وأخيرا كتب لي الطيران نحو "تونس الثورة"، أو "تونس ما بعد الثورة"، من أجل المشاركة في الندوة الدولية التي نظمها "بيت الثقافات العالم"، وبدعم من معهد غوته، في تونس نفسها وعلى مدار يومي الخميس والجمعة 29-30 من شهر نوفمبر. ولا أخفي أنني سعدت، كثيرا، للمشاركة في ندوة من هذا الحجم، خصوصا وأنه تمّ الاحتكام، في الدعوة، إلى كتابات المدعوين وسجلاتهم العلمية. وكان لكتابي حول الأكاديمي الأمريكي والمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد دوره في الدعوة جنبا إلى جنب مقالات نشرناها، ومن منظور ما بعد كولونيالي، حول ثورات العالم العربي التي تمحورت حولها أشغال اللقاء أو الورشة كما نعتها المنظمون. ولا يبدو غريبا أن يحظى إدوارد سعيد بهذا الاهتمام المتزايد داخل الفضاء الألماني نفسه، ولا بأس من التذكير هنا بأن إدوارد سعيد كان قد انتقد من ناحية "التأثير الاستشراقي الألماني" الذي تغافل عنه في كتابه الإشكالي "الاستشراق" الذي كان لها الثقل الأكاديمي الأرجح في تدشين تيار أكاديمي امتد في جهات العالم الأربع. ولذلك أعرب مدير "بيت ثقافات العالم" بيرند شيرير، وفي كلمة الافتتاح، عن احترامه لإدوارد سعيد، ولا سيما من ناحية ما يمكن أخذه منه من ناحية موضوع "المثقف الهاوي". واللافت، في الندوة، وفي تونس تحديدا، أن تكون هناك فرقة أو حركة ناشطة يطلق عليها "أهل الكهف" تأثرت، ضمن ما تأثرت به، بأفكار إدوارد سعيد، وساهمت بدورها، وخصوصا من ناحية الكتابة في الجدران، في الثورة التونسية التي لفت أنظار العالم بأكمله، وجعلت العديد من المفكرين والأكاديميين والملاحظين يتحدثون عن النموذج التونسي الذي صنعه أشخاص غير معروفين "Anonymos" كما عبّر عنهم الصحافي اليوناني باييس أجرولاميوس في مداخلته النارية حول اليونان التي اشتعلت، خلال الأعوام الأخيرة، بعد أن فاقت على وهم الانتماء ل"العائلة الأوروبية". في الحق يصعب استحضار مجمل الأفكار التي تم تداولها، والتي بلغت حد التضارب في أحيان، ولكن مع ذلك لا بأس من التشديد على نجاح الندوة، وخصوصا من ناحية المتدخلين الذين جاؤوا من بلدان مختلفة: ألمانيا، أمريكا، فرنسا، إيران، روسيا، كوريا، تركيا، لبنان، سوريا، فلسطين... وصولا إلى بلد كاتب هذه السطور. ولعل هذا ما أعطى الندوة طابعا التنوع والثراء، وقبل ذلك جعلها تؤكد أن العالم بأكمله يمر بفترة تاريخية صعبة. هذا وإن كان الوضع في بعض البلدان الأوروبية مغايرا كما هو الشأن بالنسبة لألمانيا، ولعل هذا ما جعل مدير مجلة "فكر وفن" ستيفان ويدنر يتحدث عن الطابع الرومانسي للثورات العالم العربي. وبقي الآن أن أشير إلى أن الندوة تمحورت على موضوع محدد، بخصوص الثورات، وهو موضوع "التأويل": تأويل هذه الثورات. وهو تأويل لا يمكن فهمه بمعزل عن المرجعيات والجغرافيات التي كان يصدر عنها هذا المتدخل أو ذاك، وهو تأويل لا يمكن لدلالته أن تتأكد بمعزل عن التاريخ ذاته. وكان رأيي ومهما كان الخلاف حول هذه الثورات وحول ما إذا كانت، في الوقت ذاته، قد بلغت حد الثورات فإن العالم العربي، وبعد قطع الشوط الأول منها، ومن "وجهة نظر تاريخية"، ليس هو العالم العربي الأسبق. لقد أصرّت هذه الثورات على أن تقطع مع "الأبد العربي"؛ وهو عمل شاق ولا يمكن فهمه إلا في ضوء "الأمد الطويل". لقد كان إدوارد سعيد حاضرا، وبقوة، في أشغال الورشات؛ بل وتجاوز كل ذلك نحو الحضور في الأغنية الشبابية الصاخبة (الراب) في "التياترو" الأشهر بتونس الذي استوعب أيضا أشغال الورشة. "الاستشراق هو استعمار جديد" و"أحسن شيء نفعله بكتاب الاستشراق هو أن نوزعه في المطارات"... بمثل هذه الجمل، الغارقة في اللهجة التونسية، كان يسخر شباب الراب وليختتم الحفل بلقطة مثيرة لإدوارد سعيد وهو في حفل موسيقي باذخ.