كيف نعمل في إطار ''نِضال جماهيري مُشترك'' (مثل ''حركة 20 فبراير'') ؟ هل نعمل كأفراد، أم كجماعات ؟ من هم الأعضاء المقبولون في إطار ''النضال الجماهيري المُشترك''، هل هم الأحزاب، والهيئات، والتّيارات، والجماعات، أم هم المُواطنون الأفراد التّقدّميون ؟ لماذا يجب أن نعمل داخل ''حركة 20 فبراير'' كمواطنين أفراد تقدمّيين، وليس كجماعات حزبية مُتماسكة أو مُنسجمة ؟ ميزة النضال الجماهيري المشترك لقد جاء (ما أطلقتْ عليه الصّحافة عبارة) ''حِراك الربيع العربي''، أو ''الحِراك الديمقراطي''، (الذي انطلق منذ بداية سنة 2011 في تونس، ثم مصر، واليمن، وليبيا، وسوريا)، جاء بأشياء جديدة لم نكن نعرفها من قبلُ في منطقتنا. ومنها مثلا (ما نُسمّيه) ''النضال الجماهيري المُشترك''. والميزة الأساسية الأولى ل ''حركة 20 فبراير'' بالمغرب، هي أنها نضال جماهيري مشترك. ومعنى هذا المفهوم أنه ليس بنضال ذي طبيعة نقابية، أو حزبية، أو جمعوية (نسبة إلى جمعية مُعيّنة)، أو فئوية. والأعضاء المشاركون في ''النضال الجماهيري المُشترك''، ليسوا هيئات حزبية، أو نقابية، أو جمعوية، وإنما هم مواطنون أفراد تقدّميون. و يبقى هذا ''النضال الجماهيري المُشترك'' مفتوحًا باستمرار على كل المواطنين التقدّميين. ويمكن لهؤلاء المواطنين الأفراد، متى شاءوا، أن يُشاركوا في هذا ''النضال الجماهيري المشترك''، أو أن ينسحبوا منه. [وقد لاحظنا مثلا أن فئات مُجتمعية مَيسورة نسبيا، شاركت بقدر هام وفعّال في ''حركة 20 فبراير'' خلال سنة 2011، بينما خلال سنة 2012، بقيت تُشارك في الحركة على الخصوص فئات مُجتمعية مسحوقة نسبيا]. والمشاركون في هذا ''النضال الجماهير المُشترك'' هم الذين ينظّمون أنفسهم، حسب الأشكال التنظيمية التي تلائمهم. ويتشاورون فيما بينهم، ويخطّطون، ويقرّرون، وينفّذون اختياراتهم، بشكل جماعي، وذلك عبر لقاءهم في جمع عام، أو من خلال لِجان عمليّة، أو ظيفية، مُتخصّصة. وكل مناضل لم يَفهم جيّدًا ميزة ''النضال الجماهيري المُشترك''، يمكنه أن يتحوّل إلى مُعرقل لهذا النضال، أو قد يسقط في أخطاء، أو في انحرافات، تضرّ بهذا الصّنف من النضال. وقد فهم المناضلون منذ البداية أنه، لو كان حزب مُعيّن، أو حتى تحالف بين عدّة أحزاب، هو الذي دَعَا إلى إنطلاق حركة نضالية مثل ''حركة 20 فبراير'', لما كان حجم هذه الحركة كبيرًا، ولما كانت مُدّتها طويلة. والسّر الذي يفسّر كِبَر حجم ''حركة 20 فبراير''، ويُفسّر امتدادها عبر الزمان، هو أن الأشخاص الذين بادروا إلى الدّعوة إلى انطلاق هذه الحركة، أو إلى تنظيم أنشطتها، كانوا يفعلون ذلك بصفتهم مُواطنين تقدّميين عاديّين، وليس بصفتهم متحزّبين ينتمون إلى أحزاب، أو إلى هيئات مُحدّدة. وقوّة ''حركة 20 فبراير'' تأتي من كونها لا تنتمي إلى أية هيئة سياسية مُعيّنة. ولا يستطيع أي حزب، أو جماعة، أو تيار، أن يدّعي أنه هو الذي دعا إليها، أو خطّط لها، أو نظّمها، أو قادها. فلا تخضع ''حركة 20 فبراير'' إلى قيادةِ، أو إلى هيمنةِ، أية قوة سياسية، أو نقابية، أو جمعوية. وفي حالة إذا ما