من بين الشعارات التي رفعها المتظاهرون في تونس منذ أن هبت رياح "ثورة الياسمين"، شعار كان يقول "نحن أيضا نستطيع"، وكان هذا الشعار يحاكي شعار باراك أوباما الشهير الذي كان يقول "التغيير... نعم نستطيع"، وكان لهذه الجملة الصغيرة فعلها السحري الذي أوصل أول أمريكي أسود إلى حكم البيت الأبيض. وقد أثبت الشعب التونسي أنه هو الآخر قادر على صنع التغيير بنفسه من خلال أول ثورة شعبية حقيقية تشهدها المنطقة العربية. ومنذ نجاح الثورة التونسية التي أبهرت الجميع، والتساؤلات تطرح حول امكانية تكرار نفس التجربة في أقطار عربية أخرى، وقد بادر وزير الخارجية المصري إلى الرد بسخرية على هذه المقارنات، على اعتبار أن لكل بلد عربي خصوصيته، وبالتالي فما حصل في تونس لا يمكن أن يتكرر في بلد عربي آخر. لماذا؟ لأن "قانون الخصوصية العربية" يمنع ذلك، كما يقول منجمو حالات استقرار الأنظمة العربية. وفي المغرب نكاد نجد اليوم نفس الصدى لتصريحات أبوالغيط في بعض الأصوات التي صمتت طيلة فترة الإنتفاضة التونسية على جرائم النظام التونسي البائد، وارتفعت اليوم لتتحدث عبر منابر إعلامية محسوبة على جهات مقربة من السلطة، عن "الخصوصية المغربية" المقترى عليها. نفس الشئ كان يقال عن تونس في عهد بن علي، واليوم تكشف "ثورة الياسمين" أن الإستخفاف بقدرة الشعب على التغيير هي التي أسكرت النظام السابق حتى تهاوى مثل قصر من رمل نسفته رياح الثورة التي لم يكن يتوقعها. وهذا ما تؤكده لنا صحيفة لوموند الفرنسية، التي كتبت أن الدكتاتور الهارب، سخر عندما أبلغ بأن مواطنا تونسيا أقدم على إحراق نفسه احتجاجا على ظروف قساوة ظروف عيشه، وعلق بالقول "فليحرق نفسه" ولم يكن ينتظر أن يصل لهيب ذلك الحريق إلى قصره. مثل هذا الكلام سبق أن قاله العامل الملحق اليوم بولاية الرباط محمد ركراكة، للطلبة العاطلين الذين هددوا بإحراق أنفسهم عام 2005، عندما خاطبهم "إذا استطعتم أن تفعلوا فافعلوا، وماذا بعد...". وبالفعل أقدم هؤلاء الشباب اليائسين على صب البنزين على أجسادهم النحيلة وأضرموا فيها النار أمام وزارة الصحة، وماذا حصل؟ لم يحصل أي شئ، لا بل إن ركراكة هذا الذي بلغ سن التقاعد منذ ست سنوات تمت ترقيته مؤخرا إلى درجة عامل. وأتذكر أني ذهبت مساء ذلك اليوم الحزين، إلى مستشفى ابن سينا في الرباط في إطار عملي كصحفي، وحزنت عندما شاهدت الأجساد البشرية المشوية، وحزنت أكثر عندما لم أجد هناك أي مسؤول أو سياسي، فقط عناصر من الأمن كانت تحرس الجناح الذي كان يوجد به أولئك الشباب. والوحيد الذي كان متألما ومتعاطفا مع تلك الحالات هو الدكتور عبد الله العباسي، الذي سهر ذلك اليوم حتى ساعة متأخرة من الليل داخل جناح العمليات يرتق الأنسجة المتفسخة لأجساد محترقة. وقد كتبت يومها في اسبوعية "الجريدة الأخرى"، عن "درجة الصفر في اليأس"، وكنت أتحدث عن اليأس من مجتمع لم تروعه صور أجساد الشباب المحترقة. وسيتكرر نفس الشئ مع محاولات الإنتحار الكثيرة التي أقدم عليها شباب عاطلون، مرة بشرب سوائل قاتلة ورخيصة مثل "سم الفئران"، ومرة برش أنفسهم بالماء الحارق، ومرة بربط أنفسهم بالسلاسل والأقفال على سكة القطار، ومرة بإحراق أنفسهم أمام البرلمان، ومرات عديدة بركوب قوارب الموت ورمي أنفسهم في لجة البحر الغادر... لدرجة اصبحت معها كل هذه الحركات الإحتجاجية مجرد أخبار متفرقة نكاد لا نجد اي أثر لها في صفحات الجرائد السيارة. وحتى عندما أقدم ستة شباب على الإنتحار بعد أن خدلتهم الدولة في عقود العمل المبرمة مع شركة وهمية إسمها "النجاة"، كان الرد الوحيد الرسمي على سلسلة الإنتحارات تلك هي تنصيب عباس الفاسي، بطل تلك الفضيحة وزيرا أولا على رأس حكومة يفترض فيها أنها تمثل جميع المغاربة ! ... ... ... ما حدث اليوم في تونس يسائلنا جميعا على سكوتنا على تضحيات أولئك الشبان الشجعان الذين عبروا بطريقة درامية عن يأسهم من مجتمعهم، فقد كان يمكن أن يلجؤا، وهم اليائسين من الحياة، إلى التعبير عن يأسهم وغضبهم بأساليب أخرى يكون فيها أدى لمجتمعهم لكنهم فضلوا أن تحترق أجسادهم الضئيلة على أن ينغصوا علينا رتابة حياتنا. فمن يسال اليوم عن مصير هؤلاء الشباب الذين كتب لهم أن يعيشوا بعاهات مستديمة؟ ومن يسأل عن أسر ضحايا فضيحة النجاة الذين تسائلنا اليوم ذكراهم، لأننا لم نستوعب الرسالة؟ أقول هذا الكلام، لأن بطل وشهيد ثورة تونس، هو مجرد شاب عاطل إسمه محمد البوعزيزي كان في نفس عمر الشباب المغاربة العاطلين الذين سبقوه في إدرام النار في أجسادهم. وكان عمله يمكن أن يتحول إلى مجرد حدث عابر لكن مشيئة التاريخ وإرادة الشعب التونسي، أرادت أن يكون هذا الشاب بمثابة الشعلة التي الهبت نار الثورة. فما سقط اليوم في تونس، ليس هو نظام بن علي فحسب، وإنما الأهم من ذلك هو انهيار النموذج، نموذج النظام القمعي البوليسي الفاسد الذي كان يحكم بالخوف والترهيب، ومعه تم تكسير حاجز الخوف في المنطقة العربية برمتها، والمغرب لايمكن أن يشكل الإستثناء داخل هذه المنطقة. بل إن المغرب هو أقرب بلد مرشح لتكرار تجربة تونس إذا لم يتم استيعاب الدرس التونسي. ففي المغرب يوجد فساد أكثر من ذلك الذي كان يوجد في تونس، فإذا كان الفساد في تونس في عهد بن علي محصورا داخل أسرته وأصهاره، فإن الفساد في المغرب يعم جميع المؤسسات والإدرات في المدن والقرى. وفي المغرب يوجد أكثر من نموذج لأسرة ليلى الطرابلسي، وأكثر من نموذج لصخر الماطري، وأكاد أقول أكثر من بن علي صغير في كل ولاية وفي كل عمالة وفي كل مؤسسة وفي كل مجلس بلدي جماعة قروية... أما نسب الفقر في المغرب فهي أكثر بكثير من تلك الموجود في تونس وهذا حسب تقارير مؤشر التمنية العالمية التابع للأمم المتحدة. والخدمات الإجتماعية والصحية والتعليمية التي كان يوفرها نظام زين العابدين بن علي لمواطنيه كانت تعتبر الأفضل في المنطقة بشهادة هيئات دولية مختصة. وحتى هامش الحرية الذي عرفه المغرب نهاية التسعينات أصبح يضيق حتى أصبحنا نقترب من "النموذج" التونسي، في محاصرة الإعلام ومضايقة الحريات، وتدجين السياسة حتى أفقد نا الناس الثقة فيها. يكفي أن نراجع كيف قدم لنا الإعلام العمومي الرسمي "ثورة الياسمين" عندما وصف هروب بن علي بأنه مجرد "تنحي" عن السلطة، ويكفي نقرأ افتتاحيات وتغطيات بعض الصحف شبه الرسمية التي قدمت ثورة شعب تونس على أنها مجرد مؤامرة صهيونية ومخطط انقلابي عسكري وحبكة مخابراتية يقف وراءها جهاز المخابرات الأمريكية "السي آي إيه" لزعزعة استقرار المنطقة، لنعرف أن النموذج التونسي في الإعلام استوطن عندنا. وقد لا يتطلب الأمر بدل مجهود كبير لعقد مقارنة مع حزب بن علي، الذي كان يتماهى مع الدولة وأجهزتها، وحزب "الأصالة والمعاصر" الذي يتحول تدريجيا إلى حزب "الدولة"، أو "حزب الملك" كما تصفه بذلك وسائل الإعلام. ... ... ... انظروا إلى الناس الذين يتظاهرون في شوارع المدن التونسية، فأغلبهم من الطبقة الوسطى، أشخاص بملابس أنيقة، يعرفون كيف يخاطبون كاميرات القنوات الأجنبية، أشخاص لايبدو على مظهرهم أن ظروفهم الإجتماعية هي التي دفعتهم إلى الثورة على نظامهم. فمن يريد ان يلخص الثورة التونسية في كونها ثورة اجتماعية ففي ذلك تبخيس لها ولقيمها التي ستنتشر قريبا لتعم المنطقة. فما اخرج الناس إلى الشوارع في مدن وقرى تونس ليس هو الخبز وحده وإنما هي الحرية والكرامة والسيادة، سيادة الشعب عندما يقرر مصيره بنفسه. نقاط التشابه اليوم كثيرة ما بين الوضع في المغرب والوضع الذي كان قائما في تونس وحفز على الثورة، وأبرز صور التلاقي تكمن في أن الأشخاص الذين أشعلوا "ثورة الياسمين" كلهم من الشباب المتعلم والواعي والمسيس وفي نفس الوقت غير المؤطر. وقد ساهمت في ذلك سياسية بن علي البوليسية، التي عملت على تمييع العمل السياسي ونفرت الناس من أشباه الأحزاب السياسية التي كان يؤثت بها ديكور حكمه، وخلقت فراغا سياسيا في الشارع لا احد كان يعلم بما يمور بداخله حتى انفجر مثل تسونامي عارم أتي على الأخضر واليابس. ويجب أن لا ننسى أن الثورة التونسية خرجت من الهوامش قبل أن تنتقل إلى المركز، وقادها الشعب الذي حرر النخب، في أول سابقة من نوعها في تاريخ الثورات في العالم. نعم، نحن أيضا نستطيع أن ننجز ثورة هادئة لو عرفنا كيف نستفيذ من الدرس التونسي قبل أن تهب العواصف التي لا نعرف من أي قمقم ستخرج. يكفي فقط وجود إرادة التغيير عند السلطة، وإذا ما تأخرت فإن الطبيعة لاتحب الفراغ، وإرادة الشعوب مهما استكانت فإنها لاتموت...