قال لي أحد الرفاق، بعد اطلاعه على مقالتي السالفة (المصالحة لتجاوز الانتظارية القاتلة)، إنك تدافع على فكرة وحدوية مثالية، ليس لها من حظوظ النجاح، وفي أفضل الأحوال، سوى الواحد في المئة ! وعندما سمعت هذا الرقم السحري، تذكرت فورا واقعة سابقة لي، وكانت شبيهة بما قاله رفيقي.. في وقتها، أي في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، كنت من أشد المدافعين عن «برنامج الإنقاذ الوطني» الذي تبنته بعض القوى التقدمية في تزامن واحد، وبتلويناتها له. وبرنامج الإنقاذ هذا، كان يقوم على فرضية إمكان التوافق عليه من قبل الحكم والمعارضة، بينما كانت أغلب العناصر التحليلية البنيوية، السياسية والاجتماعية، لا ترجح هذه الفرضية، إلا أن هذا لم يمنع هذه القوى التقدمية التي أدمجته في رؤيتها العامة، من أن تستمر في طرحه وتعظيم إمكان تحققه. وجرت الأمور بما جرت عليه، إلى أن جاء خطاب «السكتة القلبية»، فتسارعت الأحداث، وتضاعفت الحظوظ، وحصل التوافق بالقدر الذي سمحت به المرحلة، وكان ما يعرفه الجميع. وفي هذه الواقعة، كنت أقول لرفاقي في منظمة العمل، (وأنت شاهد على ذلك)، إن كان برنامج الإنقاذ، الذي طرحته المنظمة أيضا، لا يساوي في شرطه الموضوعي إلا واحدا في المئة، فينبغي علينا، أن نناضل من أجله، لأنه المخرج الوحيد من الأزمة المجتمعية الكلية المعاقة الآفاق. في السياسة الثورية تحديدا، ثمة دائما جانب من «المغامرة»، كما لها دائما جانبها «المثالي». لكنها في الحالتين، مغامرة ومثالية تنجز احتمال الطفرة الضرورية من أجل التقدم، وأقله أنها تساعدنا على استعادة التحكم في تناقضات الواقع، بدل تركها تفعل مفاعيلها فينا نحو المجهول. لذلك قلت لرفيقي، أولا، لا أوافقك على النسبة التي قدرتها لفكرة الوحدة، لأننا لو قمنا باستطلاع لرأي المواطنين، لا المتحزبين وحسب، لكانت النسبة ب مئات الآلاف وأكثر، لأن المواطنين لا ينظرون إلى تعددية اليسار وخلافاته بنفس الأهمية لديه، وإنما بما يطمئنهم على المستقبل. ورأي المواطنين عندي حيثية صلبة على صوابية الفكرة. وثانيا، يبدو لي أنك تحتقر هذا الواحد في المئة، حتى وإن وافقتك عليه، وأنت تعرف جيدا، أن لا شيء يأتي إلى الوجود، ولو امتلك 99% من شروط وجوده، إلا إذا استكمل ذاك الواحد في المئة. فهذا الواحد في المئة الذي تحتقره يكون له في ظروف معينة قيمة وجودية مطلقة. وفي ظروف أخرى، إن لم تتوفر نسب معقولة من الشروط المسبقة، فالواحد في المئة لا يفقد قيمته الحاسمة، لأنه يكون في هذه الحال المدخل الوحيد للانتظام وتراكم الشروط الضرورية. وهذا هو حال اليسار اليوم. ودليلي على ذلك أن استمرار الوضع الحالي الانتظاري المفتت لليسار لا يجعله قادرا على أن يكون القوة الشعبية التاريخية كما كان. وقد يأخذه خطه الانحداري إلى ما دون الصفر، وهي الكارثة بعينها ! ورغم اختلاف الموضوع الاجتماعي – السياسي عن موضوع النسبية في العلوم الرياضية الحديثة، والتي أفضل أن أسميها