بما يكون الباحث العُماني سعيد بن عبد الله الدارودي، مؤلف كتاب (حول عروبة البربر: مدخل إلى عروبة الأمازيغيين من خلال اللسان)، أوّل عربي مشرقي يعنى بالخوض في موضوع عروبة الأمازيغ (البربر)، الذي بقي محصورا دائما في أقطار المغرب العربي، ولم يأخذ الاهتمام الذي يستحقه منّا نحن عرب المشرق، رغم أهميته، بل وخطورته، على عرب المغرب والمشرق معا، كونه يمس وحدة الأمة حاضرا ومستقبلاً. لفت انتباهي مبكرا في موضوع الأمازيغ، لا سيما في الجزائر والمغرب، أن جهات فرنسية تعمل باستمرار، وتدعم جهود بعض الأشخاص الذين يروجون لاختلاف الأمازيغ عن العرب عرقيا، وذلك بهدف تمزيق نسيج مجتمعات المغرب العربي الكبير، وزرع الحساسيات التي تدفع باتجاه الاستعانة بفرنسا لدعم مساع انعزالية، وأبعد من هذا، للترويج لنزعات معادية للعرب والعروبة، بما يجره هذا الخطاب الذي يغذى من جهات استعمارية عملت دائما على زرع كل أسباب التباعد بين العرب، وإضعاف الصلة بينهم، وحرمانهم من بناء وطن واحد قوي ومنيع..إلى صراعات حادة تضعف نسيج المجتمع الواحد في المجتمع المحلي الواحد. يركز الباحث على مناقشة ادعاء بعض دعاة الأمازيغية على اختلاف اللغة الأمازيغية عن اللغة العربية، علما بأنه لا توجد لغة أمازيغية واحدة، كما يرى بالوقائع، بل لهجات مختلفة كليا، بحيث لا يستطيع الأمازيغ التفاهم بها فيما بينهم. يكتب الدارودي في المقدمة المستفيضة: ما انفك المنخرطون في هذه الحركة منذ البداية يشيعون بأن أهم عوامل استقلال البربر عن غيرهم، وتفردهم، هو عامل اللسان...( ص7) يشير الباحث إلى سعي دعاة الأمازيغية الانعزالية لاصطناع لغة موحدة، وتقعيدها، للتغلّب على مشكلة اللهجات المختلفة التي لا تمكن الأمازيغ من التفاهم فيما بينهم، وذلك بوضع المعاجم، وتقعيد هذه اللغة الواحدة، للبرهنة على أنها تختلف عن اللغة العربية تحديدا. يكتب الدارودي في مقدمته للكتاب: ورغم هذه الجهود المضنية التي تقوم بها الحركة يقصد الأمازيغية وكل هذه التجمعات، والمراكز، والباحثين اللسانيين المنتمين إليها، لم يسع أحد إلى القيام بمشروع في المقارنة اللغوية ما بين اللسانين البربري والعربي لإظهار ما بينهما من أواصر القربى...(ص7) الدارودي معني ليس بتعريب الأمازيغيين، ولكن بالبرهنة على عروبتهم من خلال بحث لغوي معمق، ومقارنة بين مفردات الأمازيغية الشائعة وبين مفردات اللغة العربية، والتي يعود بعضها، وهو غير قليل، إلى مفردات عُمانية، تحديدا ظفارية شحارية. يوضح الدارودي في مقدمة كتابه هدفه من وضعه للكتاب الذي بذل فيه جهدا امتد على مدى ثمانية أعوام، كما عرفت منه في مكالمة مطولة: لقد أردت لهذا الكتاب أن يكون شاهدا ودليلاً على عروبة أقوام كانوا، وما زالوا، يتكلمون بلهجات سميت لغة..وما أوردته بين دفتي هذا المؤلف يدحض هذه المقولة التي أضحت عند الكثير من الناس مسلمات وبديهيات لا تقبل النقاش. لقد سردت ها هنا الكثير من الشواهد حتى أثبت بها أن البربرية ليست سوى لسان عربي، شواهد ليست من المعجم حسب، بل من النحو والصرف، والصوت أيضا..(ص11) يورد الباحث الدارودي في مقدمته معلومة كتبها الرحالة الكبير ابن بطوطة، لم يتوقف عندها من قرأوا رحلته العظيمة، هو الذي يعتبر في مقدمة أعظم الرحالة في كل العصور: ..ولقد رجح ابن بطوطة أن تكون ظفار هي موطن البربر الذي نزحوا منه إلى الشمال الأفريقي... ويضيف الباحث، حتى لا يقع شك في كلام ابن بطوطة، ظنا بأنه عربي، وأنه صاحب هوى وغرض: وابن بطوطة رحالة مغربي شهير، ينتمي إلى قبيلة لواتة البربرية، وهو أعظم رحالة في تاريخ البشرية. وقد زار ظفار، وحلّ بها...