خبران مهمان مرا مع الأخبار السيارة مرور الكرام. خبر التحقيق مع القاضي عادل فتحي، وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية بتازة، من طرف المجلس الأعلى للقضاء. وخبر الاستماع إلى القاضي يونس مخلي رئيس نادي القضاة من طرف المفتشية العامة بوزارة العدل. كلا القاضيان تم التحقيق معهما على خلفية تصريحات أو مقالات لهما. القاضي فتحي تم التحقيق معه على خلفية المقالات والتصريحات التي نشرها أو أدلى بها لبعض وسائل الإعلام، وكان موقع "لكم. كوم"، سباقا إلى نشر أول مقالات وتصريحات هذا القاضي الشجاع، عندما خصَّنا بها. والقاضي مخلي تم الاستماع إليه على خلفية تصريحاته لجريدتين يوميتين، ردا على اتهامات مندوب إدارة السجون حفيظ بنهاشم التي حمل فيها القضاة مسؤولية الاكتظاظ الذي تعرفه السجون المغربية. في حالة القاضي فتحي، انصب التحقيق معه على ما حملته مقالاته الجريئة من آراء حول إصلاح القضاء وصون كرامته وضمان استقلاليته، وطرق محاربة الفساد بكل أنواعه خاصة منه الفساد الذي يتورط فيه كبار المسؤولين، وذلك من خلال إعمال القانون الذي يجب أن يقف الجميع سواسية أمامه، وأخيرا مطالبته بضرورة إخضاع الشرطة القضائية لسلطة القضاء ومراقبته. وفي حالة القاضي مخلي ركزت الأسئلة الموجهة إليه على تصريحه القائل بأن العديد من المعتقلات الإدارية لا يعرف عنها القضاء أي شيء، وبالتالي فلا أحد يعرف ما يُرتكب داخلها من تجاوزات بما في ذلك حتى مندوبية السجون، وطالب بأن تخضع كل المعتقلات لمراقبة القضاء. وهذا ليس مطلب القضاة، وإنما هو مطلب الوزارة كذلك في عهد الوزير الحالي مصطفى الرميد، الذي اشتكى أكثر من مرة وعلانية وأمام البرلمان من كون مندوبية إدارة السجون التي لم تعد تابعة لوزارة العدل لا يعرف ما يُركتب داخل معتقلاتها من فظاعات وانتهاكات لحقوق السجناء والمعتقلين، خاصة مع تولى رآسة هذه الإدارة شخص معروف بماضيه الأمني السيئ خلال سنوات الرصاص التي عاشها المغرب، ومازال هناك أشخاص كثيرون يعيشونها حتى اليوم في غياهب السجون. هذا، هو الجزء الظاهر من جبل الثلج في قضية القاضيَيْن، لكن ما خفي أعظم! أولا: إن التحقيق أو الاستماع إلى قاضي عبَّر عن رأيه، مخالف لروح الدستور الحالي ولكل التصريحات والنوايا المعبر عنها لإصلاح القضاء وصون كرامته وضمان استقلاليته. فالدستور الحالي ينص في الفصل 107 على استقلال السلطة القضائية عن كل من السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية. أكثر من ذلك فإن هذا الدستور جعل استقلال القضاء حقّاً للقاضي بل واجباً عليه، واعتبر في الفصل 109 أن كل إخلال من القاضي بواجب الاستقلال والتجرد يعد خطأ مهنيا جسيما. بل إن الدستور الحالي سما ولأول مرة بمعاقبة كل من حاول التأثير على القاضي بكيفية غير مشروعة، سواء كان من سلط الدولة أو غيرها، إلى مستوى المبادئ الدستورية. ثانيا: إن توقيت الاستماع والتحقيق مع القاضيين يأتي في وقت عبَّر فيه نادي القضاة عن مواقف جعلته في موقف المعارض لتوجهات السلطة، وخاصة لسياسة وزارة العدل، وتجلت هذه المعارضة صراحة عندما انسحب نادي القضاة من لجنة الحوار لإصلاح العدالة. وعبر القضاة عن معارضتهم هذه بجلاء عندما نزلوا لأول مرة في تاريخ القضاء المغربي، إلى الشارع يوم 6 أكتوبر للاحتجاج من أجل كرامة واستقلال القضاء، وهو ما يضرب في الصميم كل حديث عن استقلالية القضاء والفصل بين السلط الذي جاء به الدستور الحالي، وينسف كل الخطب الرسمية عن