ب «النسبية الفائقة»، لأن النسبية كانت دائما من أساسيات المنطق العقلاني الإنساني، وحتى قبله من المدركات الأولى للحواس، فإن الذهنية المعاصرة ينبغي أن تكون من هذا المناخ الرياضي الحديث «الفائق النسبية». والإشكالية في جميع الأحوال هي أعقد من هذا الترميز الرياضي، والذي يفيدنا في شيء واحد، أنه يكثف برمز رقمي مضامين فكرية وسياسية وتنظيمية حية، ينبغي وعيها ومعالجتها لكي يصير إمكان الوحدة قائما. ومن هذه الزاوية، إليك تصوري في المستويين الذين كانا مدار تناقضات اليسار وما آل إليه : المستوى الأول كان أيديولوجيا. وعلى أساسه تشكل الحزب الشيوعي أولا والحركة الماركسية – اللينينية (أو اليسار الجديد) ثانيا. وبصرف النظر عن الكيفية التي تطور بها هذا العامل على المستوى الوطني والدولي عامة، فإن السؤال الحي اليوم: هل مازال لهذا العامل نفس «القوة الانقسامية» التي كانت له من قبل؟ يقينا أنه في الواقع الحزبي الحالي لم يعد كذلك. ومع أني ما زلت مقتنعا من بين أقلية، بأن اليسار يحتاج إلى إعادة بناء على المستوى الأيديولوجي وفق التصور الماركسي التاريخاني، كأدلوجة مازالت تناسب واقعنا المجتمعي المتأخر والمفوت ثقافيا، ومع إدخال كل التغييرات المستجدة في عالمنا المعاصر، إلا أن هذا التصور يظل فرديا أو للأقلية، بينما أغلب يسار اليوم يسبح بعيدا عن الحاجة للأيديولوجيا، إن لم ينفها ويستخف بها، كما يفهم هو لغة العصر، وعلى الضد مما كانت عليه الأهمية المركزية للأيديولوجيا في السابق. تحضرني هنا واقعة ذات دلالة كبيرة في موضوع الوحدة: في المنتصف الثاني من ستينات القرن الماضي، بعثت قيادة الحزب الشيوعي برسالة إلى قيادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وقتها، تطرح فيها إمكانية اندماج الحزب في الاتحاد الوطني وفق شرط وحيد يقضي بتبني «الاشتراكية العلمية». ولم يكن هذا الشرط في الواقع الفعلي إلا شرطا شرفيا. لكن قيادة الاتحاد، ولحسابات سياسية أخرى، لم تستجب لهذه الدعوة، ولم تكن «الاشتراكية العلمية» هي السبب الفاصل، لأن الاتحاد في هذه المرحلة كان في مناخها الأيديولوجي، وعلى دربها يسير، وفي وقت اشتد فيه الطلب على «الوضوح الأيديولوجي» في تشكل التيارات الحزبية والصراعات الاجتماعية والثقافية عامة. ما يهمني من التذكير بهذه الواقعة ،السؤال التالي: فلماذا إذن يكون الاندماج في حزب موحد غير ممكن وغير مستساغ في الألفية الثانية، بعدما فقدت الأيديولوجا، في واقع الحال، نفس «القوة الانقسامية» التي كانت لها فيما مضى لدى التشكيلات اليسارية بمجملها؟ ! أعيد القول، أني لست من أنصار «موت الأيديولوجيا»، ولا من أنصار جميع أصناف النعي التي تلهج بها الأيديولوجية السائدة في عصر العولمة، من «موت الله» إلى «موت الإنسان» إلى «موت المثقف العضوي وصراعه الطبقي» إلى «موت الكاتب» و «موت التاريخ» بإعلان نهايته…إلى جنائز عديدة لم تبق على واحد حي على هذه الأرض ! ما يجعلني أتساءل: ومن بقي يقوم بأعباء الحياة والمستقبل؟!