أشرنا في مقال" الصين الرابح الأكبر من عزل "ترامب" ، و "بايدن" مضطر إلى التهدئة و التعاون معها لإنجاح برامجه الداخلية.."إلى ضرورة التحفظ و عدم المراهنة كثيرا على الإدارة الأمريكيةالجديدة، و كلامي هذا موجه إلى الشعوب العربية و الإسلامية و خاصة الفئات التي تتطلع إلى التغيير و التحول الديمقراطي في بلدانها، فالإدارة الجديدة لا تختلف كثيرا عن إدارة "ترامب" و لعل الفرق بينهما أن "ترامب" كان واضحا و غير دبلوماسي في تعاطيه مع مختلف القضايا الدولية، فهو يحترم القوي و يهين الضعيف، بينما "بايدن" أو "أوباما" أو "كلينتون" فهم متمرسين في السياسة ، و يختارون كلماتهم و خطابهم السياسي بعناية و دقة ، لكن التوجه على الأرض لا يختلف بالمطلق عن سياسات "ترامب"… و لعل ذلك يعود إلى تاريخ "بايدن" نفسه الذي عبر أكثر من مرة عن عداءه للمصالح العربية و الإسلامية فهو من أشد المدافعين عن غزو العراق في عهد الجمهوري بوش الابن، و داعم تاريخي للكيان الصهيوني و أحد المروجين المخلصين لأطروحاته و خاصة ذات الصلة بتفتيت المنطقة العربية و إضعافها، و الرجل أيضا عبر بوضوح عن دعمه لنظام مبارك و رفض التخلي عن دعمه عندما كان نائبا للرئيس "أوباما" فهو يفضل استمرار أنظمة ديكتاتورية تخدم مصلحة أمريكا في المنطقة و تخدم أمن و استقرار إسرائيل، في عهد إدارة "أوباما" تم الانقلاب على الثورات الشعبية و دعم الثورات المضادة و ما كان ذلك ليتم لولا مباركة و تأييد من قبل الإدارة الأمريكية…أما ما تدعيه أمريكا من دعم قيم الحرية و الديموقراطية و حق الشعوب في تقرير مصيرها هو نوعا من الدعاية الصفراء التي يتم توظيفها للضغط على النظم الديكتاتورية بهدف جرها لبيت الطاعة الأمريكي و ضمان خدمتها للمشروع الإمبريالي الصهيو-أمريكي… فأمريكا و الغرب عموما "يكيل بمكيالين"، و يتعامل مع الشعوب الغير منتمية لحضارة الرجل الأبيض بنوع من الاستعلاء و الأستاذية، فهو يفرض وصاية على إختيارات هذه الشعوب، و حتى عندما يدعو إلى الاحتكام لصناديق الاقتراع فهو يحدد سلفا نوعية النتائج التي يؤيدها و يقبل بها، فإذا جاء الإسلاميين أو الوطنيين على غرار "محمد مصدق" الذي لم يكن محسويا على تيار الإسلام السياسي، فهؤلاء غير مرحب بهم .. و لا حرج حينئذ من الانقلاب على نتائج صناديق الاقتراع ، و هذا المنهج رأيناه يتكرر في ثورات الربيع العربي، فنجاح الثورات المضادة في إفشال ثورات الشعوب، ما كان ليتحقق لولا دعم الغرب ووسائل إعلامه المتمرسة في شيطنة الأعداء .. في مقابل ذلك، رأينا كيف أنها في 24 ساعة إنقلبت على "ترامب" و حظرته و منعته من حقه في التعبير عقابا له على محاولة الانقلاب على إرادة الشعب الأمريكي المعبر عنها في صناديق الاقتراع التي أعطت الأغلبية ل"بايدن"، و على المؤسسات الدستورية و الديمقراطية الأمريكية…فلماذا لم تتعامل الحكومات ومنصات التواصل ووسائل الإعلام الغربية، بنفس المنطق عندما تم الانقلاب عن نتائج الانتخابات الحرة و النزيهة في معظم البلدان العربية بعد 2011… هذه المقدمة فرضتها المناسبة، و المناسبة الذكرى العاشرة لتفجر الثورات العربية التي فجرتها شرارة المواطن التونسي "البوعزيزي" الذي أشعل النار فيه نفسه