إصلاحات مازالت لم تتحقق. ثالثا: يبدو أن الهدف من جر القاضيين للتحقيق معهما، وأستسمح هنا عن استعمال كلمة "جر" هذه في حق قاضيين محترمين بصفتهما وبمواقفهما الجرئية وآرائهما الشجاعة، هو بعث رسالة واضحة إلى باقي القضاة ليلتزموا الصمت خاصة عندما يكون محرك انتقادهم واحتجاجهم هو حرصهم على استقلالية القضاء وصون كرامته وكرامة رجاله. إذ لا يعقل أن يتم التحقيق والاستماع إلى قاضيين عبرا بصراحة وشجاعة عن آراء تصب في مصلحة القضاء واستقلاليته ونزاهته، وفي نفس الوقت يفرج عن قاضي تم اعتقاله في حالة تلبس بمدينة طنجة، وبعلم وبإشراف من وزير العدل كما سبق أن صرح بذلك مصطفى الرميد أمام البرلمان، وهو يتلقى رشوة من أحد المتقاضين، ثم يطوى ملفه في انتظار أن يلفه النسيان! عندما تعرض القاضي جعفر حسون لمضايقات بسبب مواقفه الشجاعة من استقلال القضاء، وهي نفس المواقف التي يدافع عنها اليوم القاضيان فتحي ومخلي، وبسبب أحكامه عندما كان رئيسا لمحكمة الاستئناف الإدارية بمراكش، تبنى حزب "العدالة والتنمية" قضيته ودافع عنه بشجاعة وتم تعيينه بسرعة وبدون احترام مساطر الانتخابات الداخلية للحزب، عضوا بأمانته العامة، فما الذي تغير ما بين الأمس القريب جدا واليوم حتى ينقلب موقف حزب رئيس الحكومة ووزير عدله، من مناصر للأصوات المدافعة عن استقلال القضاء من داخل جهاز القضاء، إلى معاقب لها ومحقق معها؟ أم هو سحر الكراسي، التي تدوِّخ الجالسين عليها وتنسيهم مبادئهم ومواقفهم! ثم لماذا أخرسوا صوت القاضي حسون اليوم؟ هل إسكاته بمنصب مستشار بديوان الوزير الحبيب الشوباني هو موقعه الطبيعي؟ رابعا، وهنا مربط الفرس، بالعودة إلى تصريحات ومقالات القاضيين فتحي ومخلي، فإن ما أزعج السلطات أكثر، ليس هو مطالبتهما باستقلالية القضاء ونزاهته وصون كرامته... وإنما هو مطالبتهما صراحة وعلانية بضرورة وضع جهاز مراقبة التراب الوطني المعروف اختصارا ب "ديستي" تحت مراقبة القضاء. وهذه أول مرة تصدر فيها مطالب من هذا النوع من داخل جسم القضاء. لقد عبر عن ذلك القاضي مخلي عندما طالب بإخضاع المعتقلات الإدارية في الجنوب المغربي إلى سلطة القضاء. والمعروف أن مثل تلك المعتقلات التي كانت في أغلبها سرية غالبا ما كانت تستعمل أقبية للتعذيب والاعتقال التعسفي من قبل الأجهزة السرية. والأمثلة على تلك المعتقلات السيئة الذكر في الماضي مازالت موشومة في ذاكرة المعتقلين من أكدز إلى قلعة مكونة مرورا بأسا الزاك إلى مقر السيمي بالعيون...كلها كانت معتقلات سرية تحت مسميات معتقلات إدارية، وكلها ارتكبت فيها فظاعات إنسانية مازال ضحاياها شهود عليها أحياء يرزقون... نفس المطلب عبر عنه كذلك وبوضوح أكبر القاضي فتحي الذي تحدث صراحة عن "الأعطاب" التي تعتري طريقة اشتغال عناصر مديرية جهاز "ديستي" المنفلت من كل رقابة. وعقد مقارنة بين تباين آليات الإشتغال بينه وبين مؤسسة النيابة العامة التي قال إنها ما تزال تشتغل بوسائل تقليدية في حين يتوفر جهاز "ديستي" على إمكانيات تفوق إمكانيات النيابة العامة. وطالب بإعادة النظر في مفهوم منظومة الأمن وبإعادة النظر في هيكلة ومهام ودور هذا الجهاز. فبالرغم من منح الصفة الضبطية لعناصر هذا الجهاز، إلا أن ذلك لا يعني أنهم أصبحوا خاضعين لمراقبة النيابة العامة يسري عليهم ما يسري على الشرطة القضائية. كما أن عدم استقلالية النيابة العامة في وضعها الحالي يطرح أكثر من سؤال حول قدرتها على مراقبة جهاز نفوذه وإمكانياته تجعله فوق كل مراقبة أو محاسبة. إن المزعج بالنسبة للسلطة في تصريحات القاضيين فتحي ومخلي هو وضعهما أصبعيهما على مكمن الداء، الذي بدون استئصاله يستحيل إصلاح منظومة القضاء التي لا يمكن أن تُصلح بدون وجود حكامة أمنية. وهو ما سبق أن عبر عنه بوضوح تقرير "هيئة الإنصاف والمصالحة" عندما ربط في توصياته بين الحكامة الأمنية وإصلاح القضاء. وكما جاء في ذلك التقرير، فقد حمَّل المسؤولية المباشرة عن العديد من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان التي ارتكبت في الماضي، من تعذيب واختطاف واعتقال تعسفي وقتل وعقاب جماعي، إلى أجهزة الأمن وتواطؤ جهاز القضاء. فتلك الجرائم ما كان لها أن تتكرر وتستمر لعدة سنوات لولا وجود قضاء مرتشي وفاسد وجبان، لذلك اعتبره تقرير"هيئة الانصاف والمصالحة"، شريكا ومتواطئا ومسؤولا عن تلك الجرائم والتجاوزات والانتهاكات عندما سكت عنها، بل وأصدر أحكاما جائرة وظالمة في حق أبرياء اعترفت الدولة بعد مرور عدة سنوات بظلمها في حقهم وقامت بتعويضهم لجبر ضررهم، مما جعل مسؤولية القضاء فيما جرى في الماضي مضاعفة، فهو لم يكتف فقط بالسكوت عن ظلم أبرياء، وبإصدار أحكام ظالمة في حقهم، وإنما جعل الدولة تدفع عنه ثمن أخطائه وجُبنه وصمته وتواطئه وظلمه، من أموال الشعب... فهل كان المغرب سيعرف سنوات للرصاص والجمر لو وجد قضاة شجعان رفضوا إصدار أحكام ظالمة؟! ورغم مرور أكثر من سبع سنوات على صدور تقرير "هيئة الانصاف والمصالحة" فإن ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان مازال مفتوحا على كل الاحتمالات وهو ما يعني أن الدولة ما زالت لم تقطع مع انتهاكات الماضي، فقد رأينا كيف عادت نفس الأساليب من اختطاف وتعذيب واعتقال تعسفي في السنوات الأخيرة، حدث ذلك بعد أحداث 16 ماي، وتكرر إبان الحراك الشعبي الذي عرفه المغرب مع بروز حركة 20 فبراير. وعلى إثر هذه الانتهاكات التي سجلتها تقارير منظمات حقوقية مغربية ودولية مشهود لها بالمصداقية، أعاد القضاء إصدار نفس أحكامه الجائرة ضد مواطنين أبرياء، إسلاميين ويساريين وشبان ثائرين وطلاب وطالبات محتجين... مازال الكثير منهم يقبعون وارء القضبان. أكثر من ذلك، فقد تحول القضاء في بعض الحالات إلى شاهد زور وإلى آلة للانتقام من الخصوم السياسيين بل وحتى من الخصوم الشخصيين...كما حدث في قضية رئيس بنك الوفاء السابق خالد الودغيري، والذي بعد أن استعمل القضاء لمعاقبته وأصدر حكمه عليه بعشرين سنة سجنا نافذا، صدر عفو ملكي عنه، في استهانة فاضحة بدور القضاء ورسالته وتسخير سافر له ليقوم بدور العبد المأمور! إن صرخة القاضيين فتحي ومخلي هي مثل ناقوس الخطر، ليس فقط داخل جسم القضاء حتى يستفيق زملاؤهم القضاة وينفضوا عنهم الخَدَر، وإنما داخل مجتمع مستكين ومستسلم يساق مثلما تساق البهيمة البكماء إلى المسلخ بكثير من الدهاء وقليل من الحذر. ورد فعل السلطة تجاههما بالتحقيق معها والاستماع إليهما لتخويفهما وإسكاتهما ينذر بأن ما هو مقبل أسوء مما أدبر. في تعليقه على احتجاج القضاة في الشارع، قال رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران: إذا خرج القضاة يحتجون فماذا بقي ...! نعم، السيد رئيس الحكومة إلا القضاة فهم حماة الحق، والحق هو جوهر العدل والعدل هو أساس الملك. فإذا كنت أنت مجرد رئيس حكومة فهذا شأنك، ولكن المغرب اليوم في حاجة إلى قضاة بكل ما تحمله الكلمة من معاني الضمير والاستقامة، وليس إلى مجرد قضاة! الحل هو الثورة...وهي آتية لا ريب فيها.