(1) الأمر في السياسة دائرٌ على الظن والتقدير والترجيح. هذه حقيقةٌ لا يختلف فيها الفضلاءُ العقلاء من السياسيين ومن غير السياسيين. فالشأن في السياسة كان دائما قائما على النظر الاجتهادي، وفقهِ الموازنة، وترتيب الأولويات، والترجيح بين المصالح والمفاسد، وغيرِ هذا مما هو من صميم حياة الناسِ المتطورةِ المُتغيّرةِ المتجدِّدة. في جملة، السياسةُ مجالُها هو البشريُّ النسبيُّ التعدّديُّ الناقصُ، بخلاف الإيمان الديني، الذي مجالُه الربّانيُّ الغيبيُّ المطلقُ الكاملُ. وأعتقد أن من أشد المصائب، التي نزلت بالمسلمين، في الماضي، ويمكن أن تُحيل حاضرَهم ومستقبَلهم إلى دماءٍ وأشلاء ومعاناة وخراب، هي أن يلْبَسَ الرأيُ السياسيُّ البشريُّ لَبُوس المُقدَّس الدينيِّ، ثم يُقابلُ هذا الرأيَ رأيٌ مُخالِفٌ باسم الدين أيضا، ثم يحصل التعارضُ، الناتجُ أصلا عن خلافٍ في الرأي والظن والتقدير والفهم والتأويل، فيتطور إلى تناقضٍ ومواجهة وصراع باسم الدين، فيكون ما عرفه المسلمون في فترات طويلة من تاريخهم من تقاتل ومآس ودمار، حتى قال الشهرستاني، في "الملل والنحل": "...ما سُلّ سيفٌ في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سُلّ على الإمامة في كل زمان". وهل كان الخلافُ حول مسألة الإمامة إلا خلافا سياسيّا؟ وهل خرجت مختلف الآراء في موضوع الحكم في الإسلام عن دائرة الظن والرأي والاجتهاد؟ ولكن حينما ركبت الآراءُ البشريّةُ مركبَ المقدس الديني، فإن النتيجة الحتمية كانت سلّ السيف "في كل زمان". هل هذا الكلامُ يعني أنه لا دينَ في السياسة، ولا سياسةَ في الدين، على مذهب اللادينيّين "اللائكيين"، المعتدلين منهم والمتطرفين؟ لا، ليس لكلامي علاقةٌ بمذهب اللائكيين وأطروحاتِهم الرافضة للدين، في أصوله وفروعه، إما كليا أو جزئيا. لا، الدينُ موجود في السياسة، بما هو أصولٌ وكليّاتٌ وقواعدُ ومقاصدُ كبرى. وليس هناك ما يمنع السياسيَّ أن ينظرَ في هذه الأصول والقواعد، ويستحضر مقاصد الإسلام الكبرى في كل ما يتناوله من جزئيات السياسة ومتغيراتها ومستجداتها ومتناقضاتها. والسياسةُ أيضا موجودةٌ في الدين، بما هي اجتهادٌ ونظر ورأي وتقدير وترجيح واستنباط، لكن استنادا إلى مرجعية وأصول، وبناءً على كليات وقواعد وثوابت. وهذه المرجعيةُ والأصول والكلياتُ والقواعد والثوابت، عند السياسي المسلم، لن تكون إلا في دينه، فضلا عما يستفيده هذا السياسيُّ من ثمراتِ العقل البشري وتجارب الإنسان عبر التاريخ، ومن فقه الواقع المعيش وما يعتملُ في هذا الواقع من أحوال ومعطيات وتطوراتٍ وتغيرات. فعلاقة الإسلام بالسياسة ثابتة راسخة، لكن من جانب المبادئ والكليات والمقاصد. أما في مجالات الفروع والجزئيات والاجتهادات الظنية والفتاوى الظرفية، فإن الأمر فيها مرهون بالأحوال ومعطيات الواقع ومصالح الناس وموازين القوى، وليس لأحد أن يقول إن ما يراه هو ما يقرّره الدين ويفرضُه، وإنما يمكنه أن يقول، مثلا، إن المصلحةَ التي ترجحُها مقاصدُ الإسلام تجعلُه يرى هذا