إحتجاجا على الظلم و " الحكرة" و الطغيان و الشطط في استعمال السلطة ، و بشكل أعم الاحتجاج على غياب التنمية الفعلية، و بعد مرور 10 سنوات على هذا الحدث نتساءل ما الذي تحقق في العالم العربي ، هل تقلصت وثيرة الحكم الاستبدادي و ما يصاحبه من تكميم للأفواه و نقص الحرية و غياب العدالة الاجتماعية و غيرها من الأمراض الملازمة للإستبداد، و بدون تردد فإن الواقع في أغلب البلاد العربية النفطية و غير النفطية هو سواء.. فتقييم وضع التنمية في العالم العربي في العقد الأخير ، يحيل إلى وجود العديد من النواقص التي تعيق عملية التنمية فهناك الاستبداد وضعف الحريات السياسية والمدنية ، إلي جانب عجز معرفي فالوطن العربي لازال يعاني من فجوة معرفية شديدة العمق ، إلى جانب ضعف تمكين أغلبية الناس من المشاركة الكاملة في صياغة القرارات و الاختيارات الكبرى التي تؤثر على حياتهم حاضرا و مستقبلا . دون أن نهمل ضعف شبكات الأمان الاجتماعي و عجز الأداء الاقتصادي و سوء توزيع الثروة و شيوع الفقر والبطالة وهيمنة شبح الحروب الأهلية والصراعات الطائفية والإثْنية، و فساد النخب الحاكمة و تحالفها مع أوليغارشية رأسمالية تعتمد في بقاءها على الريع و مكافحة المنافسة الاقتصادية الحرة … لكن أهم نقص كشفت عنه ثورات الربيع العربي هو تغول الدولة و أجهزتها و غلبت فكرة أمن الدولة والنظام على فكرة أمن الإنسان وحريته، فالإنسان العربي لازال لم يتحرر بعد من التهديدات الشديدة ، و المنتشرة و الممتدة زمنيا التي تتعرض لها حياته وحريته،فالانحراف السياسي للأنظمة السياسية و ابتعادها عن قواعد الحكم الرشيد تشكل دون شك المعوق الأساسي لانطلاق عملية تنمية سليمة . فالاستبداد السياسي و قمع الحريات الفردية و الجماعية، حال دون إشراك فعلي لغالبية الناس في صياغة السياسات العمومية، التي تتلاءم مع ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية . و نتاجا لذلك سادت رؤية أحادية الجانب في مجال التنمية تعبر عن وجهة الحاكم و بطانته، ولما كانت هذه الأنظمة السياسية تابعة و خاضعة لأطراف و مصالح خارجية، فإن سياساتها التنموية اتصفت بحالة اللاستقرار و غياب البعد المحلي في التنمية. بل هناك تعارض شديد بين الاختيارات التنموية و تطلعات الناس ، فالتنمية كانت مجرد أداة لتشويه المجتمعات العربية و قتل روح المقاومة بداخلها ، و حتى مخرجات التنمية الهزيلة التي تم تحقيقها لم تتوافق مع حجم المدخلات التي تم إنفاقها ، ومظاهر ذلك اللامساواة في توزيع الثروة حيث استحوذت الأقلية على أغلبية الناتج المحلي ، كما أن السلع و الخدمات العمومية انحازت بدورها إلى الفئات المستحوذة اقتصاديا و سياسيا كما انحازت للحضر و تم تهميش الريف . كما أن الاختيارات التنموية على المستوى الاقتصادي لم تراعي طبيعة البنية السكانية و الإمكانيات المتاحة من حيث وفرة أو ندرة رأسمال المحلي أو الأجنبي ، لكن في هذه الجزئية لابد من التأكيد على أن الفساد السياسي و زواج السلطة بالمال ، وغياب الضمانات و الشروط الضرورية لقيام مناخ استثماري صحي شكل عائقا في وجه تحرير معدل النمو ورفع وثيرته ، باعتباره المدخل الأساسي لتوفير فرص الشغل و تحقيق الوفرة المالية التي تمثل دون شك أساسا للإنفاق العمومي على باقي القطاعات الاجتماعية كالصحة والتعليم والسكن … لكن الذي ينبغي التأكيد عليه أنه لا مجال لتحقيق تنمية مستدامة وفعلية في ظل مجتمع دولي تسوده المنافسة الشرسة على استقطاب موارد رأس المال و الأدمغة ، إلا بالاعتماد على الداخل وهنا تكمن إشكالية المجتمعات العربية، فالدولة في العالم العربي لازالت تمثل الحاجز الأساسي في وجه تنافسية المجتمعات العربية، بفعل هيمنة الفساد السياسي و الاقتصادي والأخلاقي،و ضعف كفاءة البيروقراطية المحلية و تبعيتها لأجندة النظام والحاكم المستبد بدلا من ولائها للشعب و تطلعاته . لذلك، فإن ثورات الربيع العربي هي في الأساس ثورات من أجل التنمية و محاربة الإقصاء والظلم الاجتماعي، لكن في قلب هذه الانحرافات التنموية هناك الاستبداد و التسلط الذي أنتج كل هذه النواقص ، فتحقيق التنمية لن يستقيم إلا بتطهير البلدان العربية من كل مظاهر الاستبداد السياسي و بناء دول تقوم على احترام حرية الأفراد والجماعات ، إن الديموقراطية هي خارطة الطريق لمستقبل أفضل للأجيال المقبلة . فتضحيات الشعوب و التي تتخذ عدة أشكال و على رأسها دفع ضريبة الدم في مواجهة قمع وتسلط أنظمة التخلف، تعتبر بدون شك الوصفة العلاجية الصحيحة لعلاج الاختلالات التنموية التي تعرفها البلدان العربية ، فتمسك الأنظمة بحجج ندرة الموارد المالية والانفجار الديموغرافي هي مبررات واهية يمكن التغلب عليها بسياسات عمومية رشيدة تبتعد عن الوصفات العلاجية التقليدية . ففساد النخب الحاكمة وتحالفها مع ميلشيات الريع الاقتصادي تشكل العائق الأول في وجه التنمية السليمة والمستدامة ،لذلك فان الحرية بمفهومها السياسي و الاقتصادي و الإنساني تمثل ضرورة ملحة ينبغي الحسم فيها . و أظن أن الشعوب العربية أدركت سبب تخلفها و هي اليوم في ساحة أم المعارك ضد طغاة وبغاة الداخل و حلفاءهم في الخارج .. كما ينبغي التأكيد في هذه المعركة على الدور السلبي الذي لعبته الأنظمة الخليجية في دعم الثورات المضادة و إجهاض الثوارات الشعبية ، فقد و ظفت سيولتها المالية لدعم الانقلاب على الشرعية الانتخابية في مصر و تونس و ليسبا و اليمن و الجزائر و السودان ،و موقف الأنظمة الخليجية هو تعبير عن نواياها المستقبلية تجاه مطالب شعوبها و هو ما لحظناه في حملات القمع التي عرفتها السعودية و الإمارات و البحرين ، فهذه الأنظمة لاتملك إلا رفع شعار الإرهاب في وجه مطالب الشعوب، فهو الشعار الذي يتوحد حوله الطغاة وقراصنة السلطة ، و الواقع أن هذه الأنظمة هي من تمارس الإرهاب بشتى أنواعه …فحكام الخليج يستولون على ثروات بلدانهم و يوظفونها بشكل سلبي ، فبالرغم من ارتفاع مستوى الدخل الفردي نتيجة لعائدات النفط إلا أن الجزء الأهم من هذه العوائد المالية يذهب إلى خزائن الحكام و أسرهم و عشيرتهم الأقربون، في غياب تام للشفافية والمحاسبة ، فهذه المنطقة من العالم لازالت لم تدخل بعد للحداثة بالمفهوم السياسي و الفكري وان كانت دخلتها من الناحية الاستهلاكية والتقنية نتيجة للوفورات المالية التي مكنت هذه الأنظمة من شراء التقنية والتكنولوجيا و شراء الخبرة عبر استقطاب الأجانب مع الحرص الشديد على تأمين ثقافة الانغلاق و