كان مشهدا شديد الإثارة، شكَّل "فرجة" صادمة مكتملة العناصر، ألقت مزيدا من علامات الاستفهام على ما صارت إليه السياسة من تعثر وانحدار ومهازل. ذلك المشهد الذي عرفه المغرب في الأسبوع الأخير، وأثار جدلا واسعا انتشرت أصداؤه كالنار في الهشيم، فحولت تداعياته مجرى مواقع التواصل الاجتماعي في البلاد، محققا نسبة عالية من المشاهدات والتفاعل خلال فترة جد وجيزة. آلاف التعليقات وردود الفعل، بلغة الدعابة والسخرية، بالرسم الكاريكاتوري والفيديوهات وبالصور المعدلة بالفوتوشوب وبإبداع الشعارات وفن الملصقات والقصائد الزجلية والأغاني والأهازيج الساخرة، ناهيك عن برامج النقاش على قناة يوتيوب. ردود فعل استنكرت ونددت وشجبت ولعنت وانخرطت في موجة غضب حارقة لا زالت متأججة. لا تحلموا! يعود المشهد إلى نائب في البرلمان المغربي اسمه إدريس الأزمي (54 سنة)، كان يناقش موضوع معاشات البرلمانيين، فإذا به يخرج عن طوره والشرر يتطاير من عينيه، ثم أخذ يصرخ ويزبد ويرعد، ضاربا بقبضة يده مرات على الطاولة. لم يكن المعني بصدد المرافعة عن قضية تصب في المصلحة العمومية، من قبيل فشل الجهات الحكومية في معالجة أضرار جائحة كورونا التي أضرت أكثر بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للناس، وأودت بأرواح الكثيرين. أو كان يتحدث عن ارتفاع الجريمة وانعدام الأمن، وظاهرة اختطاف واغتصاب وقتل الأطفال الصغار التي تزايدت مؤخرا في أكثر من منطقة في البلاد، أو أن مشاعر فائضة من الحمية الوطنية تكون قد أخذته فجأة، فلم يحتمل الرجل الضيم وقام منتقدا غياب موقف حازم وجاد من الدولة المغربية، التي أهملت الرد الحاسم على من يسميهم الإعلام في المغرب: "انفصاليو الداخل"، وقد أعلنت الناشطة الصحراوية أميناتو حيدر، متحدية من داخل مدينة العيون، عن تكوين هيئة سياسية لمواجهة ما سمي ب"الاحتلال المغربي للصحراء". تنتشر على المواقع الاجتماعية صور لقادة وكبار مسيري حزب العدالة والتنمية تظهر كيف كانوا سابقا وكيف أصبحوا لاحقا، وكيف مروا من الفقر والبساطة إلى الثراء الفاحش والإسراف باسم الدين ما جرى وحصل، هو أن إدريس الأزمي بلغ به الضيق والبرم مبلغه، فهب للاحتجاج ضد ما يتداوله جمهور عريض من الشعب المغربي، في مواقع التواصل الاجتماعي، من مطالب بإلغاء معاشات البرلمانيين والوزراء. لقد شكك إدريس الأزمي في جدوى وأهمية من سماهم ب"المؤثرين" عبر في الشبكة العنكبوتية. لم ينتبه "السيد النائب المحترم" لما يصدر عنه، وهو يتناول الكلمة تحت صرح البرلمان، واثقا من امتلاكه لخطابة مفوهة، عندما عنَّ له أن يشرع في تهديد وإهانة المواطنين. ولم يجد أسلوبا آخر مؤاتيا غير التكشير عن غضبه والصراخ بعصيبة لافتة، مدافعا بشراسة عن "دخله السياسي"، ومدافعا عن الرواتب العالية والامتيازات التي يستفيد منها المنتخبون والوزراء. ولخلط الأوراق تعمد الأزمي إقحام موظفي الدولة من الولاة والمحافظين وأصحاب المهن الحرة مثل الأطباء. كما لم يجد إدريس الأزمي أية غضاضة وهو يرفع سبابته مهددا: "لا تلمسوا راتبي وامتيازاتي المالية، أنتم شعبويون ولن أدخر جهدا في مهاجمتكم". وكمن يتأبط عذره معه، فسر أسباب "خروجه": "إن هذه المنافع