الرأيَ، وتدعوه أن يختارَ هذا المذهب. فالسياسةُ، إذن، ومتعلقاتُها إنما هي من باب الفقه الاجتهادي، الذي ليس فيه للمجتهد إلا ثوابتُ الإسلام ومقاصدُه الكبرى، إلى جانب علمه وعقله وفهمه وتقديره وسائر أدوات المجتهدِ ومواهبه. ومذهب كبار علماء الإسلام، عند السّنّة طبعا، أن "أكثر مسائل الخلافة وأحكامها مسائل فقهية ظنية يحكم فيها بموجب الرأي الأغلب"، كما قال حجة الإسلام، أبو حامد الغزالي، رحمه الله، وأن "الإمامة ليست من قواعد الاعتقاد، بل هي ولايةٌ تامة عامة، وأن معظم الأقوال في الولاة والولايات العامة والخاصة مظنونة"، كما قال الإمام الجويني، رحمه الله. (2) في تنزيه الاجتهاد البشري وأركز في هذه الفقرة على مثال المنهاج السياسي لجماعة العدل والإحسان. إن شدةَ تعلقِ أعضاءِ جماعة العدل والإحسان بمرشدِهم فرضَ عليهم-طبعا، هناك بعض الاستثناءات، لكنها ليست بشيء مقارنة بما هو غالب- أن يطابقوا، وهم لا يشعرون، بين فضله الإيماني التربوي وبين آرائه واجتهاداته؛ والعرفُ الموروثُ، وكذلك الأدبُ مع المصحوب والاعتقادُ في فضله وإحسانه، يوجبان على الأصحاب دائما تعظيمَ الجانب الإيماني التربوي في شخصية المرشد، وعدمَ الحديث عنه إلا بما يفيد المحبةَ والاحترام والامتنان. وقد درج أعضاءُ الجماعة في مختلف محاضن التربية والتكوين، وفي كل مستويات التنظيم، على توسيع الجانب الربّاني في شخصية المرشد وتضخيمه ليشمل كلَّ ما يصدر عنه من أفكار وبَدَوَاتٍ وأفهام، ومِنْ ثَمَّ باتوا ينظرون إلى آرائه السياسية واجتهاداته الفقهية بنفس التبجيل والتعظيم الذي ينظرون به إلى فضله الرباني التربوي الإرشادي، فتطابق هذا وذاك، فوقع المحذورُ، وهو هذا الانحرافُ الذي بدأت الجماعةُ تنجرف إليه جرّاء الإصرار على عدمِ تناول أيِّ شيء من آراء المرشد-وتهمنا هنا آراؤه السياسيّة- بأيِّ نوع من أنواع المراجعة والنقد والتعديل، بل باتت هذه الآراءُ، داخل الجماعة، مفروضةً على أنها من منهاج الجماعة، مثلُها مثلُ المواد التربوية، التي لا يملك أحدٌ مناقشتَها أو تصحيحَها أو التعليقَ عليها، بَلْهَ انتقادَها ورفضَها. إن المنهاج السياسي للجماعة قائمٌ، في أساسه، على اجتهاد الأستاذ عبد السلام ياسين في فقهِ حديثِ الخلافة الثانية، الذي رواه الإمام أحمد، ونصّه: (....عن حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير قال: كنا قعودا في المسجد، وكان بشير رجلا يكف حديثه، فجاء أبو ثعلبة الخشني فقال: يا بشير بن سعد، أتحفظ حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الأمراء؟ فقال حذيفة: أنا أحفظ خطبته. فجلس أبو ثعلبة، فقال حذيفة: قال رسول الله، صلى الله عليه و سلم: تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت. قال حبيب: فلما قام عمر بن عبد العزيز، وكان يزيد بن النعمان بن بشير في صحابته، فكتبت إليه بهذا الحديث أذكره إياه، فقلت له: إني أرجو أن يكون أمير المؤمنين، يعنى عمر، بعد الملك العاض والجبرية. فأدخل كتابي على عمر بن عبد العزيز فسُرّ به وأعجبه.) ويمكن تلخيصُ اجتهاد الأستاذ ياسين في فقه هذا الحديث في العناصر التالية: في الحديث إدانةٌ للأنظمة الملكية، لأنها أنظمة تخالف منهاج النبوة. وفيه-دائما حسب فقه الأستاذ ياسين- تنصيصٌ على حتمية سقوط هذه الأنظمة قبل الانطلاق إلى بناء الخلافة الثانية على منهاج النبوة. وفيه أن تاريخ المسلمين، من الخلافة الأولى إلى الخلافة الثانية على منهاج النبوة، يتجلى في مراحل متتابعة في خط تصاعدي مستقيم صارم، لا يعرف الخلل أو الاعوجاج أو الانحراف، يرسمُ تطوّرَ تاريخ المسلمين من بداية الدعوة إلى إقامة الخلافة الموعودة. وهذه بعضُ الأفكار التي كوّنتها من خلال معايشتي الطويلة لفكر الأستاذ عبد السلام ياسين، ومن خلال تأملاتي ومراجعاتي وانتقاداتي للمنهاج السياسي للجماعة، نظريا وعمليا، أسوقُها على أنها من جنس الفكر السياسي النقدي الحواري، الذي يقوم في أساسه على التعدد والتنوع والاختلاف. وأولُ ما أسجله من هذه الأفكار أن هذا الحديث/العمدة في اجتهاد الأستاذ ياسين هو من النصوص الظنية الدلالة، من حيث ألفاظه، ومن حيث مضمونه، فضلا عن كونه حديثا تعارضُه نصوصٌ حديثية أخرى، بعضُها قطعي في ثبوته ودلالته. ومع هذه الدلالة الظنية، يستحيل أن يكون لهذا الحديث معنى واحدٌ قطعيّ ونهائيّ، وهذا ما يفتح الباب واسعا لاختلاف التفسيرات، وتعدد الفهوم، وتباين الاجتهادات. وهذا يعني أن اجتهادَ الأستاذ ياسين في فهم الحديث وفقهِ أحكامه، هو اجتهاد من بين اجتهادات كثيرة، للقدماء والمحدثين. والفكرةُ الثانية في تعليقاتي على فقه الأستاذ ياسين لحديث الخلافة الثانية أن اللغةَ، وهي عِمادٌ في الفقه والتفسير واستنباط الأحكام، لا تُسعفنا في معرفة الفرق الواضح بين "العض" و"الجبر"؛ فالوصفان، في العربية، يكادان يكونان مترادفين، أو قلْ، لم تعرفْ العربُ للكلمتين معنى اصطلاحيا سياسيا، وهذا ما يترتب عليه، لزوما، تعددٌ في الآراء واختلافٌ في القراءات والاجتهادات. فمثلا، "الملك العاض"، في العربية، هو الذي يصيب فيه الناس عسْفٌ، و"الملك الجبري"، هو الذي يمتاز بالتسلط والتكبر، والمعنيان، كما نلاحظ، متقاربان إن لم يكونا مترادفين. وفي اللغة أيضا، يُطلَقُ "العضوض" مجازا على الداهية، وعلى الزمن الشديد. وفي اللغة، "الجَبْرُ" المتكبّر، و"الإجبارُ" القهرُ والإكراه، وفلانٌ فيه "جبريّة" أي كِبْر. ويطلقُ "الجبّار" على المَلِك، وكذلك "الجَبْر"، و"الجبابرة" الملوكُ. وفي اللغة المعاصرة، "جبريّة" مصدر صناعي من "جَبْر" بمعنى الإكراه والتسلط. فهذا المشكل اللغوي خليقٌ أن تتولد عنه رؤى وتأويلاتٌ وتفسيرات متباينة، تنبني عليها استنتاجاتٌ وأحكام متعددة ومختلفة. والفكرةُ الثالثةُ في تعليقاتي تخصّ المضمونَ العام للحديث. فهو يرصدُ تطورَ تاريخ المسلمين في خمس مراحل يُظهِر حرفُ العطف "ثم" أنها متتابعة. لكننا، عند البحث، نعثر على نصوص حديثية أخرى، ومنها نصوصٌ صحيحة، تسير في الخط المضموني العام لحديثنا، موضوع هذا الكلام، لكنها تختلف عنه، كثيرا أو