قبلنا بأن تكون العضوية داخل ''النضال الجماهيري المشترك'' للأحزاب، والهيئات، والتيارات، والجماعات، فإن العمل داخله سيتحوّل من عمل جماعي بين أفراد، إلى تنسيق عسير فيما بين هيئات سياسية متنافسة. والتنسيق فيما بين هيئات سياسية هو أكثر صعوبة، وأكثر عُرضة للتّعثر، أو للتوقّف، أو للإنشقاق، أو للإنشطار. أمّا داخل ''حركة 20 فبراير''، فإن الأعضاء الذين يناضلون فيها ليسوا أحزابًا، أو جماعات، أو تيارات، أو خليطًا من هذه القوى، وإنما هم مواطنون أفراد تقدّميون. صحيح أن نسبة مُعيّنة من مناضلي ''حركة 20 فبراير'' هم مناضلون مُتحزّبون، والباقون هم غير مُتحزّبين. وصحيح أيضا أن نسبة من هؤلاء المناضلين ينتمون إلى تيارات أو مشارب فكرية متنوّعة. لكنهم كلّهم يعملون داخل ''حركة 20 فبراير'' كمواطنين أفراد تقدّميين، وليس كجماعات حزبية، أو نقابية، أو جمعوية. نقبل التّنافس بين الأفكار كأفكار، ونرفض التّصادم بين الجماعات كجماعات من الطبيعي أن توجد داخل كل شعب جماعات مُتنوّعة ومتعدّدة. ومن العادي أن ينتمي بعض المناضلين الأفراد المُساهمين في أي ''نضال جماهيري مشترك'' إلى أحزاب، أو تيّارات، أو جماعات، أو هيئات، مختلفة. ومن المقبول أن يوجد تنافس فيما بين أفكار هذه الجماعات والهيئات. ومن المُفيد أن نقارن بين برامجها لكي نفرز من هو البرنامج الذي يُلائم أكثر من غيره مصالح الشعب، ويعود عليه بأكبر منفعة. لكن ما هو غير مقبول، وغير مُجدٍ، هو أن يتحوّل الصراع بين أفكار هذه الهيئات إلى صراع عقيم بين الجماعات كجماعات. لماذا ؟ لأنه كلّما تحوّل الصراع من البحث عن الحقيقة، أو عن الأفكار التي تكون أكثر إفادة للشعب، إلى صراع يهدف بشكل أعمى إلى تغليب الجماعة التي ننتمي نحن إليها، أو إلى إقصاء، أو إلى القضاء على، كلّ من هو مُخالف لنا، فإن هذا الصنف من الصراع يُؤدّي إلى العرقلة، أو إلى هَدْر الطاقات، أو يُنتج الخراب، أو يؤدّي إلى التّخلّف، أو إلى الانحطاط. لذا نقول : نرحّب بالصراع الموضوعي بين الأفكار كأفكار، ونرفض الصراع الذّاتي، أو العَصَبِي، بين الجماعات كجماعات. وغالبًا ما يكون الحلّ الوحيد الفعّال لتلافي الصراع بين الجماعات كجماعات في إطار مَا، هو تخصيص العُضوية في هذا الإطار إلى المواطنين الأفراد التقدّميين، ورفض عضوية الهَيْئات كَهَيْئات. المنطق الحزبي والميزة الأساسية الثانية ل ''النضال الجماهيري المُشترك'' (مثل نضال ''حركة 20 فبراير'' بالمغرب) هو أنه لا يخضع للمنطق الحزبي. والمقصود بمفهوم ''المنطق الحزبي'' هو ذلك المنهج الذي يجعل الحزب يهدف، من خلال مجمل أفكاره، وبرامجه، وأنشطته، وحركاته، إلى تقوية ذلك الحزب، وتمتين فعاليّته، وتثبيت غَلبته، وتعزيز انتصاره. حيث في المنطق الحزبي، يكون الهدف الأسمى للحزب، هو الحزب نفسه، وليس شيء آخر سِواه. فإذا كان المناضلون المُتحزّبون (الذين يعملون داخل ''نضال جماهيري مُشترك'') يُخضعون أفكارهم أو سلوكهم للمنطق الحزبي وحده، فإنهم سَيَكُونون في هذه الحالة مَهْوُوسين فقط بتغليب مصالح حزبهم على مصالح الجماعات الأخرى. ولن يستطيعوا الإهتمام بإنجاح النضال الجماهيري المُشترك. والنتيجة في هذه الحالة، هي أنهم سَيَضُرّن بالنضال الجماهيري المُشترك، وسيضرّون كذلك بحزبهم. وإذا كان المنطق الحزبي مُبرّرًا داخل الحزب، ويؤدّي إلى نتائج مُعتبرة، فإنه لا يلائم النضال الجماهيري المشترك. بل يحتاج النضال الجماهير المُشترك إلى منطق آخر مُخالف، ونُسمّيه ''منطق النضال الجماهيري المُشترك''. وهذا المنطق الأخير يتميّز بكونه يُعطي الأسبقية إلى إنجاح النضال الجماهيري المُشترك، ولو كان إنجاح هذا ''النضال الجماهيري المُشترك'' يقتضي مرحليّا تناسي الحزب المعني، أو تَقْليص دوره، أو التّساهل في خدمة أهدافه. والمناضل الثوري الحقيقي يُدرك أن الهدف الأسمى لكل نضال، يبقى هو إصلاح المُجتمع، وتغييره، في اتجاه بلوغ الحرية، والتقدّم، والتضامن، والعدل، والعقلنة. والحزب الثوري هو مجرد وسيلة من بين عدّة وسائل نضالية مُتكاملة، وتهدف كلّها إلى بُلوغ هذه الغاية. ومُختلف أصناف النّضال، مثل صنف النّضال النقابي، وصنف النضال الجمعوي، وصنف النضال الثقافي، إلى آخره، كلّها أصناف تتظافر وتتكامل فيما بينها. وبالتّالي، فمن المقبول أن نركّز تارة على نضال ذي طبيعة حزبية، وأن نُركّز تارة أخرى على نضال ذي طبيعة ''نضال جماهير مشترك''. المهم هو إحراز التقدّم نحو ذلك الهدف الأسمى الذي يبقى هو تغيير المُجتمع، وإصلاحه، وتقويمه، وتثويره. ومن بين مُميّزات ''منطق النضال الجماهيري المُشترك''، حينما يناقش المناضلون، أو حينما يُبرمجون، أو حينما يصوّتون، في إطار النضال الجماهيري المُشترك، أنهم يُساندون كلّ مقترح يظهر لهم معقولاً، أو إيجابيًّا، أو بَنّاءًا، ولو كان الشخص الذي اقترحه ينتمي إلى حزب منافس لحزبهم، أو ينتمي إلى تيار خَصْم، أو إلى جماعة مُناوئة. وفي نفس الوقت، يعارض هؤلاء المناضلين أي اقتراح يعتبرونه غير معقول، أو سلبي، أو مُعرقل، أو مُتخلّف، ولو كان من إِقْتَرَحَه ينتمي إلى حزبهم الخاص، أو إلى تيّارهم المُفضّل، أو إلى جماعتهم المُقرّبة. بمعنى أن المناضلين الحقيقيين يُخْضِعون تفكيرهم وسلوكهم لمنطق العقل وحده، ويرفضون تكبيل أنفسهم بمنطق ''العَصَبِيّة الحزبية''. العصبيّة حسب عبد الرحمان بن خلدون وقد سبق للمؤرّخ عبد الرحمان بن خلدون (1332 -1406 ميلادية) (732 – 808 هجرية)، في كتابه المشهور ''المقدّمة''، أن أوضح أن العلاقات فيما بين القبائل (في منطقة مُعيّنة) تخضع لمنطق ''العصبية''. ويقصد ب ''العصبية'' المُوالاة بشكل تامّ للقبيلة، أو للعشيرة، أو للعائلة الواسعة، ومُناصرتها، سواءً كانت ظالمة أم مظلومة. وتتجلى مثلا ''العصبية'' في تضامن أو قتال ذوي النسب القريب بهدف بلوغ الغَلَبة، أو الرّئاسة، أو الحكم. و تتنافس القبائل فيما بينها على الموارد، وعلى السّلطة، وتتصارع، بل تُقاتل بعضها بعضًا. وما دامت هذه القبائل موجودة، فإن الصّراع فيما بينها يمتدّ عبر الزمان. ولا يتوقّف هذا ا لصّراع إلاّ عندما تزول هذه القبائل، أو عندما تذوب في إطار أوسع. وفي زماننا الحالي، فإن ''القبائل'' العَصرية، أو الحديثة، هي الطبقات المُجتمعية، والفئات الاجتماعية، والأحزاب السياسية، والتّيارات الفكرية، والنقابات، والجمعيات المهنية، وغيرها من الهيئات. ولا توجد فقط ''العَصَبية'' القبلية، بل توجد أيضا أنواع أخرى من العصبية، مثل العصبية العائلية، والطائفية، والمَنَاطِقية، والجِهوية، والدِّينية، والمذهبية، والرّياضية، والنقابية، والحزبية، والسياسية، إلى آخره. ويمكن أن توجد داخل كل ''عصبية'' مُحدّدة عدّة عصبيات أخرى مُتداخلة ومُتفاوتة فيما بينها. فكلّما تواجدت جماعات مُتميّزة داخل إطار مُجتمعي، تظهر ''العصبية'' فيها، وتحدث فيما بينها منافسات، وصراعات دائمة. وكلّما تواجدت جماعات مُختلفة داخل ''نضال جماهيري مشترك''، تلجأ حتمًا هذه الجماعات إلى التّنافس على المكاسب، أو على التأثير، أو على المسؤوليات، أو على الزّعامة، أو على القيادة. وتستعمل كلّ الوسائل المُتاحة لحسم الصّراع لصالحها. وينتهي الصّراع إلى هيمنة الطّرف الأقوى. وهذا الطرف الأقوى الغالب، لا يكون بالضرورة هو الطرف الأكثر حِكمةً، أو سَدادًا، بل يمكن أن يكون هو الأكثر تخلّفًا، أو انتهازيّةً، أو وَحشيّةً. لذلك نقول في ما يخص ''النضال الجماهيري المشترك'' : أن الحل لتلافي الغرق في صراعات عقيمة ومُخرّبة بين الجماعات كجماعات، هو رفض عضوية الجماعات والهيئات السياسية، وحصر هذه العضوية في المواطنين الأفراد التقدّميين. نقبل عضوية المواطنين الأفراد، ونرفض عضوية الهيئات وفي إطار النّضال الجماهيري المُشترك (مثل ''حركة 20 فبراير'')، ومنذ اللحظة الأولى التي نقبل فيها بعضوية هيئات، مثل الأحزاب، أو النقابات، أو الجمعيات، أو التّيارات، أو الجماعات، فإن ديناميكية العمل المُشترك تؤدّي بالضّرورة إلى الإختلاف في الآراء، أو في البرامج، أو في الوسائل، أو في الأساليب، أو في المصالح، فيما بين هذه الهيئات. فتدخل هذه الهيئات في صيرورة التّنافس، أو التّزاحم، أو الصّراع فيما بينها. وغالبًا ما لا تقبل هذه الهيئات المُساواة فيما بينها، ولا تقدر على إقامة توازن فيما بينها، ولا تتحمّل التّعايش السّلمي فيما بينها، ولا تحترم قواعد العمل المشترك. بل تطالب بالتنسيق معها. وتحاول كل هيئة إنتزاع أكبر قدر ممكن من التأثير. وتتسابق هذه الهيئات على الغَلبة، أو على الزّعامة، أو على القيادة. وتريد كل واحدة من هذه الهيئات أن تصبح هي البارزة، أو الغالبة، أو المُسيطرة، أو المُهيمنة. ويؤدي بها الصراع إلى محاولة هزم بعضها لبعض، وتحاول إضعاف، أو إقصاء، بعضها لبعض. وتتبادل الإتّهامات فيما بينها. ثم تظهر تكتّلات، أو تحالفات. ثم تتحوّل إلى انشقاقات، أو انقسامات، أو صدامات. وتتحوّل الخلافات فيما بينها إلى عداوات مُعقّدة ومُتصاعدة. ويصعب على أي كان أن يتحكّم في مجرى هذه العداوات. لذا نُرحّب، في إطار النضال الجماهيري المُشترك، بعضوية المُواطنين الأفراد التقدّميين، ونرفض عضوية الهيئات. (وحرّر في الدارالبيضاء، في يوم الاثنين 4 فبراير 2013)(ويمكن للمهتمّين أن يجدوا وثائق نظرية أخرى على الموقع «http://LivresChauds.Wordpress.Com»).