تجعلني محصنا ضد الفساد. فإما أن أستمر في جمع الملايين الخاصة بي، أو أن أتحول إلى فاسد مرتشي وأستهزئ بكم. أنتم حالمون إذ تطالبون بإلغاء التعويضات والامتيازات والمعاشات.. فلا تحلموا…". لغة العقيد "البيليكي" مما رفع من حدة الإثارة هو اشتداد الأزمة الاقتصادية في المغرب الناجمة عن تداعيات "كوفيد-19″، وارتفاع أصوات الرأي العام المغربي بضرورة سن قوانين تقشفية وتجنب التبذير، وإقرار قانون التنافي في المسؤوليات وما يستتبعها من تعدد التعويضات والمعاشات في الهيئات والمجالس المهنية المنتخبة والمؤسسات الدستورية. ففي الوقت الذي يعاني المواطنون من وطأة التفقير ومن انخفاض قيمة الرواتب والأجور مقارنة مع ارتفاع الأسعار، فإن نوابا في البرلمان يحصلون على أجور خيالية بالنسبة لمحدودي الدخل والعاطلين. وما زاد من تمدد مساحة الحريق، هو هوية البرلماني إدريس الأزمي، فهو من حزب يرفع شعارات دينية وأخلاقية، وصل تحت يافطة محاربة الفساد والاستبداد. برلماني يراكم تعويضات عن عدد من المهام التمثيلية والامتيازات، منها رئاسته لبلدية المدينة العريقة فاس، ورئاسته المجلس الوطني للحزب الذي يرأس الحكومة، حزب العدالة والتنمية (ذو التوجه الإسلامي)، واستفادته من معاش وزير سابق (وزير الميزانية في حكومة الإسلامي عبد الإله بنكيران)، وكان أيضا رئيسا للمجموعة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية. في تدخله أمام لجنة المالية بالبرلمان ظهر إدريس الأزمي معتدا بسلطته، لم يتردد في مهاجمة مستخدمي الإنترنت بلهجة غريبة لا تخلو من عنف وعصبية واستفزاز، مستعملا لغة انفعالية وعبارات مهجورة غير لائقة وشعبوية، والغريب أنه هو من وصف منتقديه بالشعبوية، ولجأ إلى أسلوب لا يلائم حرمة البرلمان، ولا يناسب "صعود نجمه" في أوساط حزبه الإسلامي، ففي المؤتمر الأخير لحزب العدالة والتنمية (2017)، كاد الأزمي أن يتفوق على رئيس الحزب ورئيس الحكومة سعد الدين العثماني، إذ لم يكن فارق الأصوات بينهما كبيرا. لم يتوقع إدريس الأزمي رجات الزلزال الذي سيحدثه تدخله، ففي دقائق فعل الأزمي بنفسه وبجماعته الحزبية ما لا يفعله العدو بعدوه. قال إدريس الأزمي في جلسة البرلمان المشار إليها: "أولئك الذين يهاجمون مؤسسات الدولة، يجب أن يعلموا أن البرلمانيين لديهم أطفال أيضا لإطعامهم. هل تريدون من البرلماني أن يعمل "بيليكي" (لفظ مُحوَّر من اللغة الفرنسية يعني: مجانا)… إن الحكومة لا تعمل "بليكي"، والولاة والمحافظون والمدراء ورؤساء الدوائر والموظفين لا يعملون "بيليكي"… إن حرمان البرلمانيين من حقهم في تلقي المخصصات التعويضية هو أسوأ نزعة شعبوية". ووصف المنتقدين بعبارة "الديبشخي" (التي اختلف المجتهدون في ترجمتها وأصلها اللغوي)، وظل يردد عند كل جملة كلمة "بيليكي" ما جعل رواد المواقع الاجتماعية يطلقون عليه لقب: "المستر بيليكي". لم يقف المشهد المثير عند هذه العتبة، بل امتد ليفاجئ المغاربة بإدريس الأزمي وقد اعتمر قبعة الدكتاتور الليبي العقيد القذافي ولبس عباءته الفضفاضة، حين بدأ يصرخ مثله موجها كلامه للفيسبوكيين واليوتوبيين: "من أنتم؟ ما الذي جعلكم تظلمون المشهد السياسي والاقتصادي وأنتم لا تنتجون شيئا". ثم ختم النائب الإسلامي بالتحريض على ضرورة التصدي لأمثال هؤلاء "الغماقة" (باللهجة المغربية: النصابون المضللون) من "يخدمون أجندات معينة"، والوقوف ضد دعوتهم للعمل المجاني.. "يجب علينا التصدي بحزم وأن نقف كسد منيع لهجمات وحملات التشهير، من قبل "المؤثرين الاجتماعيين". نحن بحاجة إلى وقف أفعالهم لأنهم يعتقدون أنهم سيبثون فينا الخوف والرعب لأننا نحصل على أجورنا في نهاية الشهر. دعهم يأتون ويجلسوا معنا ويفحصوا وضعنا المالي بدلا من إلقاء أرقام عشوائية بشكل أعمى". لم يتوقع إدريس الأزمي رجات الزلزال الذي سيحدثه تدخله، ففي دقائق فعل الأزمي بنفسه وبجماعته الحزبية ما لا يفعله العدو بعدوه، ربما كان الرجل يسعى للتألق والتموقع فإذا به من حيث لا يدري يرمي بنفسه في لجة المحرقة، ويتحول إلى أضحوكة وكاريكاتور دون كيشوتي يحارب طواحين الإنترنيت. إرشاء النخب وشراء الذمم حدث هذا أثناء مناقشة معاشات النواب داخل مجلس النواب. بطلب من النائب عمر بلافريج ورفيقه النائب مصطفى الشناوي (من فيدرالية اليسار الديمقراطي)، وكانا معا قد تقدما بمقترح منذ سنة 2018، يلح على ضرورة إلغاء معاشات البرلمانيين، واعتبر بلافريج في مداخلته أمام لجنة المالية والتنمية الاقتصادية بمجلس النواب "أن العضوية في مجلسي البرلمان مهمة وطنية شريفة، وليست مهنة. الإنابة في البرلمان ليست (گريمة) "مأذونية نقل" تقدم للبرلماني ويملكها طوال حياته". وقد ظهرت على صفحات فيسبوك تعليقات وآراء مساندة لممثلي فيدرالية اليسار الديمقراطي، وتساءل العديدون بأي شرعية يحصل البرلمانيون على رواتب مدى الحياة عندما نهاية ولايتهم؟ كيف يمكن توضيح أن الوزير الذي يتم عزله بعد ستة أشهر يستمر في تلقى أكثر من 30 ألف درهم شهريا مدى الحياة؟ والمغرب ليس بلدا غنيا أو مملكة نفطية؟ فكيف يستمر آلاف البرلمانيين السابقين في تلقي رواتب مدى الحياة على حساب دافعي الضرائب، وإرهاق الخزينة العامة بتعويضات وامتيازات ناتجة عن ظاهرة تناسل المجالس الاستشارية والهيئات واللجان الوطنية التي يخترعها النظام باستمرار لإرشاء النخب وشراء الذمم. عفا الله عما سلف سبق لرئيس حزب العدالة والتنمية عبد الإله بنكيران من موقع المعارضة، أن صرح في تدخلاته وخطاباته أنه إذا ما وصل إلى الحكومة سيحارب الامتيازات وتهريب المال العام والفساد، وفي حالة إذا ما وجد نفسه عاجزا عن تحقيق ذلك سيقدم استقالته. لكن الناس شاهدوا كيف أخلف بنكيران وعده، فلا الامتيازات حوربت ولا هو قدم استقالته، بل صار اسم عبد الإله بنكيران وحزبه عنوانا مرادفا للفساد وللريع، خصوصا عندما أطلق عبارة "عفا الله عما سلف" بشأن مهربي الأموال والفاسدين، وسيتضح ذلك أكثر لما قبل الاستفادة من تقاعد لم يكن يحلم به، (ما يزيد عن سبعة آلاف دولار شهريا). يأخذه بنكيران ويصلي متخشعا يحمد الله على نعمه وخيراته التي وقعت عليه من السماء. وتنتشر على المواقع الاجتماعية صور لقادة وكبار مسيري حزب العدالة والتنمية تظهر كيف كانوا سابقا وكيف أصبحوا لاحقا، وكيف مروا من الفقر والبساطة إلى الثراء الفاحش والإسراف باسم الدين. وبعد أن كانوا يستعملون النقل العمومي، أو يركبون سيارات شعبية، صاروا يمتطون السيارات الفارهة. ولم يصلوا ببرنامج اقتصادي اجتماعي حقيقي بديل، بل كان برنامجهم يستند على لغة دينية بحتة، ويتهمون دائما بسرقة ثورة الربيع العربي في المغرب، عندما خرج الشعب في 20 فبراير 2011. وكيف سعى بنكيران وحزبه إلى الكلام الشعبوي، مثل ما فعل الأزمي الذي دعا إلى التحريض ضد الشعب، وإلى فرض الرقابة على الإنترنيت، ما ذكر الناس بقانون 22.20 الذي أطلقه قبل أشهر وزير العدل المنتمي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بدعم من كاتبه الأول إدريس لشكر، لكن موقف "شعب فيسبوك" أسقط القانون. مسيرة "ولد زروال" وافتراء المظلومية ما يحدث حاليا في المشهد السياسي المغربي ربما يذكر البعض بما جرى قبيل أيام قليلة من انتخابات 2016، حين تم حشد مسيرة كبرى طافت أطول شارع بالدار البيضاء، وهي المسيرة التي اشتهرت باسم "مسيرة ولد زروال"، فعندما وجهت ميكروفانات الصحافة الرقمية إلى المشاركين في المسيرة اتضح أن لا صلة لهم بشعار المسيرة (ضد أسلمة الدولة والمجتمع)، وأنهم سيقوا كالأغنام في صراع اللئام، وقالت امرأة فقيرة إن النائب عن دائرتهم ولد زروال (من حزب الأصالة والمعاصرة)، هو من أمرنا بالمشاركة في المسيرة. لم يجد إدريس الأزمي أية غضاضة وهو يرفع سبابته مهددا: "لا تلمسوا راتبي وامتيازاتي المالية، أنتم شعبويون ولن أدخر جهدا في مهاجمتكم" ما يدفع للتساؤل أن "مسيرة ولد زروال" هذا العام انطلقت مبكرا، لكن عبر شوارع فيسبوك واليوتيوب، وأن القصر ضاق ذرعا بالإسلاميين بعد أن استنفدت مهمتهم التي استدعاها الربيع العربي وحركة 20 فبراير. وقد رأينا في الانتخابات السابقة كيف رفض القصر التجديد لعبد الإله بنكيران، وواقعة "البلوكاج" الذي عمر نصف سنة قبل إرغام بنكيران على الاستسلام والعودة إلى منزله زوجته بحي الليمون في الرباط، وتعويضه بمحازبه سعد الدين العثماني. وهو "البلوكاج" الذي يقال إن من ساعد في نسج خيوطه وأحابيله هو الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي إدريس لشكر بدعم من عزيز أخنوش وزير الفلاحة والصيد البحري. وكانت المجازاة بوزراء اتحاديين في الحكومة وبرئاسة البرلمان، بالرغم من كون الاتحاد الاشتراكي لم يحظ سوى ب 19 مقعدا فقط بالكاد تمكن من إنشاء فريق برلماني صغير. واتهم لشكر ببيع الحزب العتيد في سوق النخاسة. وذلك ما عبر عنه مؤخرا بوضوح العثماني في اجتماع حزبي، بكون العدالة والتنمية مستهدف من لوبيات سياسية وإعلامية تهدف إلى تحجيم حزبه والقضاء عليه، عبر تغيير القوانين الانتخابية المسيئة للمسار الديمقراطي في المغرب. لكن حزب العدالة والتنمية وقد ذاق السلطة ونعيمها تولدت لديه رغبة أقوى في البقاء في السلطة، وصار يلقي بأخطائه وزلاته وفشله على "العفاريت والتماسيح" وفق تعبير زعيمه بنكيران، ولم تعوزه وسيلة المظلومية وادعاء الاستهداف من خلال "حملات مسعورة". فهل سنشهد تراجعا للعزوف الكبير عن التصويت في الانتخابات القادمة لقطع الطريق عن التجديد للعدالة والتنمية، كما يأمل خصوم الإسلاميين، أم سيبقى "ولد زروال" وحيدا ويندم! وتكون ثورة الفيسبوكيين مجرد ثرثرة تكنولوجية؟ إن الغد لناظره لقريب.