( ص11). في ختام مقدمته الغنية التي لا يمكن تلخيصها، يكتب الدارودي: عديدة هي الأدلة التي تخبر عن أرومة الأمازيغ الشرقية، أدلة من المعمار، والموسيقى، والكتابة القديمة ..وغيرها، لكن الحجج اللغوية تظل الأقوى تأكيدا، والأعظم تأثيرا وإقناعا في إثبات عروبة المغاربة القدامى ...(ص15) في فصل تمهيدي، ينحو الباحث إلى طرح الأسئلة، و..يجيب عليها، وغرضه أن يخلص عقول من يتم تضليلهم من المغالطات التي يروّج لها دعاة الأمازيغية المتصادمة مع العروبة. من هذه الأسئلة: هل البربرية لغة واحدة؟ يكشف في جوابه المستفيض على السؤال، أن اللهجات الأمازيغية تبلغ حوالي 200 لهجة..ولتدارك هذا الوضع المربك حاول ذوو النزعة البربرية توحيد بعض هذه اللهجات في لغة معيارية واحدة، وحدث ما كان متوقعا: الفشل الذريع (ص19) يطرح الباحث سؤالاً هاما، يوضح الالتباس بين (الأمازيغ) و(البربر): هل البربر لفظة قدح، والأمازيغ لفظة مدح؟ يجيب الباحث على السؤال الذي وضعه بما يلي: إن القول بأن البربر تسمية مسيئة أكثر منها صفة حقيقية للعرب الأمازيغ قول غير صائب. نحن نعرف أن الرومان أطلقوا هذه التسمية على الليبيين سكان المغرب الكبير، بمعنى غير متحضرين، همج، لكن لا ضير في هذا، وإنما الضير في الخطأ المشين الذي يقع فيه مثقفونا عندما ينقلون الكلمة الإنكليزية، والفرنسية، حرفيا كالببغاوات، فنسمعهم ينددون بالعدوان الأمريكي (البربري)، والاجتياح الصهيوني البربري، وكأن قاموس العربية لا توجد به كلمة (وحشي)، وكلمة همجي...( ص22). كلمة أمازيغ متباينة المعاني في اللهجات الأمازيغية، فهي تارة بمعنى: الشريف، وتارة بمعنى الأسود، وهي في بعض اللهجات تنطق أماتزيغ، وفي بعضها أماشيغ، وفي بعضها أماهيغ... يرى الباحث أن تسمية (البربر) لا تهين أصحابها، وأن أسماء كثير من الدول الأوربية المعاصرة تبدو ساذجة، ومضحكة، وأحيانا أشبه ما تكون بسبّة، فمثلا فرنسا معناها غير المهذب، الفج، الهمجي. النمسا معناها الحيوان وهي كلمة ماخوذة من الروسية. إيطاليا تعني: بلاد البقر. ألمانيا: الرجل العدو، المعادي. يصل الباحث الدارودي إلى خلاصة خطيرة، وهي: إن الحساسية المفرطة لدى هؤلاء الشعوبيين الجدد من تسمية (البربر)، ومحاولتهم المستميتة لإلغائها من الذاكرة تعني لدينا شيئا واحدا، وهو أن ارتباط هذا الاسم بالحضارة العربية الإسلامية تلك الحضارة التي ما سلمت من غمزهم ولمزهم جعل منه اسما بغيضا لا بدّ من الخلاص منه. ولأن الباحث معني بالبرهنة على عروبة البربر (الأمازيغ) من خلال اللسان، فقد عمد إلى وضع قاموس مقارن بين مفردات البربرية (الأمازيغية) واللغة العربية، في أربعة فصول شكّلت القسم الأكبر من الكتاب الذي يقع في 346 صفحة من القطع الكبير. ولأن المشكلة مطروحة في المغرب العربي، فقد نشر الباحث كتابه في المغرب، وصدر عن دار فكر في مدينة الرباط. هل سيثير هذا الكتاب حوارا جديا؟ أحسب أن الباحث أراد بنشر كتابه في المغرب أن يثير جدلاً جديا، وبخاصة مع دعاة ومنظري الأمازيغية الذين يبذلون جهودا محمومة للبرهنة لغويا على أن البربر (الأمازيغ) ليسوا عربا، وأنهم ينتمون إلى عرق وحضارة مختلفة عن العرب، بدفع من جهات معادية للعرب والعروبة، ولوحدة المجتمعات المغاربية، بحيث تبقى في حالة صراع يؤدي إلى التفكك، وهو هدف استعماري ثابت ومتجدد. * صدر الكتاب عن منشورات فكر الرباط، المغرب 2012