قالت العرب لكل مسمى من اسمه نصيب، لذلك كلما رأيت العصيدة ورأيت تداخل مكوناتها واختلاط موادها وميوعة أجزاءها بعضها في بعض، وتلكعها عند إيلاج الملعقة، وتلصقها في اليد، ونفور الآكل منها بعد الأكل، كونها لم يأكلها اختيارا وإنما أكلها ضطرارا، إذ هي علامة الفقر وعنوان الجدب وشؤم البيت وسوء الطالع، كلما رأيت ذلك ظهرت أمامي صورة عصيد. فالعصيد أو العصيدة كلمة يمجها المغاربة كثيرا ويكرهون منظرها، فما هي هذه الكلمة وعلى من تدل. أما العصيدة فقد عرفتم ما هي وأما عصيد فهو ظاهرة تشكلت بفعل مجموعة من الترسبات الذهنية والتعفنات الفكرية التي تنشأ أحيانا في مخلفات المعرفة حين تخالط نفثات النفس المكرهة على الحياة في واقع لا يرحب بها، وبين أناس لا تنتمي إليهم، فيختلط ذلك الكره وتلك النفرة وذلك الخبث وسوء الطالع، وتنتج مثل هذه الظواهر التي لا تعبر عن المغاربة ذوي الأخلاق الكريمة والوجه البشوش. وبعد هذا التعريف المختصر للكلمتين ندخل للموضوع: لقد كان خبر وصول الشيخ العالم أحمد الريسوني إلى المغرب مقضّا لمضجع من لا يريدون للمغاربة أن يجتمعوا على عالم من علمائهم، ومفكر من مفكريهم، فانبعث أشقاهم ليسبّ هذا الرجل الفاضل الوقور، ولأنه من أنبل الناس وأحسنهم خلقا وأنقاهم سيرة، لم يجد عصيدنا شيئا غير تلك الكلمات الجاهزة من قبيل آل سعود والبترول والاتهام بالاتجار بالدين والعيش في الأزمنة الغابرة، فعصد لنا من قاموسه الكريه كلمات جاهزة كطقم من الألعاب النارية التي تتكون غالبا من مخروطات ذات ذيل ورقي أوصاروخ صغير يقول فيت وينفجر هناك محدثا ضوضاء مزعجة لكنها ممتعة للأطفال، تدخلهم عالم المغامرة وتحرك في نفوسهم شيئا من الإثارة بينما لا يرى فيها الكبار شيئا يستحق الاهتمام. ومما يحسن ذكره أن العصيدة غير مستحبة في رمضان، فلذلك يترفع عنها المغاربة مهما اشتدت بهم الحاجة ويلجؤون إلى شيء من الحريرة والشباكية الجميلة منظرا واللذيذة مطعما، وهنا أتساءل ألا يفرق عصيد بين رمضان وغيره؟ ألا يكف قلمه الصبياني الحقود حتى في شهر الفضل والعبادة؟ ألا يطهره هذا الشهر الفضيل من شيء من حقده الأعمى؟ ألا يخاف من أن يستعدي عليه رجلا صالحا ظلمه بقلمه فيشكوه بين يدي من لا يرد دعوة مظلوم في شهر استجابة الدعاء؟ ولكن ما ذا بقي منه لدعوة مظلوم أو سطوة ظالم، فقد كفاه ما هو فيه. إنني أتكلم بلسان المغاربة ، أهل الشان والمرشان، وأهل القاع والباع، من اشتهرت صفاتهم الحميدة ومكارم أخلاقهم في مشارق الأرض ومغاربها، نحن نحترم علماءنا وفضلائنا، ونحن لا شيء دون صلحائنا ومفكرينا الذين نحبهم ونجلهم ونتمنى ملأ الأرض منهم، فرجل مثل الشيخ الريسوني الذي استحق أن يجتمع مجمع الفقه الإسلامي بعلمائه المنتشرين في بلدان العالم الإسلامي ويتفقوا على أن يكون الريسوني الشريف نسبا وعلما وخلقا هو قائدهم ورئيسهم في مشروع يعد المصدر الثالث للأمة بعد الكتاب والسنة، ألا وهومشروع الموسوعة الشاملة للقواعد الفقهية التي لا يعلم عنها عصيد شيئا. وهنا أهيب بالمغرب حكومة ومسؤولين أن يقدروا هذا الرجل الذي له مكانة عالية في جميع ربوع العالم الإسلامي، فهو من أعمدة فقه المقاصد في الشرق الغرب، وما ذهب مغربي إلى بلاد من بلدان العالم الإسلامي ولا جلس في مجلس من مجالس المعرفة ومأدبات العلماء إلا وسئل عن الريسوني كما يسأل المصري عن الشيخ القرضاوي وكما يسأل السعودي عن الشيخ ابن باز، فعار على المغاربة أن يبقى فيهم مثل هؤلاء الذين يسبون عظماء المغرب وشرفاءه دون رقيب أو حسيب. المدير العام مركز المغرب العربي للدراسات والتدريب