الى نساء دوار عكّارة و أخشّان بتسلْطانْت مراكش. "بغينا نقراو.. مللي توقفات دروس محو الأمية بحال يلا تخنقات لقراية فحلقنا" قالت السيدة ذات الجلباب البنيّ وهي تسحب لثامها الأسود إلى الأسفل (لثام مغربي أصيل لا علاقة له بما ورد علينا من أدغال قندهار) فتظهر ابتسامتها الرائقة لتضفي على عينيها المكحلتين إشراقة إضافية. نساء الدوار في استقبالي بمدخل الفصل الدراسي بمدرسة القرية، ترحيب كبير وابتسامات واسعة. أردّ عليهن بابتسامة مماثلة ما يكفي لتنمحي المسافة الوهمية بيني وبينهن. أشعر بصفاء إنساني يخيّم على الأجواء، أسألهن عن أحوالهن وأحوال أبنائهن (الاستهلال التواصلي المغربي ضروري في مثل هذه المواقف) قبل أن أجرّ مقعدا خشبيا وأجلس لنفتتح "اللقاء" وسط ارتباك صغير سرعان ما سيتبدد بفضل رجاء مرافقتي اللطيفة منشطة هذه المبادرة التواصلية التي استدعيت إليها من طرف دار المامون بمراكش. كنت قد أمضيت ليلتي أفكر في الكيفية التي سأباشر بها هؤلاء النساء، أقلب في الورقة التي أعددتها للمناسبة والتي سوف تبدو بلا أهمية منذ الوهلة الأولى، خصوصا عندما أخذ ذلك الدفء الإنساني ينتشر في كلّ أرجاء الفصل الدراسي الصغير الذي كانت رسوم الأطفال وخربشاتهم على حيطانه تغرق اللحظة في مشاعر الحنين، حنين له رائحة تشبه رائحة الطباشير. كان عليّ أن أجعلهن يتحدثن عن حياتهن الجديدة بعد تعلمهن الكتابة والقراءة، كان عليّ فتح شهيتهن للحديث عن وضعهن الجديد كنساء متعلمات أو على الأرجح كنساء أقلّ أمية، لأستطيع أن أطرح عليهن في النهاية السؤال الذي يهمني: كيف تتصورن مستقبل بناتكن؟؟ الحوار الذي سيأخذ بسرعة قياسية شكل بوح، سوف ينجرف كالماء، في اتجاهات لم أكن حتّى لأتوقعها: كن يرغبن أن يحكين حكاياتهن في نفس الوقت، حكاياتهن الحزينة التي كانت تصلني ممزوجة ببكاء أطفالهن وهم يحاولون الانفلات من بين أيديهن.. بمشهد الرضع منهم وهم يتناولون حلمات أمهاتهن السخية.. فرصة البوح الجماعي لم تكن متاحة داخل طاحونة الحياة اليومية. كانت لدى غالبيتهن رغبة جامحة في سرد تفاصيل أسطورتهن الشخصية هذه الأسطورة التي نظلّ نحكيها وباستمرار حتى نصدقها فتحلّ تفاصيلها الغرائبية أحيانا محلّ الوقائع الحقيقية ( في المساء وخلال اللقاء الذي سينظم على شرفي بالمكتبة سوف أحكي بدوري أسطورتي الشخصية "بجدية" كبيرة).. النساء يحكين ما يؤلمهن، ما يسعدهن، يحكين أحلامهن التي أجهضت..أشعر أنّ عليّ الركض خلفهن، عليّ اللحاق بقصصهن المتواترة التي كانت تتدافع أمامي.. قصص بطعم خيبات الأمل،غاصة بالمشاعر السلبية، قصص عن أزواج قساة، مخادعين، عن حموات متعاليات يسخرن من أمية الكنات، وقصص أخرى معجونة بمشاعر الفقدان عن أزواج طيبين خطفهم الموت. حياة القرويات تندمج في دورة الطبيعة، حكاياتهن تفوح منها رائحة الأرض.. أرض لم تكن دائما مفروشة بالزهور..رحلة صبر ومعاناة سيشكل اكتشاف سحر الحرف فيها نقطة انطلاق جديدة.. و أنا أغادر سوف تقترب منّي السيدة ذات الجلباب البنيّ والعينين المكحلتين وتهمس في أذني بصوت منكسر: "بغينا نقراو.. كوليها ليهم عافاك"