التقليد على مستوى المواطن الخليجي . فهم يعملون على تأمين استبدادهم بشراء الولاءات عبر ضخ ملايير الدولارات لإنعاش الإعلام الموالي لفكرهم وتصورهم، كما حرصوا على محاربة ثورات الشعوب العربية منذ البداية خوفا من انتقال عدوى الديمقراطية إليهم ، لكن في الجانب الآخر من الصورة لابد أن نقر بان هناك نزعة اقتصادية لمواقف هذه الأنظمة الخليجية ، التي استفادت من الفساد السياسي الذي شهدته أغلب بلدان الربيع العربي طيلة العقود الماضية، فهؤلاء الحكام استثمروا أموالهم التي نهبوها من شعوبهم في الكثير من البلاد العربية و لاسيما بعد أحداث 11 شتنبر بالولايات المتحدةالأمريكية، و الأزمة المالية ل 2008 و ما صاحبها من تبخر لأموال خليجية تم استثمارها في بلدان الغرب … فالسياسات الاستثمارية للصناديق السيادية لدول الخليج – وهي بطبيعة الحال ملك لحكام الخليج – أصبحت تفضل الاستثمار بالبلدان العربية، لاسيما و أن هذا الاستثمار هو ريعي الطابع و العائد، فقد استفادت الإمارات و السعودية والكويت وقطر من مساحات شاسعة من الأراضي في مصر والمغرب و تونس بأثمان جد رمزية، و لو كانت هذه البلدان الغير نفطية تتمتع بديمقراطية لما تم منح كل هذه الامتيازات لحكام الخليج على حساب إفقار شعوب البلدان الغير نفطية، لكن حكام هذه الشعوب استفادوا بدورهم من المال الخليجي في شكل عمولات و تسهيلات مالية لضمان استمرار حكمهم . و نتيجة لذلك، تشكل تحالف بين قوى الفساد يضم الطغمة الحاكمة في الخليج ،ونظيرتها بباقي البلدان العربية الغير نفطية، بمباركة و ضوء أخضر من دول العالم الغربي، فشح الموارد المالية ببلدان الغرب و انغماس أمريكا و الاتحاد الأوربي في مشاكلهم الداخلية، قوى من حضور الدور المالي للخليج.. و هم ما تم ترجمته إلى حضور سياسي و أمني، يخدم المصالح الاقتصادية والإستراتيجية للغرب، الذي يسعى بدوره إلى حماية مصالحه بالدول العربية دون تحمل تكاليف الدم آو المال ، وهو ما شجع بلدان الخليج على تمويل ودعم بقاء الأنظمة الاستبدادية عبر تمويل إراقة الدماء، و دعم السياسات القمعية التي تحتاج إلى الرجال و السلاح، و لا يمكن تأمين هذه العناصر في مجتمعات أصبحت تتوق للحرية و ارتفع مستواها القيمي و الفكري، إلا بإغداق المال على مرتزقة من الداخل و الخارج تقبل بيع نفسها للشيطان مقابل مصالحها الخاصة . و هو ما نتج عنه حلف مقدس بين ديكتاتورية البيترودولار و قراصنة السلطة على طول العالم العربي و كسر هذا التحالف هو بوابة نجاح الثورات العربية في موجتها الثالثة ، خاصة و أن شرراة الانتفاضات لازالت مشتعلة و لم تخمد بعد، فالذل و الخوف و الاستبداد و الفساد و الظلم و التفريط في حقوق الشعوب و الأوطان، و التطبيع مع الكيان الصهيوني و تفشي الفقر و الإفقار، و تفشي وباء كورونا الذي أدخل الاقتصاديات المحلية و الاقتصاد العالمي في أزمة خانقة، كلها عوامل مساعدة لإندلاع موجة ثالثة من الثورات العربية، و التي ستعم مجمل العالم العربي من المحيط إلى الخليج … والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون… إعلامي و أكاديمي متخصص في الإقتصاد الصيني و الشرق 0سيوي. أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة…