كم كنت أتمنى أن تُناَقِش، أنت وبقية الرفاق، ما كتبُه بعمق وتفاصيل وأمانة فكرية. لكن للأسف ! ولا أخفيك، أن شعورا غامضاً انتابني، لما فيه من القلق والأسى والألم، وأنا أقرأ تعليقك السريع على ما كتبتهُ في شأن المصالحة والوحدة. ولأنني فوجئت ألا أكون مفهوما من قِبل منْ تقاسمت معه العمر السياسي جميعه. فكان ردك، أو تعليقك، إبتساربا وسطحيا لما كتبتُه. ولأن التوضيح سيحتاج إلى أوراق عديدة، فسأكتفي بالتلميحات التالية: أولا، دفاعي عن الوحدة الشاملة لليسار، المثالية في نظر البعض، ليس جديدا، بل يعود لسنوات مضت. فلقد كتبت في هذا الشأن ردا على الرفيق أحمد حرزني قبل تسلمه لمسؤولياته الرسمية، و رداً آخر على الرفيق الساسي، ومداخلة في التحضير لمؤتمر الحزب الاشتراكي الموحد، أعيد نشرها في مجلة المشروع، ومداخلة لم أنشرها بعد في ندوة نظمتها فيدرالية اليسار، ومقالة في مجلة النهضة "في الشرط الموضوعي لأزمة اليسار" عدا بيان المجلة حول وحدة اليسار الذي كنت من موقعيه… فدفاعي عن الوحدة الشاملة، وأكرر المثالية، قديم قبل ما سمي بنداء المصالحة. ثانيا، لا أدافع عن الوحدة الشاملة (كما لا أهجو الانشقاقات) بشكل مجرد، بل أضعها في كل مرة في زمنها السياسي العياني، لأقرأ من خلاله إمكاناتها، وضروراتها الموضوعية، وعوائقها الذاتوية المفتعلة، أي، بنقد الأفكار التبريرية التي تسوغ استمرار هذه التعددية المزيفة الفائضة عن الحاجات التاريخية الفعلية. ثالثا، الابتسار والتسطيح لموقفي تجلى لي بوضوح فيما أوردته من مقالتي "المصالحة لتجاوز الانتظارية القاتلة". إذ لو تمعنت جيداً في مضامين المقالة، لأدركت أن ما تدعو إليه هو "التفاعل الإيجابي"، بمعنى الخروج من الانتظارية القاتلة للدخول في مناقشات لجميع التصورات والبرامج والاشتراطات الممكنة لدى اليسار والغاضبين، بدل الشتائم والتفرج على تفاقم الأزمة والرضى الذاتي النرجيسي، والإضراب عن التفكير النقدي السائد إلى اليوم، ولقد حددت في آخر المقالة بعض القضايا الاستراتيجية التي ينبغي إعمال الفكر الجماعي فيها، علنا (وعلنا هذه لها معنى في الإعراب) نتوصل إلى أرضية توحيدية مشتركة. فالمصالحة عندي ليست تبويسا للحى، كما يقال. بل هي إعمال لسلاح النقد الفكري بدل هذه الانتظارية القاتلة للذي يأتي ولن يأتي إلا بالتفاعل الإيجابي. رابعا، ومن المؤسف أن تخلط بين الحضور في المهرجان إحياءً للذكرى الستينية للاتحاد وبين مشروع توحيد اليسار والتصور الذي طرحته عنه. فالمهرجان إحياء لذكرى عزيزة على قلوبنا والساكنة في ذاكرتنا على ما أظن. والدعوة إليه كانت مفتوحة للجميع. وليس كل من حضر ملتزما في الاتحاد. ومن جهتي خاصة، كان حضوري التزاما أخلاقيا ووفاءً لكل شهداء الحركة الاتحادية، ولكل تلك التضحيات الكبرى التي قدمتها، كيفما كانت أرائي في واقع الحزب اليوم. ولم أكن أحتاج لأي "احتفاء بي" لأنني لم أبحث يوما عن أي احتفاء ! كما لا أضع نفسي في مقام عبد الرحمان اليوسفي ولا في مقام اليازغي، ولا كل من غاب، فالله يرحم من يعرف قدر نفسه ! خامسا، مدهش حقا المقارنة بين التأثيرات السلبية العميقة للانشقاقات الكبرى في تاريخ الحركة التقدمية في زمن الرصاص (وأشدد على هذا الزمن) كالانشقاق بين الجناح النقابي والجناح السياسي في الاتحاد، وبين الاتحاد والحركة الماركسية، وبين دحضك لانعكاساتها العميقة على مجرى الحركة التقدمية بمقارنة لا تليق في الاتجاه العكسي، بأن الوحدة أيضا لم تحقق التقدم المنشود، ومثالك، اندماج الحزب الاشتراكي الديمقراطي في الاتحاد. وهنا إدغام آخر: من جهة، بين التقييم الصائب لخطوة الاندماج، وهي في رأيي خطوة في الاتجاه الصحيح (ولك أن تعيد النظر في الورقة التوحيدية التحليلية "لماذا الاتحاد الالشتراكي؟" الصادرة بشبه إجماع عن المؤتمر الاستثنائي الإدماجي)، وبين من جهة ثانية، عدم قدرتنا على إخراج الاتحاد من أزمته، وهي أزمة لها شروطها البعيدة الموضوعية والذاتية. ويقينا أنها كانت أكبر وأعوص من دور افتراضي كان بالإمكان أن نقوم به في أفضل حال. والأنكى من ذلك، أن تزج في هذه المعادلة غير الموضوعية بتاتا بمثالين آخرين وضعتهما في خانة واحدة مع اندماج الحزب الاشتراكي، وأقصد حزب العمال (؟!!) وحزب المناضل المحترم الدكتور عبد المجيد بوزوبع فهل تعرف لهذين الحزبين خلافات نظرية أو استراتيجية وتجربة انشقاقية نضالية مديدة؟! أم أنها كانت مجرد ردود فعل على قضايا آنية سرعان ما انطفأت؟! فكما أن الانشقاقات الكبرى هي مجرد مظهر لأزمة أوسع ، حزبية ومجتمعية، وهي المظهر الرئيس، فكذلك الوحدة ليست هي البلسم السحري لكل هذه الأزمة في شموليتها، وخاصة إذا كانت وحدة شكلية، وعلى سبيل المثال لا الحصر، وحدة 67 بين جناحي الاتحاد الوطني، والتي أدت إلى الركود بدلا من أن تؤدي إلى التقدم ولو النسبي؟! أختم بالخلاصة التالية، أعتقد أنك لا زلت تعطي قدرا من الإيجابية للتجربة اللينينية. ولهذا أذكرك، في 1903 دافع لينين عن الوحدة العاجلة بين مجموعات وتيارات الحركة الاشتراكية الديمقراطية. وفي المؤتمر التأسيسي، وقعت انسحابات وبقي الحزب تيارين كبيرين، البلاشفة والمناشفة. فهل نقول، أن موقف لينين المبدئي كان مثاليا خاطئا، لأن الواقع لم يؤكده، أو أن العكس هو الصحيح. بذلك الموقف المثالي تقدمت الحركة وتبلورت اتجاهاتها بغير ما كانت عليه من تفتت وتعددية فائضة. ولا نذهب بعيدا، توحيد الحلقات في تجربة 23 مارس، تبعه بعد فترة وجيزة، انشقاق للمتكتلين، لكن واقع المنظمة، بفضل الخطوة التوحيدية، غدا يختلف جذريا عما كانت عليه حلقتنا الأولى وعلى جميع المستويات. تصورك لوحدة اليسار اللصيق بما يقره كل طرف عن نفسه، وهذا ما تحسبه "واقعية"، موقف تصويري استاتيكي (كقولك حزب التقدم جهاز مغلق على نفسه، وكفى الله المومنين شر القتال!) يضرب عن الفكر النقدي، ولا يغير من الواقع قيد أنملة، إلا بالقدر الذي يُريده كل طرف لنفسه، وموقفي المثالي في نظرك، قد لا يتحقق اليوم أو غدا، لكنه موقف نقدي جذري يسعى إلى تحريك المياه الراكدة، بإدخاله الشك في "يقينيات" اليسار المطمئنة لذواتها وهي في قمة بؤسها !! ولك مني كل المحبة والتقدير الدائم