كتب المفكر المغربي الراحل عبد الكبير الخطيبي(1938-2009) عن الافق الممكن في ميلاد الفكر الهادف والفعال في انتشال المغرب من ويلات التقاليد والطقوس وترسبات الفكر الماضوي الذي عرقل نمو الذهنيات، وعطل مشاريع التجديد والتغيير، وأنتج هذا التمزق في الفكر والوجدان من بنية الاستيلاب الثلاث : الاقتصادي والجنسي والعقائدي، في سعيه نحو تحرير الفرد من عقدة النقص والانحطاط الفكري من خلال تفكيك البنى وترسيخ ثقافة النقد والاختلاف، واعادة الاعتبار للجسد والمنسي والمهمش، وهنا نعثر على جانب اخر من فسيفساء الافكار التي تشكلت من رؤية عبد الكبير الخطيبي للمفاهيم الثابتة والحقائق المطلقة في تاريخنا التي تغلغلت في الذهن. مواقف المفكر المغربي نتاج للنقد والتفكيك للمفاهيم كالهوية والتطابق والواقع والحقيقة، والثابت في الطبع العشائري، والدعوة الى تحرير المجتمع الذي يهيمن عليه اللاهوت والتقنية . ملامح المغرب في صيغة الافق يرسمها الخطيبي في كتاب "النقد المزدوج " وفق ثلاث خطوط: التراثوية أو التقليدانية والسلفية والعقلانية على غرار تصنيفات عبد الله العروي للأيدولوجية العربية والخطاب المهيمن على تاريخ المغرب – الشيخ والليبرالي وداعية التقنية – طموح الخطيبي نقد أسس المعرفة وقدرة المثقف في تحريك الفكر، وتحليل المجتمع لفهم أعراض التخلف الفكري في السلوك الفردي والجمعي، وأعراض الانحطاط الحضاري. فالنقد منهجية ذات عمق استراتيجي، نقد مزدوج للخطاب الغربي في الاستعلاء والاقصاء، عندما يبنى هذا الخطاب على النزعة المركزية الضيقة في قوة الغرب المدجج بالعلم والتقنية والانوار، ونقد الخطاب الذاتي من المرجعية الدينية والاجتماعية الذي ينفي الاختلاف ويعزز منطق الاقصاء والاكتمال ، وعندما يستنطق الخطيبي حالة المغرب أفقا للفكر والتجديد فانه يلقي اللوم على غياب المواكبة والرغبة الملحة في التجديد ، مشاركة المغرب في الثقافة العلمية كما يقول هامشي ومحدود، والسبب غياب دولة منظمة بيروقراطيا أو دولة عقلانية ذات سلطة قوية كالتي تبلورت في الفكر التعاقدي عند توماس هوبس، وفي الفكر العقلاني عند هيجل، أو دولة منظمة وفق رؤية ماكس فيبر للدولة الديمقراطية العقلانية، أو السبب يكمن بالأساس في طبيعة المجتمع القبلي العشائري ، ذو الطابع التقليدي المبني على القبيلة والغنيمة والعقيدة كما في محددات الجابري لبنية العقل السياسي العربي. صورة المغربي حسب الخطيبي في كتاب "المغرب العربي وقضايا الحداثة " يرسم ملامح الشخصية كفرد باعتباره كائن اشكالي وتجزيئي يعاني من انفصام في الشخصية، ومن صورة هشة عن نفسه ، كائن يتنصل من الخطأ بتفويض سحري ويكن احتراما للتراتبية والأوتوقراطية ، ينمحي أمام السلطة ويتآلف معها ، وأصعب شيء يمكن معاقبة الفرد هنا عزله عن المجموعة ، فن الادب والترحاب أمر يحير الاجانب عن السخاء والكرم، والكلمات العذبة في حق الاخر ، ادبيات الضيافة تترك الانطباع لدى الاخر بالكرم وحسن الاستقبال، مواصفات من الدراسات السوسيولوجية المبنية على الملاحظة والمعاينة والانغماس في قلب المجتمع من الداخل، وتحليل