على الرغم من أن الدستور المصري عليه كثير من المؤاخذات الشكلية والمضمونية، التي جعلت المجتمع المصري منقسما حوله، وعلى الرغم من أن البعض عندنا هنا في المغرب أصبح ينعث منافسيه السياسيين بمحاولة "مصرنة المغرب"، وكأن مصر أصبحت نموذجا يجب الحذر منه؛ على الرغم من كل ذلك، فإن مقارنة موضوعية بين ما يحدث في مصر وما يحدث في المغرب تفيد في استجلاء الغموض وتبيان نقط قوة كل تجربة ونقط ضعفها. سنركز في هذه المقالة على الجانب الدستوري في البلدين، بوضع مقارنة بين دستورين اختُلف حولهما داخل المجتمعين المصري والمغربي، على أن نعود في دراسة مقبلة لتناول التجربتين في جوانبها الاجتماعية والإقتصادية والسياسية. أولا: من حيث الشكل: بخصوص هذه النقطة لابد من التذكير بأن الدستور المصري جاء بعد ثورة شعبية (أو حراك شعبي أسقط رأس النظام)، وبعد مخاض طويل من النضالية المجتمعية عرفت حدتها منذ سنة 2005 ، بينما الدستور المغربي جاء مع بداية حراك مجتمعي لم يصل أوجه. مما يبين الفرق الواضح بين دستور جاء بعد نهاية مرحلة نضالية وإسقاط رأس النظام، وبين دستور أريد له أن ينهي التطور النضالي المرجو لتحقيق الاصلاح الحقيقي، والالتفاف على المطالب الشعبية. كما أن الدستور المصري صيغ من قبل جمعية تأسيسية انتخبها الشعب المصري بشكل غير مباشر (لا ننفي هنا العوار الذي أصاب هذه الجمعية، ولكنها صيغة مقبولة من الناحية الديمقراطية الشكلية على الأقل)، بينما أشرفت لجنة معينة من قبل الملك على إعداد الدستور المغربي، وهي لجنة لم ترقى لقبول جميع المغاربة وقاطع أنشطتها أغلب من كانت لديهم مطالب دستورية، كالأحزاب الراديكالية اليسارية والاسلامية، وحركة 20 فبراير التي جعلت أول مطالبها تغيير الدستور وإقامة دستور ديمقراطي. ويبقى أهم فارق من الناحية الشكلية هو ما يمس عملية الاستفتاء، فالدستور المصري استُفتي حوله الشعب في جو متوثر وحملات قوية لهذا الفريق أو ذاك وتحت إشراف قضائي شبه تام، وفي ظل وجود إعلام قوي ومستقل كان في الغالب ضد الدستور، بينما رأينا في الاستفتاء حول الدستور المغربي تأميما واضحا لجميع أدوات الدولة الايديلوويجية من أجل قول نعم للدستور، حيث تجند الاعلام العمومي، وأغلب الخصوصي، لمساندة الدستور، ووظفت المساجد لقول نعم للدستور (في هذه النقطة يشترك الدستور المصري والدستور المغربي، وإن كان استغلال المساجد في مصر قد لقي ردود فعل قوية وصلت إلى حد محاصرة الخطباء الذين حولوا رسالة المسجد وجعلوه منبرا سياسيا)، كما جمعت وزارة الداخلية كل قواها، ليس لحماية عملية الاستفتاء، وإنما لحشد الناس من أجل قول نعم، ولايزال الشبابا الداعي لمقاطعة الاستفتاء على الدستور في محاكمات خرافية إلى حدود كتابة هذه السطور، بدعوى مخالفتهم القانون والتحريض على مقاطعة الاستفتاء...نكتفي بهذا القدر من الفوارق الشكلية والتي هي غيض من فيض.( نسجل هنا أن نقطة إيجابية تسجل للدكتاتور مبارك وهي أنه سمح بوجود قنوات إعلامية مستقلة، بينما في المغرب لازال النظام السياسي يُقطر بعض الإذاعات، مع الحضر التام على قيام أي قناة تلفزية مستقلة). ثانيا : من حيث المضمون: "هذا هو دستور مصر ووثيقة ثورتها السلمية الرائدة، التى فجرها شبابها الواعد، وحمتها قواتها المسلحة، وأيدها شعبها الصبور، فى ميدان التحرير، يوم الخامس والعشرين من يناير 2011، معلنًا رفضه لكل ألوان الظلم والقهر والطغيان والاستبداد والنهب والاحتكار. مجاهرًا بحقوقه الكاملة فى العيش الكريم والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية التى شرعها الخالق قبل أن تشرعها الدساتير والإعلانات العالمية لحقوق الإنسان.." بهذه العبارات افتتحت دباجة الدستور المصري. ولأن الكتاب يعرف من عوانه، فإن مقارنة هذه البداية ببداية دباجة الدستور المغربي، ستبين الفرق الواضح لدعاة الحذر من " مصرنة المغرب" والخصوصوية المغربية...، " إن المملكة المغربية، وفاء لاختيارها الذي لا رجعة فيه، في بناء دولة ديمقراطية يسودها الحق والقانون، تواصل إقامة مؤسسات دولة حديثة..." يبدو أن القارئ لاحظ جيدا الفرق الكبير بين البدايتين، ولاحظ بشكل أوضح عبارة "إن المملكة المغربية" وليس "إن الدولة المغربية"، فماذا كان يمنع من اتعتعمال عبارة الدولة المغربية التي اساعملت في دساتير قامت في أنظمة ملكية؟ فدباجة دستور الدولة الاسبانية لم تففتح بعابرة المملكة الاسبانية وإنما ب " الدولة الاسبانية". وقبل أن نتقدم في مقرانتنا، لابد من الاشارة إلى أن عدد الفورقات أكثر من أن تحيط به مقالة كهذه، لذلك سنركز على الأهم (تسلسليا وليس انتقائيا) ونترك للقارئ مراجعة نسختي الدستور لعقد المزيد من المقارنات. وبما أنه لا داعي للتذكير بأن النظام السياسي في مصر هو نظام رئاسي منذ أن أطاحت " ثورة يولو 1952" بالنظام الملكي، وبأن النظام السياسي المغرب هو نظام ملكي منذ قرون، فإن عقد المقارنة بين اختصاصات رئيسي الدولة في الدستورين الجديدين وامتيازاتهما، تعطينا صورة أوضح عن الفرق بين دستور الارادة الشعبية ودستور اللجنة المعينة. فإذا كان للدستور المصري في بابه الثالث المتعلق بالسلطات العامة، قد ابتدأ بالسلطة التشريعية في الفصل الأول ثم انتقل إلى السلطة التنفيذية التي قسمها إلى رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، فإن الدستور المغربي قد افتتح الباب الثالث بالملكية، التي أبعد عنها الصفة التنفيذية رغم أن اختصاصات الملك التنفيذية في الدستور أهم من اختصاصات رئيس الحكومة وأردفها بالسلطة التشريعية، ثم السلطة التنفيذية، وهو ما يبين بوضوح الفرق بين أن يولي الدستور الأهمية للسلطة التشريعية أو أن يوليها للسلطة التنفيذية. ولايبتعد المضمون عن الشكل، فالدستور المصري ينظر إلى رئيس الجمهوية بما أنه " هو رئيس الدولة، ورئيس السلطة التنفيذية؛ يرعى مصالح الشعب، ويحافظ على استقلال الوطن وسلامة أراضيه، ويراعى الحدود بين السلطات.ويباشر اختصاصاته على النحو المبين فى الدستور"، بينما ينظر الدستور المغربي بظرة فوق دستورية للملك ، فهو " رئيس الدولة، وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها، يسهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، وعلى احترام التعهدات الدولية للمملكة..." وعندما نتكلم عن النظرة فوق الدستورية التي يتميز بها الدستور المغربي فإننا نُلَمح بذلك لعبارة " يسهر على احترام الدستور" لأن احترام الدستور هو من اختصاص المحكمة الدستورية وليس رئيس الدولة الذي هو أحد أشخاص السلطة السياسية التي يمكن مخاصمتها لدى المحكمة الدستورية. وإذا كانت المادة 137 من الدستور المصري تلزم رئيس الدولة بأداء اليمين الدستورية قبل توليه رئاسة الجمهورية، فإن الدستور المغربي لا يتضمن أية إشارة من شانها إلزام الملك باداء اليمين الدستورية من أجل احترام الدستور. أما ما كان يحذر منه ابن خلدون عندما أطلق عبارته المشهورة "الأمير يفسد السوق" فإن الدستور المصري استجابة لها وزيادة، فالمداة 138 كانت واضحة في من رئيس الجمهوية من " أن يتقاضى أى مرتب أو مكافأة أخرى، ولا أن يزاول طوال مدة توليه المنصب، بالذات أو بالواسطة، مهنة حرة أو عملا تجاريا أو ماليا أو صناعيا، ولا أن يشترى أو يستأجر شيئا من أموال الدولة، ولا أن يؤجرها أو يبيعها شيئا من أمواله، ولا أن يقايضها عليه، ولا أن يبرم معها عقد التزام أو توريد أو مقاولة. ويتعين على رئيس الجمهورية تقديم إقرار ذمة مالية، عند توليه المنصب وعند تركه وفى نهاية كل عام؛ يعرض على مجلس النواب. وإذا تلقى بالذات أو بالواسطة هدايا نقدية أو عينية؛ بسبب المنصب أو بمناسبته، تؤول ملكيتها إلى الخزانة العامة للدولة" أما في الدستور المغربي فالأمر لا يزيد عن "للملك قائمة مدنية" (م 45). أما المادة 152 من الدستور المصري فهي تمنعنا من مجرد البحث عن ما يماثلها في الدستور المغربي، لذلك نفضل عرضها كما هي"يكون اتهام رئيس الجمهورية بارتكاب جناية أو بالخيانة العظمى؛ بناء على طلب موقع من ثلث أعضاء مجلس النواب على الأقل؛ ولا يصدر قرار الاتهام إلا بأغلبية ثلثى أعضاء المجل . وبمجرد صدور هذا القرار يوقف رئيس الجمهورية عن عمله؛ ويعتبر ذلك مانعا مؤقتا يحول دون مباشرة رئيس الجمهورية لاختصاصاته حتى صدور الحكم. ويحاكم رئيس الجمهورية أمام محكمة خاصة يرأسها رئيس المحكمة الدستورية العليا وعضوية أقدم نواب رئيس محكمة النقض ومجلس الدولة وأقدم رئيسين بمحاكم الاستئناف، ويتولى الادعاء أمامها النائب العام". هذا، ونجد أن الدستور المصري قد قيد صلاحيات رئيس الجمهوية في كثير من الأماكن، خاصة فيما يخص التطبيق الصارم لمبدأ فصل السلط، فرغم أن المادة 127 تعطي لرئيس الجمهورية الحق في حل مجلس النواب إلا أن ذلك يبقى مشروطا بقرار مسبب، وبعد استفتاء الشعب. كما لا يجوز حل المجلس خلال دور انعقاده السنوى الأول، ولا للسبب الذى حل من أجله المجلس السابق. وللحافظ على مبدأ فصل السلط فإن الدستور المصري قابل حق الرئيس في حل المجلس بإلزامه عرض ذلك على الشعب في استفتاء. ويترتب عن رفض الشعب لقرار الحل وهذا هو المهم أن يقدم رئيس الجمهورية استقالته فورا بعد ان يكون قد دعا إلى انتخابات مبكرة. وإذا لم تتم تلك الانتخابات يعود المجلس إلى أداء مهامه بشكل طبيعي. إذا كان هذا هو ما عليه الوضع في مصر فما هو التقييد الذي ألزم به الدستور المغربي الملك مقابل حل مجلسي البرلمان؟ ينص الفصل 51 على " للملك حق حل مجلسي البرلمان أو أحدهما بظهير، طبق الشروط المبينة في الفصول96 و97 98". جيد أن الدستور المغربي وضع شروطا، ترى ما هي؟ بلمحة سريعة على هذه الشروط يتضح أنها لا تتعدى "استشارة رئيس المحكمة الدستورية وإخبار رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب، ورئيس مجلس المستشارين، وخطاب موجه إلى الأمة.(ف96) وانتخاب مجلس جديد في ظرف شهرين (ف 97) وعدم إمكانية حل المجلس التالي قبل مضي سنة (ف98). كان بودنا ان نستفيض في عقد مزيد من المقارنات بين دستوري المغرب ومصري، هذه الأخيرة التي يخشى البعض أن يحدث للمغرب ما حدث بها وأن " نتمصرن"، نقول كان بودنا ذلك، لكننا نشفق على القارئ من هذه المقارنات بين دستور نتج عن نظام ملكي ومن شأنه الأخذ بعين الاعتبار الملكية في المغرب، وبين دستور انبثق عن ارداة شعبية جمهوية، يتوافق والروح الجمهورية التي أفرزتها ثورة 25 يناير. ورب قائل، ان المقارنة التي قمنا بها لم تظهر إلا الجانب السلبي في الدستور المغربي، فأين الجانب الايجابي؟ وللإجابة عن هذه الملاحظة لابد من التذكير بأننا لم نقل بأن الجانب الذي ركزنا عليه كان سلبيا أو إيجابيا، وإنما هذا يعود إلى القارئ. كما أننا لم نقم بقراءة انتقائية وإنما بقراءة تسلسلية ابتدأت من الديباجة ووصلت إلى الباب الثالث، ويمكن لمن يشاء أن يوصلها إلى أبواب أخرى عله يجد بعض نقاط القوة التي يتميز بها الدستور المغربي، وإن كنت أقترح ان يقوم بذلك بعض الباحثين في الديمقراطية في الفكر السلطاني، وبعض الساسة الذين يخشون على المغرب من خطر"المصرنة". كما أود أن أقول انا شخصيا هنا، أن المغرب أحسن بكثير من مصر، وليذهب الدستور المصري المتقدم في "ستين داهية" مقارنة مع وضع الاستقرار الذي يعيشه المغرب، ولتذهب مقولة فرانكشتاين التي يتشدق بها بعض ثوار المغرب إلى البحر، فالاستقرار اهم من مقولة "من يضحي بالحرية من أجل الخبز، لايستحق أي منهما". (لكن هل يوجد خبز؟) باحث في القانون الدستوري وعلم السياسة هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.