ترددت مرارا قبل ان اقرر استئناف المناقشة من جديد في هذا الموضوع ، ويرجع ترددي الى طبيعة هذا النقاش أصلا حول وحدة اليسار المغربي ، التي تجري من خارجه ، أي اننا خارج تنظيمات الأحزاب اليسارية القائمة مما يجعل هذا النقاش وكأنه نصيحة نسديها لمن يمارس السياسة داخل إطارات تنظيمية . فانتابني شعور باننا نمارس وظيفة اقرب الى وظيفة اشباه المثقفين المشتغلين بالافكار والكلمات . ولكنني استسلمت في الاخير للقيام بهذه الوظيفة رغم انها اكبر مني . ومن جهة أخرى بدا لي تأثر الحبيب طالب بما كتبت في تعليقي بلغ حد الاسى والالم والقلق لما تضمنه من تسطيح وعدم الفهم النقدي وصل الى حد اتهامي بعدم الأمانة الفكرية ، الامر الذي يستوجب حتما محاولة تفنيد هذه الاحكام غير الموضوعية في نظري ، ففيما تجلى عدم الفهم والتسطيح ؟ رغم ان هذا التقييم تفوح منه رائحة الاستعلاء غير المبرر . فما هي متجليات هذه الاحكام التي اطلقها الحبيب ؟ تجلت أولا في عدم ادراكي لمضامين مقالته التي " تدعو الى التفاعل الإيجابي بمعنى الخروج من الانتظارية القاتلة للدخول في مناقشات لجميع التصورات والبرامج والاشتراطات الممكنة لدى اليسار والغاضبين ..الخ " أولا ما معنى انتظارية اليسار القاتلة ؟ كنا في مرحلة سابقة ننعت ممارسة الأحزاب اليسارية السياسية تجاه الحكم بالانتظارية بدون وصف القاتلة في شروط القمع السياسي والمضايقات التنظيمية ، اما الان فالأحزاب اليسارية تتخذ المواقف التي تراها مناسبة لها ، بالمشاركة في الحكومة او عدم المشاركة . ولا يبقى لمعنى الانتظارية والقاتلة الا ما يطرحه الطالبي من دعوة الى وحدة اليسار الشاملة والمثالية حقا ، في شروط اليسار الراهنة . ولكن لا احد من أحزاب اليسار ، للأسف الشديد ، تفاعل مع هذا الشعار ، فالاتحاد الاشتراكي الذى طرح شعار المصالحة ، وتبناه الطالبي بعد ذلك ليؤكد من جديد دفاعه الدائم عن الوحدة الشاملة ، كان الهدف من ورائه هو عودة الغاضبين الى صفوف الحزب ، وحتى هذا الشعار مني بالفشل ، رغم انه سيكون تحقيقه إيجابيا بالنسبة للحزب ولليسار نسبيا . وتبقى عبارة الخروج من الانتظارية القاتلة مجرد عبارة جوفاء واقرب الى التسطيح المعاكس وعدم الفهم الموضوعي لممكنات الواقع في تطوره العيني . فاين يتجلى مرة اخرة التسطيح وعدم الفهم لرأي الحبيب طالب ، وهو لا يفعل سوى اصدار فتوى سياسية لأحزاب اليسار والغاضبين عليها [ ولا ادري هل الغاضبون قوة فاعلة ؟ ] في غياب الشروط الموضوعية لتحقيق الوحدة الشاملة والمثالية التي يناضل الحبيب ، بكل ما اذخره من قوة نظرية وباستماتة من احل تحقيقها ، ومن خارج التنظيمات اليسارية . ثانيا كيف يمكننا ان نفهم ان الحبيب طالب يتحدث عن الدخول في مناقشات " لجميع التصورات والبرامج والاشتراطات الممكنة …الخ " وهذا يعني انه نزل الى ارض الواقع بدل ان يظل محلقا في سماء التجريد المثالي المفصول عن أحزاب البرامج والاشتراطات وبرنامج الحد الأدنى ..