للشخصية في طبيعتها ومظاهرها الخارجية والداخلية ، في الرفض والاندفاع نحو الاخر، ثنائيات قابعة ومنغرسة في الآراء والانطباعات العفوية بين الانا والاخر . ليس هذا الاخر منفصلا عن ذواتنا وطبائعنا ، الاخر موجود فينا كاختلاف، والكائن العربي في مشكلته القصوى غرب صعب المعالجة، وما يحمله في ذاته من تناقضات جمة بين الخطاب والممارسة ، بين قيم الفرد الغائبة وقيم الجماعة المهيمنة ، وعندما تنتقل العشائرية للسياسة وتكتسح المشهد الاجتماعي وتنغرس في البنى الفكرية تتحول الى عائق في تحقيق المجتمع الديمقراطي الحداثي، مجتمع الحقوق والواجبات والولاء للدولة والوطن والاحساس بالانتماء على أساس المواطنة الكاملة . في حالة مجتمعنا يجب تجديد قواعد العمل والتوغل في العقلية التقنية للسياسة وبناء عقول تستجيب للعصر التقني في سرعته وديناميته، وقدرة الفاعل في التخطيط وممارسة الفعل السياسي من منطلق الرؤى البعيدة المدى للقضايا المحلية والوطنية والدولية ، المقياس الصائب الكفاءة والفعالية، وليس مقياس الولاء الحزبي والانتماء الجغرافي والقبلي. حدد الفيلسوف اليوناني أرسطو في تطبيق العدالة كإنصاف في المجتمع الأثيني، الاعلاء من قيمة الشخص في المدينة وقدرته على العمل السياسي، وشرط ذلك الكفاءة العقلية والاخلاقية وامتلاك حس العدالة. في واقعنا نتوفر على أحزاب سياسية ومؤسسات ومجتمع مدني، وضعيتنا سليمة بوجود هذه المؤسسات لكن واقع الحال يدل أن مجتمعنا يعاني من ظواهر سلبية تعيق تقدمه بشكل طبيعي كالمحسوبية والفساد بأنواعه، وتقرير المجلس الاعلى للحسابات خير دليل ، مجتمعنا في حاجة للتشخيص والتحليل ، التنوير يبدأ من قاعدة صلبة تستند على التعليم والثقافة والقانون والعدالة الاجتماعية، لا في استيراد نماذج جاهزة من البرامج والمخططات، وليس في غلق الابواب وانتهاج سياسة الاحتراز لأننا في عالم منفتح ، نستورد الديمقراطية وفلسفة حقوق الانسان وهي نتاج صراعات ومخاض في تجارب وحروب الغرب على نوع السلطة والحكم، وقيام فكر تحرري وتنويري. جاءت نتائجها معممة لأنها ظلت نسبية وقابلة للتطوير ومفيدة في دفاعها عن القيم الفردانية والجماعية . لسنا جاهزين لاستيراد نموذج الديمقراطية السويدية لكن لنا القدرة في التدرج ومنح هامش كبير للمجتمع المدني وللفاعل السياسي صاحب الخبرة والكفاءة مع تفعيل حقيقي القوانين، والربط المتين بين المسؤولية والمحاسبة ، أما عن مشكلة الثقافة في زمن التقنية والانتاج فقد أصبحت خاضعة لما هو اقتصادي، لقانون العرض والطلب والاشهار والتسليع والدعاية للأشخاص والكيانات، وفي المغرب حسب الخطيبي هناك ثقافة شفهية غنية، من موسيقى وشعر وغناء ورسم وحكايات، في غنى الثقافة يعمل الخطيبي على نقل تجاربنا للآخر، واحداث الصمة الثقافة بالاحتكاك والاعتراف، ولذلك قال رولان بارث في حقه" إنني والخطيبي نهتم بأشياء واحدة، بالصور، الادلة، الحروف، العلاقات، وفي الوقت نفسه يعلمني الخطيبي جديدا، يخلخل معرفتي لأنه يغير مكان هذه الأشكال كما أراها ، يأخذني بعيدا عن ذاتي، الى أرضه هو، في حين أحس أنني في الطرف الاقصى من نفسي " . يحملك الخطيبي الى عمق البلد في اعادة قراءة للذاكرة الموشومة بحمولاتها الثقافية والدينية ، خصائص كل من الانا والاخر، نوع من التحاور المستمر والغاء لفكرة الاخر العدو والمخيف للوحدة والمنسف للتعايش ، يعيد الخطيبي كتابة الثقافة بمنطقه الخاص، ويحاول أن يبلور فكر مغاير يتغذى على تجارب مشتركة، وبذلك يعتبر المغرب ذات منفتحة وليس مجموعة من الحقائق الثابتة، هوية متنوعة من عناصر متفاعلة ومختلطة، ساهمت في تكوين هذا المجتمع بالمواصفات التي يكشف عنها بالنقد والتعبير، بالصورة السلبية والايجابية، كما يحاول بالكتابة النفاد للعلامات والصور والاشكال، ويعيد صياغة مشاهد معينة من الاقوال والحكايات في قالب مغاير، ويتعقب الخطيبي مسارات الواقع، ويسلك في دروب الحقيقة المعتمة، ويكشف بمنظار التحليل والرؤية الاستشرافية الحاجة لمغرب جدري، غير منبثق من القراءة الاحادية للحقائق، مغرب يقظ قابل للتطور والمواكبة. فالخطيبي ناقد يقيم في داخل الاحداث للإدلاء بشهادته على العصر، النقد الية في التشخيص والتحليل يمنحا أفقا اخرا للفهم والحكم على الاشياء، والزيادة في قدرة المثقف على فهم واقعه، ومن ثمة المساهمة في فرص التغيير للبنى والترسبات العالقة في الذهن وفي التفكير اليومي وعمل المؤسسات . المغرب كأفق للتفكير يعني عالم لازال في طور التشكل والبناء ، وعالم يحتاج للدراسات العلمية الموضوعية ، وبالضبط في مجال العلاقة بين السياسة والدين والمجتمع ، بيت القصيد ومشكلة المغرب الكبرى في العبور نحو تجارب ممكنة في السياسة وحلها في العناصر المهمة من الديمقراطية والتنمية المتوازنة والهوية كمتطلبات للمجتمع المغاربي بصفة عامة ، أبعاد مهمة وضرورية في تحقيق الاجتماع وبلورة مشروع حداثي يواكب العصر، وتحرير تعاقد صريح ينهي الصراعات والتناقضات ويذيب الفوارق الاجتماعية، ويقلل من الاحتقان ويرسم معالم المستقبل البعيد في وحدة متكاملة بين الشعوب المغاربية ، ولعله طموح معقول مع ادراك المثقف للصعوبات والعوائق الصادة في تحول هذا الكيان الجغرافي الى وحدة اقتصادية متكاملة . فالمثقف لا يملك السلطة المادية في إدارة الدول على تجريب أفكاره ووضعها في سياق الممارسة والتطبيق، المثقف يحاول قدر الامكان التغيير بالكلمة ويأمل أن يخترق خطابه الجماهير النائمة بالفكرة القادرة على تحريره من الخوف وعقدة النقص الثقافي والجهل المعرفي عندما يستوعب القواعد الممكنة في النمو والتطور، ولذلك يقدم الخطيبي فكرا مغايرا ويقيس المساحات، مثقف غير قابل للتنميط، يترك انطباعا عن واقعنا المغربي والمغاربي، ويحاول هذا المثقف بالية النقد والتفكيك أن يرسم للقارئ امكانية أخرى للفهم بعيدا عن الفكر الجاهز المحمل بالطابع التقني ، فهناك بالفعل في مجتمعنا المغربي ازمة متشعبة تجلياتها في الفرد والمجتمع، سياسية في الفعل ومرامي الفاعل السياسي، في قدرته على تجديد اليات العمل والخطاب ، ووجود مؤسسات لا يعني بالأساس ديمقراطية حقيقية أو مؤشرات راقية للسلوك السياسي المتوازن في التفاني دون الانخراط السلبي في السياسة لأجل مكاسب مادية وشخصية على قاعدة غير نزيهة ، قاعدة العمل الكفاءة والقدرة في تحويل المستحيل الى ممكن، ومن تجليات الازمة كذلك الصراعات الاجتماعية التي تتخذ احيانا طابعا هوياتيا ويؤدي ذلك لاختلال التوازن بين المناطق الجغرافية في التوجهات الاقتصادية والتنموية، أما في الجانب الثقافي فالدولة مطالبة بتشجيع الثقافة وتنميتها وتقديمها للعالم كمرآة تعكس هوية الشعب المغربي في غنى تراثه الثقافي والحضاري الذي ينهل من ثقافات متنوعة . المغرب أفقا للتفكير يعني التفكير في المغرب ككيان بمقومات حضارية وغنى الطبيعة والموروث الثقافي لإعادة النظر في ملامح المغرب كأفق يتحقق من تجاوز الماضي نحو فهم ارهاصات وأزمات الحاضر، والنظر في المستقبل البعيد ، دور المثقف رسم الممكنات للمرحلة وازالة عوائق التنمية، وتحقيق المجتمع الحداثي بقيمنا الاصيلة، وانفتاح الانا على الاخر والاعتراف بقيم التسامح والتثاقف، يزيل الخوف المستبطن في اللاشعور بين الشرق والغرب، وينقلنا من التطابق والتماثل في الهوية الى الاختلاف والتنوع، ومن هنا نستشف ملامح واضحة من فكر ما بعد الحداثة الذي استلهم منه الخطيبي المضامين والاليات في النقد والتفكيك والتجاوز للترسبات، واعادة النظر في الحقيقة الواحدة والثابت اللامتحول، وخلخلة الفكر اليقيني في تشخيص الخطوط الثلاث المسيطرة على تاريخ المغرب من التقليدانية باعتبارها ميتافيزيقا تختزل في اللاهوت، والسلفية وتحولها الى مذهب، والعقلانية وهي من انتاج الغرب والفكر الحديث، تحولت الى تقنية بفعل العقل الاداتي والوحدة بين العلم والتقنية ، فالسؤال الذي يطرحه الخطيبي كيف يستجيب مجتمعنا لهذه التحولات ؟ التحولات جاءت مفروضة من فوق وليست نابعة من ثقافتنا حتى أصبحت هذه المجتمعات استهلاكية بامتياز للصور والعلامات والرموز، وهذا الامر فرض علينا التبعية المباشرة للغرب وللنظام الرأسمالي حسب المفكر المصري سمير أمين في التطور اللامتكافئ، نتج عن تقسيم العمل بين صناع التقنية وبين عالم ثالث يستهلكها . صدمة الاخر مردها للوضعية المادية والمعنوية التي انتهت اليها الحضارة الغربية ومع ذلك لم تسلم هذه الحضارة من النقد في نزعتها المركزية المغالية في تحطيم صورة الاخر كاختلاف حيث يستدل الخطيبي بفكرة فرانز فانون في قولة انتهت اللعبة الغربية ، لابد من البحث عن شيء اخر ، الاستعمار الغربي واحد، والعداء للآخر النقيض والمتوحش متضمن في الخطاب الغربي الاستعلائي . يبقى الخطيبي كما قال أنه مغربي بإفراط لا بحرمان، صامت ومسافر في الامكنة، حاضر وغائب، قارئ متمرس لما وراء سطور الفكر الجاهز، ومنقب في المنسي واللامفكر فيه، وتحيين أفكاره يحتاج قارئا متمرسا في دروب القراءة والكتابة في فهم أبعاد افكاره للتفكير في المغرب من جديد بعين النقد والتفكيك، وتجاوز ما هو سلبي نحو بناء مغرب جدري يستجيب للعصر الحالي بكل تناقضاته، مغرب التنوع والاختلاف. فلازال فكره يحتفظ ببريقه للمساعدة في بناء مغرب حداثي وديمقراطي، ولا سبيل لذلك الا بالقضاء على كل مظاهر الفساد بالتفكيك والهدم واعادة إرساء منظومة فكرية جديدة .