قليلا، في بعض الألفاظ والعبارات، وفي تقديمِ بعض المراحل وتأخير أخرى، بل وتختلف في عددِ المراحل التي تربط بين زمن "النبوة والرحمة" وزمن "الخلافة الثانية". وهذه الاختلافاتُ ليست بالهيّنة، لأنها تنسف من الأساس حجّة من يريد أن يقدم لنا حديثَ الإمام أحمد، رحمه الله، على أنه نصّ قطعيٌّ في إدانة الأنظمة الملكية الوراثية، وفي فهم تطورِ تاريخ المسلمين، ومعرفةِ مراحل هذا التاريخ، من البداية إلى النهاية. لا. هناك نصوصٌ ورد فيها وصفُ الملكيّة في مرحلة من مراحل تاريخنا ب"الرحمة"؛ ففي (سنن الدارمي)، عن أبي عبيدة ابن الجراح قال: قال رسول الله، صلى الله عليه و سلم: أولُ دينكم نبوةٌ ورحمة، ثم ملْكٌ ورحمة، ثم ملْك أعْفَر، ثم مُلْك وجبَرُوت يُستَحَلّ فيها الخمر والحرير. مُلْكٌ أعْفَرُ أي قائم على المكر والدهاء، ليس فيه خير. وفي روايةٍ في (المعجم الكبير) للإمام الطبراني: أولُ هذا الأمر نبوةٌ ورحمة، ثم يكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملكا ورحمة، ثم يكون إمارة ورحمة، ثم يتكادمون عليه تكادُمَ الحُمُر فعليكم بالجهاد...(انتهى) معنى يتكادمون عليه يعضون عليه، وهو مِنْ كدَمَ الحمارُ كَدْما إذا عضّ بأدنى فمه. وأيضا، ورد وصفُ المُلْك العاض بالرحمة؛ ففي رواية في (الجامع الكبير) للإمام السيوطي: أول هذه الأمة نبوة ورحمة، ثم خلافة ورحمة، ثم ملك عاض وفيه رحمة، ثم جبَرُوتٌ صَلْعَاء ليس لأحد فيها مُتَعَلَّق، تُضربُ فيها الرقابُ، وتُقطع فيها الأيدى والأرجل، وتُؤخذ فيها الأموال. ومعنى "جبروت صلْعاء" ظاهرةٌ بارزةٌ. هذا، وبعضُ النصوص الصحيحةِ تَمَّ فيها الاقتصارُ على ذكر ثلاث مراحل من الخمسة المذكورة في حديث الإمام أحمد؛ ففي (مسند الشاميين) للإمام الطبراني، عن أبي ثعلبة الخشنيّ، عن النبي، صلى الله عليه و سلم، قال: أول دينكم نبوة ورحمة، ثم خلافة ورحمة، ثم ملك وجَبْريّة يُستَحَلّ فيها الحِرُ والحَرير. الحِرُ هو الفَرْج. وبعضُ الروايات وقع فيها تقديمُ مرحلةِ الملك الجبري على الملك العاض، كما ورد في رواية في (المعجم الكبير) للإمام الطبراني، عن أبي ثعلبة أن رسول الله، صلى الله عليه و سلم، قال: إن دينكم نبوة ورحمة، ثم خلافة ورحمة، ثم ملكا وجبرية، ثم ملكا عضوضا يُستحَلّ فيه الحِرُ والحَرٍير. والفكرةُ الرابعة في تعليقاتي على فقه الأستاذ ياسين لحديث مسند الإمام أحمد أن مراحلَ التاريخ السياسي الإسلامي ليست بالمادة اللينة الطيّعة التي يسهل التحكم فيها وصوغُها في قوالب جاهزة. فمراحلُ التاريخ متداخلة تداخلا مُعقَّدا يصعب معه الفصلُ بينها بحدود صارمة. وإذا أضفنا إلى هذا الدلالةَ الظنيّةَ للحديث، واستحضرنا الأحاديثَ الأخرى، التي أوردت أمثلة منها، بدلالاتها المخالفة، قليلا أو كثيرا، فإن كلَّ حديث عن الحدود الصارمة بين أزمنة تاريخ المسلمين، وعن الحتمية القاطعة في الانتقال من مرحلة إلى أخرى، هو حديث منقوض من أساسه بسبب ما قدّمت. خلاصة الكلام أن حديث مسند الإمام أحمد الذي يُعدّ النواةَ الصّلبة في المنهاج السياسي لجماعة العدل والإحسان، هو حديث تقابله أحاديثُ أخرى، بعضُها يصل إلى حدّ التعارض والتضارب، وهو الأمر الذي يجعلنا، على مستوى فهم الحديث وفقهِ أحكامه، أمامَ اجتهادات متعددة، قد تتقارب وقد تتباعد، وأمام فهومٍ متباينة، واستنباطاتٍ وتأويلات قد تصل إلى التنافر والتناقض. ونص رواية الحديثِ نفسُه يؤكد أن الاختلافَ في فهم الحديث وتأويل دلالته هو قديم قِدَمَ الرواية نفسها؛ فهذا حبيب بن سالم، الذي يروي الحديث عن النعمان بن بشير، يتأول عهدَ خلافة عمر بن عبد العزيز على أنه زمنُ الخلافة الثانية المبَشَّرِ بها، بعد عهدي العضّ والجبر. قال حبيب بن سالم: (فلما قام عمر ابن عبد العزيز، وكان يزيد بن النعمان بن بشير في صحابته، فكتبت إليه بهذا الحديث أذكره إياه، فقلت له: إني أرجو أن يكون أميرُ المؤمنين، يعنى عمر، بعد الملك العاض والجبرية. فأدخل كتابي على عمر بن عبد العزيز فسُرّ به وأعجبه.) فقوله: "إني أرجو أن يكون أمير المؤمنين، يعنى عمر، بعد الملك العاض والجبرية"، يؤكد أن الفهمَ التفصيلي لمضمون الحديث، والتمييزَ بين مرحلة وأخرى من المراحل المذكورة، لم يكن واضحا لدى الرعيل الأول ممن عايشوا زمنَ رواية الحديث، ومنهم صحابة كانوا بحضرة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وسمعوا منه مباشرة، فأحرى من جاؤوا بعدهم بعدة قرون. وقد استبعدَ العلامة محمد ناصر الدين الألباني التأويلَ الذي ذهب إليه حبيب بن سالم، وعلق عليه بقوله، في (السلسلة الصحيحة): "ومن البعيدِ عندي حملُ الحديث على عمر بن العزيز، لأن خلافتَه كانت قريبة العهد بالخلافة الراشدة، ولم يكن بعد ملكان: ملْكٌ عاضّ وملْكٌ جبْريّة، والله أعلم". وبعد، فليس من غرضي هنا أن أخوض في المبادئ الأصولية والتفصيلات الفقهية، وما يتفرع عن ذلك من تعدد في الآراء والمذاهب، واختلاف في الاجتهاد والتأويل. وإنما غرضي، أساسا، أن أبين أن تناولَ قضايا سياسية استنادا إلى نصوص "دينية" ظنية، في ثبوتها أو في دلالاتها، أو فيهما معا، من شأنه أن يُطيل أمدَ الصراعات والاختلافات، ومن شأنه، كذلك، أن يَنقلنا من سعةِ الفكر السياسي الاجتهادي التعددي، إلى ضيْق التأويل الديني، الذي يحكّم معايير الكفر والإيمان، ومعايير القداسة والدَّنَاسة، في مجال هو بطبيعته مجال للفكر والعقل والرأي والنقد والتعدد والتنوع والاختلاف. فأيُّ رأي في فهم حديث الخلافةِ وفقهه إنما هو من الاجتهادات الظنية، التي لا علاقة لها بقطعيات الدين، في أصوله وشرائعه وأخلاقه. طبعا، المجتهدُ مُلزَم فيما يراه من رأي، وما ينتهي إليه من حكم أو فتوى، أن يضع نصب عينيه مقاصد الإسلام الكبرى التي، على هديها، يتم ترجيحُ المصالح على المفاسد، واستجلاب المنافع ودفع المضار. ثم بعد هذا، يكون المجتهد حرا في إعمالِ عقله، واستخدامِ أدواته، علما وفهما واستنباطا وموازنة وترجيحا، واعتبارِ الواقع في حيويته وتقلباته وتغيّراته ومستجداته. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين