لقد أتعبتنا بعض الجهات الإعلامية بالحديث عن اقتصاد الريع دون جدوى، دون جديد يذكر ما عدا بعض المبارزات الكلامية التي لا تسمن و لا تغني من جوع، والتي كثيرا ما تكون مفتعلة، ولا ترقى إلى العمل الجاد القادر على الوصول إلى مكمن الداء أو اجتثاث منابع الفساد والخبث. سأتكلم بصفة عامة في رواية رأي، وكل تطابق مع شيء بعينه أو أشخاص بذواتهم فهو مجرد صدفة: اقتصاد الريع مظهر من مظاهر التخلف كما أنه سبب من أسباب التخلف. فالشعب المتخلف شعب كسول لا يحب العمل و لا يريد أن يعمل لأن أفراده ينتظرون هبة، منحة، مأذونية، عطاء أو حتى ضربة حظ في لعبة قمار، و لا أقول صدقة لأن الصدقة لا تعطى من جيب متلقيها و من ماله الذي سلب منه، لأن أساس اقتصاد الريع انه يتصرف بشكل غير عادل في خيرات الأمة... و بما أن اقتصاد الريع لا يسمح بالتوزيع العادل للثروة فإنه يولّد الوصولية و الانتهازية و الحقد والحسد والكراهية والبغضاء بين المواطنين الذين يفقدون كرامتهم كليا و يصبحون متفننين في التملق و الانبطاح من أجل الحصول على عطاء يمكنهم من العيش الرغيد بدون بدل أي مجهود، مما يجعل توحيد الصفوف من أجل مستقبل أفضل أمرا مستحيلا خاصة لما يكون الجهل والأمية حاضرين بقوة في مجتمع ما... اقتصاد الريع يعني انعدام المنطق وتجميد العقل وإبطال الإبداع واغتيال روح المبادرة. السؤال الذي يجب علينا أن نطرحه هو: لماذا الاعتماد على اقتصاد الريع كسياسة وطنية...؟ والجواب سهل للغاية، وهو أنّ اقتصاد الريع يضمن استمرار التخلف الذي تتغذى منه الفئة المستفيدة في بلد ما، مع الإشارة أن هذه الفئة هي قوة غير مرئية تتجلى في عقلية راسخة و ليس في جهاز بعينه، و أنا أعني ما أقول لأن أحزابا وطنية تحبّ اقتصاد الريع حبّا جمّا، ولا داعي أظن للتدقيق في هدا المجال... لقد ألفنا القول بأن اٌقتصاد الريع هو المأذونيات أو ما يعرف'' بالكريمات''، ولكنه أكبر من ذلك بكثير. فلما نرى مثلا في بلد ما أن زعيم حزب سياسي ما يشارك في الانتخابات ثم يقحم حزبه في المعارضة، معارضة لا قبل له بها، بمجرد أنه أدرك أن لا حظوظ له هو شخصيا في الاستوزار في فترة زمنية معينة، أو لأنه تسرع في الفهم، من خلال تصريحات زعيم الحزب الفائز المكلف بتكوين حكومة، أنه يعدّ من الوجوه القديمة غير المرغوب فيها للمشاركة في حكومة مرتقبة جعلت من محاربة الفساد شعارا لها، في بلد ما، فهذا يعتبر من أبشع صور ما يترتب عن اقتصاد الريع حيث أن المنصب ذاته يعتبر أو يعدّ ريعا فظيعا. فيا للهول، كيف لشعب يعيش تحت وطأة كذا أحزاب جعلت من الوصولية و الانتهازية و الأنانية المفرطة شعارا لها أن يجد سبيلا له نحو التقدم؟ الخطورة في اقتصاد الريع هو أن يقوم من ناضل لسنين طويلة ضده إلى اللجوء لتوظيف الأقارب والأحباب و الأصدقاء بمجرد حصوله على منصب يمكّنه من ذلك ضاربا عرض الحائط كل المبادئ، كأن مبدأ الريع جنيّ يتسلط على كل من تسلم سلطة. فالمشكلة إذا في البشر، وليست في القوانين، فما دام كل فرد في المجتمع لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه فسيظل اقتصاد الريع قانونا سائدا ومحترما.. ويا للهوان. فإذا كان شعب بأكمله مجبرا أن يعيش غريبا في بلده، منسلخ عن هويته و لغته، فكيف لكل فرد منه أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه وهو الشعب المسلم؟ وحتى لو أردنا اختزال اقتصاد الريع في رخص النقل العمومي لإرضاء من أصبحوا يمتهنون ''علم'' الشعبوية، فلقد ألفنا القول بأن هناك من يستحقها كونه معاق أو بدون دخل إلى آخره، و الحقيقة أن من أراد من الحاكمين أن يتصدق على أحدهم فليفعل ذلك من ماله الخاص و ليس من خيرات و مؤهلات الشعب الذي له الحق في أن تكون له إدارة عصرية تعتمد تكافئ الفرص، و ذلك لن يتأتى سوى باعتماد دفتر تحملات يحتكم إليه من أراد الاستثمار في مجال النقل العمومي مثلا. فهل كل المعاقين و كل من لا دخل له يتوفر على ''كريمة'' مثلا؟ إذا فالعدل العدل، إنه أساس الملك. ولكن، كفانا فلسفة و نظريات عقيمة في هذا المجال، فالأغلبية الساحقة من المواطنين لا يتوفرون على أية امتيازات، فكيف لهم أن يتألموا إذا سمعوا نبأ قرار الدولة أو الحكومة بالقطع المفاجئ والفوري والنهائي مع نظام المأذونيات ابتداء برخص استغلال الموارد الطبيعية من مقالع الرمال والرخام والمعادن، والصيد في أعالي البحار إلى آخره؟.. ومعلوم أن المستفيدين من كدا ريع هم قلة قليلة كما أنهم اليوم ينعمون في غنى فاحش دون بذل أي مجهود يذكر، فكيف لهم أن ينصرفوا مغاضبين أو أن يعترضوا لو طلب منهم مجرد كف أياديهم على خيرات الأمة بدل أن يعتذروا للشعب المتسامح على أنانيتهم المفرطة العمياء طيلة سنين طويلة ؟ اقتصاد الريع بتجلّياته و نتائجه معروف لدى القاصي و الداني، فلا داعي إذا أن نستمر في التعريف به إلى ما لا نهاية لأن من شأن ذلك أن يؤِدي إلى تمييع الموضوع وتمرير سيكولوجية العجز أمام هذه الظاهرة، وهذا هو المراد بالنسبة للمتشبثين باقتصاد الريع الذين قد يكونون أحيانا وراء إثارة الحديث عن اقتصاد الريع بطريقة تجعل الخائضين في الموضوع يتيهون و يبتعدون عن موضع الخلل ومكمن الداء. فالسؤال الحقيقي هو كالتالي بكل صراحة: كم هم هؤلاء السياسيون و الحقوقيون و الموظفون الذين قد يرفضوا ''كريمة''أو هبة لو منحت لهم ليس خوفا من أن تنشر أسماءهم في الجرائد و لكن خوفا من الله أو دفاعا على التوزيع العادل للثروة، ثروة الشعب؟ والمهم اليوم أن نعرف، أو أن نقرّ أو أن نعترف، أنّ المحسوبية ريع و المناصب الممنوحة لغير أهلها ريع، وأن كل من يوظف أقاربه و أحبابه و أصدقاءه مستغلا وضعه السياسي المرموق أو منصبه الرفيع يعتبر من مكرسي اقتصاد الريع، و لو زعم عكس ذلك. الحقيقة أن اقتصاد الريع متجدر وقوي بقوة مناصريه، فما السبيل إذا لإضعافه ثم إنهائه؟ قبل الجواب على هذا السؤال يجب أن نعرف أولا من هم مناصرو اقتصاد الريع: كل من لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه يعتبر من أشد مناصري اقتصاد الريع، لأنه لن يصاب أبدا بصدمة إذا علم أن فلانا أو علّانا حصل على ريع ما، ''كريمة'' أو هبة بمجرد أنه رقص مثلا على أنغام وتر التنكر للمبادئ و القيم و غير ذلك...لأن من لا يحب لغيره ما يحب لنفسه أناني بطبعه، وبالتالي فاقتصاد الريع لا يصدمه لأنه يفكر في نفسه فقط، وكل آماله أن ينال قسطا من هذا الاقتصاد الفظيع على حساب كل الآخرين. لقد فشلت الأحزاب كلها في تربية المواطنين على المواطنة و كثيرا من هؤلاء المواطنين هرموا و لم يتلقوا بعد التربية التي يستحقون و التي حرموا منها لسنين طوال، ألم يحن الوقت بعد أن نعترف بأننا أخطئنا بإبعاد شيوخ الدين الحنيف و منعناهم بشتى الوسائل عن تربية الناس على أن يحب كل مواطن مسلم لأخيه في الإسلام ما يحبه لنفسه؟ أم أننا مصرون على مواجهة اقتصاد الريع عبر قنوات القضاء؟ هذه ربما مزحة، لأن ما دام المواطنون يرون في المحسوبية و الظلم شيئا عاديا فكيف لنا أن نعوّل على القضاة، وهم مواطنون أيضا، لمواجهة اقتصاد الريع؟ أمّا عن إصلاح القضاء فحدث و لا حرج، ففي رواية صحفية مؤخرا، حكمت قاضية على رجل في عقده الثامن، سلب منه منزله بدون مقابل لسنين عدة، بالسجن النافذ فورا و هو مظلوم ظلما شنيعا لأنه سألها،( ما معناه)، أين هو العدل؟ أمّا نادي القضاة فكل همّه المطالبة باستقلال النيابة العامة عن وزير العدل، وهذا الأخير يقول إنه لا يمكنه أن يتدخل في القضاء الجالس، وهذا يعني أن هكذا قضاء يجب أن يظل يحكم كما يريد أي أن يظل كما هو. فمن يصلح القضاء إذا، إذا لم يتدخل أحد لإصلاحه تحت ذريعة استقلال النيابة العامة عن وزير العدل و عدم تدخل وزير العدل في القضاء الجالس، إلى آخره... ؟ أما الفائز الأكبر في خضم هذه السريالية العامة فهو بطبيعة الحال اقتصاد الريع الذي لن تطاله أبدا يد العدالة في هذه الظروف الحزينة للغاية، التي أساسها تفادي قول كلمة حق والضرب الجماعي على يد كل من تجرأ على قول الحق بصراحة دون لف و لا دوران.