كانت مجرد لقطات من الفيلم الأمريكي " براءة المسلمين"- المفتقد للمهنية والإبداع السينمائي - كافية ليخرج مارد الغضب الشعبي من قمقمه في عدد من الدول الإسلامية، حيث عادت إلى الواجهة من جديد خطابات الكراهية، وارتفعت الحناجر بشعارات معادية للولايات المتحدةالأمريكية التي تعرضت مصالحها الديبلوماسية لهجومات من المحتجين كان أخطرها حتى الآن التفجير الذي تعرضت له القنصلية الأمريكية في بنغازي الليبية، وهي العملية التي راح ضحيتها السفير الأمريكي وثلاثة موظفين بالسفارة. يحدث هذا في غمرة غضب شعبي عارم ردا على الفيلم الذي يسيء إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. ويأتي هذا الغليان المرشح لمزيد من التصعيد كأسلوب لنصرة نبي المسلمين والدفاع عنه. والحال أن الذين يختارون لغة القتل كوسيلة للرد على خصومهم، هم في واقع الأمر يسيئون لنبيهم ودينهم أكثر من أي شيء آخر، فهؤلاء الذين يردون على الإساءة بالقتل والعنف ينسون أن سيرة نبي الإسلام نفسه تتضمن مواقف كثيرة كان يعامل خلالها من يسيء إليه بالرفق واللين، ولا يبادله نفس السلوك. لذلك فإن ما يجري من مظاهرات واحتجاجات غاضبة في كثير من الدول العربية والإسلامية يعبر عن ثقافة العنف التي تكاد تكون جزءا ملازما للشخصية المسلمة، وذلك بالرغم من أن رسالة الإسلام تحث على السلم والتسامح وتعادي كل أشكال العنف والتعصب. وهذا لا يعني طبعا أن على الإنسان المسلم أن يعرض خده الأيمن للطم إذا صفعه أحدهم على خده الأيسر. لكن هذا العداء الجماعي للولايات المتحدةالأمريكية والهجوم على سفاراتها بسبب شريط ضعيف شكلا ومضمونا لن يغير من الواقع شيئا، بل إنه يكرس الصورة السوداوية ذاتها التي رسمتها الوهابية عن هذا الدين الذي أصبح مرادفا للإرهاب بفعل غزوات القاعدة ومن سار على نهجها. هل بقتل السفير الأمريكي في ليبيا ننصر نبينا؟. هل نفعل ذلك عندما نقتحم السفارات ونشعل فيها الحرائق؟. هل تعبر مضامين الشريط المذكور عن الموقف الرسمي للولايات المتحدة؟. هذه هي الأسئلة التي ينبغي أن يتوقف عندها كل هؤلاء الذين يتوعدون أمريكا بعودة " جيش محمد"، ويصرخون: " أوباما يا أوباما كلنا أسامة"... من المؤكد أن ما جاء في الفيلم المثير للجدل مستفز للمشاعر ولا يمكن السكوت عنه، لكن مواجهة مثل هذه الإستفزازات والإساءات بالعنف لن يضع حدا لهذه السلوكات المعادية والممنهجة، بل يمنحها المشروعية ويعمق الصورة السلبية التي انغرست في المجتمعات الغربية عن الإسلام والمسلمين. وفي نازلة "براءة المسلمين" يبدو أن هذه الهبة الشعبية في سبيل نصرة الرسول لا تتأسس على وعي حقيقي بطبيعة رد الفعل اللازم في التعاطي مع كل ما يسيئ للإسلام ورموزه، لأن الفعل الذي ينبغي أن يعبر عن نصرة محمد صلى الله عليه وسلم هو ذلك الذي يتأسس على سلوك الإسلام ومبادئه وأخلاقه، فالتظاهر حق طبيعي، والاحتجاج يعبر عن يقظة ضمير المسلم والتصدي لكل من يحاول النيل من هويته وإيمانه الروحي، لكن الذود عن الإسلام لن يتحقق عن طريق الدم. ثم إن مسؤولية الحكومة الأمريكية غير واردة في هذا المقام، لأنه لا يوجد في القانون الأمريكي ما يجرم مثل هذا العمل. ولا يمكن للدولة أن تتدخل لمنعه لأن ذلك سيعني في الأعراف الأمريكية والدول الغربية ذات التقاليد الديموقراطية العريقة اعتداء على الحريات وخرقا للقانون الذي يعلو ولا يعلى عليه. صحيح أن للحرية حدودا وضوابط، لكن صوت العقل ينبغي أن يكون الفيصل والحكم. ولتفادي كل ما من شأنه أن يؤجج العصبيات ويباعد بين الثقافات، يجب على المسلمين أن ينتصروا للإسلام المعتدل والمنفتح، كما ينبغي على صانعي القرار العالمي أن يضعوا تشريعات دولية تحقق فعليا شعار: "تنتهي حريتي عندما تبدأ حرية الآخرين"، أما هؤلاء الذين يقتلون الإنسان دفاعا عن الله ورسوله، فعليهم أن يأخذوا الحكمة من جبران خليل جبران و "يدافعوا عن الإنسان حتى يعرف الله.". غير أن هذا المطلب سيظل بعيد المنال حتما مادام نموذج ابن لادن هو الذي يقدم نفسه ناطقا رسميا باسم الإسلام والمسلمين.