذة في إطار الحوار الاجتماعي؟ في القطاع الخاص، ربما هناك مشلكة في الأجور الصغرى، في حين هناك تنافس بين القطاعين العام والخاص في مجال استقطاب الأطر. تضع هذه الحكومة إصلاح أنظمة التقاعد ضمن أولوياتها. ما هي السيناريوهات المحتملة لإقرار هذا الإصلاح؟ لا يمكننا الحديث عن السيناريوهات المتاحة لإصلاح أنظمة التقاعد، ولكنني أؤكد أن هذا الإصلاح يكتسي أهمية للعديد من الاعتبارات ذات طبيعة اجتماعية ومالية. إذ يتوجب الحفاظ على التوازنات المالية لهذه الصناديق لأنه ضرورة اجتماعية أيضا من أجل ضمان القدرة الشرائية لهذه الفئة من المواطنين. هناك أيضا جانب مهم من هذا الإصلاح، يتعلق بالحاجة إلى توسيع دائرة المستفيدين من هذه الأنظمة. وعلى هذا الأساس، سيركز الإصلاح على البعد الاجتماعي بالموازاة مع حفظ التوازن المالي لهذه الأنظمة. اللجنة التقنية تشتغل منذ زمن، وقد اجتمعت على الأقل عشر مرات منذ تعيين الحكومة الحالية. كما أن المكتب الدولي للشغل أدلى بآرائهم بشأن هذا الإصلاح وأحيلت على اللجنة. والآن تبقت بلورة الإصلاح وفق منطق الشراكة مع الفرقاء الاجتماعيين والاقتصاديين. وهل هناك أجندة زمنية لتفعيل هذا الإصلاح، خصوصا أن أنس العلمي، الرئيس المدير العام لصندوق الإيداع والتدبير، أكد، قبل أسبوعين، في لقاء حول إصلاح أنظمة التقاعد، أن تفعيل هذا الإصلاح يستوجب قرارا سياسيا من قبل رئاسة الحكومة بناء على تقرير اللجنة المكلفة بالموضوع؟ يجب التأكيد، أولا، على أن الإصلاح ورش وطني بامتياز وتتم مناسبة مع جميع الأطراف المعينة به. نذكر أيضا بأن إصلاح أنظمة التقاعد كان ضمن قائمة الإصلاحات التي اعتبرناه في قانون المالية ذات راهنية، إلى جانب إصلاح المقاصة والإصلاح الجبائي. هل سيتم تفعيل هذه الإصلاحات في هذه السنة أو أنه ستتم إعادة التذكير براهنيتها في مشروع القانون المالي للسنة المقبلة؟ لا توجد علاقة بين هذا الإصلاح وقانون المالية. هذا الأخير مجرد منافسة لتفصيل هذه الإصلاحات. والأهم أن التحديات واضحة والسيناريوهات الممكنة محددة، ولم يبق سوى مدارستها مع الأطراف المعنية بهذا الإصلاح قبل أجرأته. عموما، هذا إصلاح لا يحتمل الانتظار. تعتبر هذه السنة استثنائية. بالكاد أنهت الحكومة مسطرة المصادقة على مشروع القانون المالي للسنة الجارية حتى حان الموعد المألوف لإعداد مشاريع القوانين المالية. هل شرعتم في إعداد مشروع قانون مالية 2013؟ سنشرع في إعداد هذا المشروع في مستهل النصف الثاني من السنة الجارية، بالموازاة مع مباشرة إصلاح القانون التنظيمي لقانون المالية. هل يمكن أن يبلور مشروع قانون مالية 2013 وفق قانون تنظيمي جديد؟ يتوقف ذلك على توفر الوقت الكافي لتفعيل أجندة إصلاح القانون التنظيمي لقانون المالية. سنعقد في الأسبوع المقبل يوما دراسيا في البرلمان من أجل تبادل وجهات النظر حول هذا الإصلاح، وسنحاول على الإسراع بتفعيله. وحتى إذا لم يكن ممكنا إنهاء مسطرة المصادقة على القانون التنظيمي لقانون المالية قبل حلول موعد مناقشة مشروع قانون المالية للسنة المقبلة، فإننا سنحاول أن يكون هذا المشروع نسخة تجريبية لهذا الإصلاح. ما هي توقعاتكم بخصوص النمو الاقتصادي في السنة المقبلة؟ ستكون 2013 في غالب الأحيان أفضل من السنة الجارية لأننا نتوقع تحسنا في المبادلات التجارية على ضوء توقعات بانتعاشة الاقتصاد العالمي، خصوصا الاقتصاد الأوربي. وإذا كان الموسم الفلاحي المقبل مطرا، وهذا ما تمناه، فستكون له تأثيرات إيجابية للغاية على النمو الاقتصادي. يومية المساء عدد الثلاثاء 12 يونيو 2012