لانه يشدد فقط على الوحدة الشاملة والمثالية أيضا ويكتفي برد الشتائم بأخرى مثل التفرج على الازمة ، ولكن من يتفرج على الا زمة اليس الذين هم خارج أي تنظيم ويتفننون في اسداء النصح بدون حساب للاخرين الغارقين في مشاكل التنظيم السياسي؟ وقذفهم بالرضى الذاتي النرجسي .. ولكننا لا ندري من هم هؤلاء؟ . لان الطالبي لم يخبرنا بمن تصدق عليهم هذه الاحكام . ولكنه يخبرنا بان دفاعة عن الوحدة الشاملة ليس جديدا ، ويعدد لنا المناسبات التي كتب فيها عن الموضوع . غير ان ذلك لا يعتبر حجة دامغة على صحة الموقف في حد ذاته في مواجهة رأي آخر معارض . لنناقش الان رأي الحبيب طالب كما لخصه في الفقرة التالية : " لا ادافع عن الوحدة الشاملة [ كما لا اهجو الانشقاقات ] بشكل مجرد ، بل اضعها في كل مرة في زمنها السياسي العياني ، لاقرأ من خلاله إمكاناتها ،وضروراتها الموضوعية، وعوائقا الذاتوية المفتعلة ،أي، بنقد الأفكار التبريرية التي تسوغ استمرار هذه التعددية المزيفة الفائضة عن الحاجات التاريخية الفعلية . " اتمنى ان تسعفني قدراتي المتواضعة على الفهم ، لتفكيك هذه العبارات ، فالطالبي يدافع عن الوحدة الشاملة بشكل مجرد ، ولا يهجو الانشقاقات التي يضعها بين قوسين لحاجة في نفس يعقوب ، وغالبا بشكل مجرد أيضا . ويضع الوحدة الشاملة وربيبتها الانشقاقات في كل مرة في زمنها السياسي العياني ، وهنا يتعذر على المرء التمييز بين : هل المقصود الوحدة الشاملة الكائنة بذاتها ولذاتها ، ام اشكال الوحدة التي تحققت في التجربة السياسية الحزبية ، والا ما معنى عبارة " وفي كل مرة " و " في زمنها " هل المقصود مرة أخرى المناسبات التي تحدث فيها الطالبي عن الوحدة الشاملة التي لم تتحقق بعد ، وما زالت مجرد حلم جميل يراود الحبيب كلما فكر في وضعية اليسار . واذا كان الامر كذلك فما فائدة ذكر هذه المناسبات . صحيح ان الجمل التالية تتحدث عن إمكانات تحقيق الوحدة الشاملة ولكن دون توضيح هذه الإمكانات بشكل ملموس ، اما ضرورتها الموضوعية فتبدو وكأنها مجرد عبارة جوفاء ، لانها لا تستند الى أي معطيات او عناصر في الواقع الموضوعي المستقل عن إرادة الحبيب طالب والتي تفكر بحرية خارج أي ضغط تنظيمي في الساحة السياسية . ولذلك اصبح من السهل الحديث عن العوائق الذاتوية المفتعلة وهذا الوصف بصيغة " وية " بدل الذاتية [ ربما تشير الى الذاتية المريضة او المرتدة على ذاتها او المصطنعة ] يصدق على تحليل الطالبي في دفاعه عن وحدة اليسار الشاملة والمثالية ، اكثر ما يصدق على من يجد صعوبة موضوعية في تحقيق هذا الهدف . انه مجرد هوى يساري على هامش الأحزاب اليسارية ، التي لم تتمكن من تحقيق تحالف سياسي لاختلاف خطها السياسي ، وهو ضرورة موضوعية تحققت في الماضي ، وتحقيقها في المستقبل اقرب الى الواقع من وحدة اليسار الشاملة والمثالية . ويطرح السؤال التالي : هل وجود هذه الكيانات [ الأحزاب ] المتمسكة بوجودها الى حد الجنون ، رغم ضعفها ، هو مجرد عوائق مفتعلة ومصطنعة كما يقول الحبيب؟ وينبغي نقد هذه الأفكار التبريرية المصطنعة والمفتعلة التي تسوغ استمرار هذه التعددية المزيفة . فالاتحاد الاشتراكي يدافع عن الوحدة او المصالحة ويعني بها الانضمام للحزب ، وخصوصا بعد ان تقهقرت وضعية الحزب في عهد لشكر الذي يقود الحزب في ظل حقبة جديد وانتهاء قيادة وقاعدة الحركة الوطنية ضد الاستعمار باعتزال اليوسفي العمل السياسي ووفاة الحسن الثاني . وفي حقبة لشكر يعاني الحزب من ارتباك سياسي وتنظيمي . يعتبر الحبيب طالب ما اسميه واقعية ، أي تصوير ما يقوله الحزب عن نفسه هو مجرد أسلوب تصويري وستاتيكي ويدرج الموقف من حزب التقدم والاشتراكية ضمن هذا المفهوم . [ كقولك حزب التقدم جهاز مغلق على نفسه وكفى الله المؤمنين شر القتال ] هل ما فلته عن الحزب يقوله عن نفسه ؟، هل ينتقد الحزب موقفه من المعتقلين الماركسيين الذي انتقده الاتحاد الاشتراكي ؟ ، واستمر الحزب يغرد خارج سرب اليسار المغربي في الموقف من ثورة الخميني في ايران ضدا على أحزاب اليسار وكذلك الموقف من هجوم أمريكا على العراق . ثم التصويت منفردا على دستور 1992 وتجميد عضويته داخل الكتلة الديمقراطية .. اليست هذه بنية سياسية مغلقة ولا يذكر الحزب هذه المواقف عن نفسه ؟ يحتج طالب على تقييمي لنتيجة اندماج الحزب الاشتراكي الديمقراطي في الاتحاد الاشتراكي . ويذكرني بالورقة التوجيهية التي اجازت الاندماج ، ونسي ، مع الأسف الشديد ، ان الخلاف في هذه النازلة ليس حول الاتفاق على الاندماج ، بل على نتيجة الاندماج الذي لم يحقق أي تقم ولو نسبي ، حيث تلاشى معظم أعضاء الحزب الاشتراكي الديمقراطي خارج الاتحاد . واكثر من ذلك وبعيدا عن النوستالجيا الحزبية فقد كانت وضعية الحزب قبل الاندماج كانت تسير ببطء نحو الانهيار . فبعد الضجة التي ثارت في نهاية المؤتمر الثاني . من بين الافكار التي طرحت للتهدئة إعادة بناء الحزب مؤسساتيا وكمبادر متواضعة تم انشاء إدارة للمقر المركزي ، ولكن رفيقين قياديين من الموالين للطالبي طلبا من المشتغلين في المقر ان ينضبطا لأوامرهما ولا احد غيرهما ، بعد ذلك قدمت استقالتي من الحزب . هذا دون الحديث عن المعركة العلنية والخفية حول الوزارة بين جملة من أعضاء المكتب السياسي . ويحتج الحبيب أيضا على انني " ازج في هذه المعادلة غير الموضوعية بتاتا بمثالين آخرين وضعتها في خانة واحدة مع اندماج الحزب الاشتراكي والعمالي .." وهنا أيضا يسقط الحبيب في نفس المغالطة ، فلم يكن الحديث عن الفرق بين هذه الأحزاب فبل الاندماج بل عن عدم تأثيرها نسبيا في وضعية الاتحاد بعد الاندماج . اما فيدرالية اليسار فالتوافق في خطها السياسي عموما قد مكنها من الحفاظ على تحالفها ومشاركتها في الانتخابات بمرشح مشترك وهي تناقش إمكانية الوحدة الاندماجية ، فهل تنجح في ذلك ؟ وأخيرا وليس آخرا كما يقال فالمهمة التي تسحق النقاش هي ملابسات الخط السياسي لاحزاب اليسار سواء من المشاركة في الحكومة اوفي التحالف مع الأحزاب الأخرى او في العلاقة مع النقابات…الخ . وقبل الختام لابد ان اسأل الرفيق الحبيب طالب المفتون بالتفكير النقدي عن مشاركته وبحماس في الانشقاق الأخير عن الاتحاد الاشتراك دون ان يقدم نقدا ذاتيا ليستقيم الدفاع عن الوحدة الشاملة : بدل الاكتفاء بعدم هجاء الانشقاقات .