إنها بلا شك «اليد الخفية» للرأسمالية، لأنها الوحيدة التي لم يطلها نعي هذه الأيديولوجيا القاتلة لكل شيء ثمين، سوى الرأسمال المالي الخفي «ملاك الموت» القابض على أرواح الجميع !! وبالعودة إلى صلب موضوعنا، سيحتاج اليسار، وعلى المدى الطويل، إلى إعادة بناء جماعية للأيديولوجيته الاشتراكية، المستوعبة تاريخيا وثقافيا للحداثة، لا الغارقة في الحداثة الرائجة اليوم، الغامضة المعنى والضائعة بين «حداثيات» لكل منها مسوغاتها «العقلانية» (؟ !) ومع أن موضوع الحداثة، البديل الأيديولوجي القائم اليوم، يحتاج إلى مقالة مستقلة، لفك غموضه والتباساته (هل للحداثة نظرية، وهل هي منهج لتحليل الأزمات البنيوية، وهل لها قوانين؟)، فسأذهب مباشرة إلى خلاصتي في أن، ليس للحداثة جواب محدد عن قضايا فاصلة وحاكمة في الممارسة، فهي لا تجيب على سبيل المثال عن الاختيارات الاقتصادية التي ينبغي اتخاذها تجاه العولمة، بين سياسة ليبرالية تدعي الحداثة وهي تبعية في النهاية، وبين خيار يدعم الاستقلال الوطني، ويبدو من هذه الوجهة محافظا ! ولا جواب لها محدد عن الخيارات اللغوية في التدريس كالتي عشنا فصلا منها مؤخرا، بين خيار يدعم اللغة العربية، ويُنعت بالمحافظ والتقليدي، وبين خيار يدعم اللغة الفرنسية وباسم التحديث والانفتاح على العالم المعاصر ! في الممارسة إذن، لا تعوضني الحداثة عن الماديانية التاريخية الجدلية (لا السكولائية ولا الستالينية وأشباهها) في تحليل تناقضات مجتمعنا والعالم، لأنها هي التي ترشدني في النهاية إلى المصالح الاجتماعية وقواها والتي يقوم عليها وبينها الصراع السياسي أساسا والثقافي أيضا. إن اليسار في مفهومه الأكثر عمقا، ليس بالحزب السياسي التقليدي الذي يهدف فقط إلى تغيير السلطة بسلطة أخرى محدودة الإصلاحات، وإنما اليسار هو الذي ينشد، وخاصة في البلد المتأخر، تغيير ثقافة المجتمع وأخلاقياته، بما يؤهل المجتمع لاستدراك تأخره التاريخي. وحال اليسار اليوم، يؤكد هذه الضرورة سلبا، أي أن العامل الأيديولوجي لم يعد هو الحائل المانع من توحيده واندماجاته، بل سيجد في هذا التوحيد والاندماج الإطار الأنسب والناجع الفعالية لإعادة بناء أيديولوجيته الاشتراكية الموحدة. أما المستوى الثاني لهذه التعددية اليسارية، والتي فقدت ضروراتها وإنتاجيتها، فقد كان سياسيا: من أول انشقاق ضمني ثم علني بين الجناح النقابي والجناح السياسي، مرورا بانشقاق بين نهجي الثورة والإصلاح بتعبيراتهما المختلفة، ومن بينها الموقف من المشاركة في المؤسسات المنتخبة المعابة بالتزوير وانعدام المصداقية إلى رفض دستور 96 وما ترتب عنه من حكومة تناوب توافقي، وصولا إلى الموقف من دستور 2011 ومن المشاركة في حكوماته المتتالية. ومن البديهي أن كل تناقض أو انشقاق يحمل معه، بهذا القدر أو ذالك، نفسا أيديولوجيا وافتراضا استراتيجيا. ومع ذلك، وبدون الدخول في تفاصيل شتى، فإن لكل انشقاق «أصوله الأولى» التي دفعت به إلى الاستقلال الحزبي الذاتي. والملاحظ على هذه الأصول، التي لمحت لها في السابق، إما تجاوزها الوضع نهائيا، وإما دخلتها تعديلات، بحكم الأمر الواقع، فلم تعد لها في الممارسة لدى أصحابها، نفس الأولوية الحاسمة، كما هو حال المسألة الدستورية في صيغة «الملكية البرلمانية الآن». إن التأمل في التناقضات الانشقاقية التي عاشها اليسار في مجمل تاريخه على المستوى السياسي، يأخذني إلى الاستنتاجات التالية: أولا، عادة ما يقع الانشقاق على «أصول مَّا» تتخطاها دينامية الواقع؛ ولأن الجسم المنشق يكون قد بُني على أساسها، فإن الجسم الناشئ يستولد من ذاته خلافات أخرى، يكون منشأها الحقيقي «الصنمية» التنظيمية التي تتربى في كنف الجسم الجديد (أو القديم أيضا) لتغذية مشروعيته الدائمة. وهذه حالة العديد من الانشقاقات عندنا وعند غيرنا. وخاصة إذا ما كانت تلك «الأصول» قضايا تكتيكية بالدرجة الأولى. وكيفما كانت جدارة تلك الخلافات الجديدة، الفائضة عن الأصول الأولى، فإنها تكون في هذه الحالة، وعلى الأغلب، خلافات ثانوية، لأنها موجودة في ذات الجسم وفي غيره من أحزاب اليسار، وما يعطيها صلابتها المستجدة، ليس الأصول الأولى في حد ذاتها، وإنما ما تستولده «الصنمية» التنظيمية التي يحتاجها كل جسم مستقل. وإذا ما استثنينا الانشقاقات الأيديولوجية فيما مضى، والتي خفُت فعلها إلى حد كبير، فإن الانشقاقات التي حدثت في تاريخ اليسار، تعود إلى سببين أساسيين: أولهما: يعود إلى أن الحركة الأم لم تكن على قدر كاف من الوحدة الاستراتيجية. ولا أظن أن هذا العامل قد توفر إلى اليوم، ولأي تنظيم يساري، بل صار الغموض الاستراتيجي أشد مما كان عليه في الماضي في ظل الراهن المعولم. والوعي بهذا النقض الاستراتيجي الفادح، يفترض عقلانية مضاعفة تضع الخلافات الراهنة في حجمها الحقيقي، باعتبارها خلافات قابلة للتجاوز، ولا تعطي في حد ذاتها صلابة تاريخية لأي تنظيم لوحده. وثانيها، فيعود إلى أن «الأصول السابقة» جرت في زمن سنوات الجمر. ولأن اليسار كان خلالها مهددا باستمرار في وجوده الفيزيقي والسياسي، فإن الخلافات ذاتها، يمينا أو يسارا، كانت دائما تستنبطن معركة الوجود هاته. ولهذا كانت تأخذ أحجاما أكبر بكثير من وقعها الفعلي، وكأنها دائما معركة حياة أو موت ! ومن السهل في تلك الأجواء النفسية والسياسية المتوترة، أن يستثمر كل من الفرقاء المتخاصمين، تأويلاتهم القانونية للديمقراطية الناقصة في الحزب، وهي ديمقراطية ناقصة بالضرورة في زمن الاستبداد، والتي ما كان يسد ثغراتها سوى الثقة النضالية اللاحمة والمتبادلة، مما يسوق في النهاية إلى استكمال شروط الانشقاق حاملا معه، وبالضرورة أيضا، نفس النقائص الديمقراطية إلى أزمة أخرى… وأؤكد أن هذا الجانب في النقص الديمقراطي كان دائما هو آخر الهموم… بينما الناقدون والأكاديميون الذين لا يفهمون ضغوطات النضال في زمن الاستبداد يرجعون الأزمة إلى الديمقراطية الحزبية بشكل فج وتبسيطي، وكأن الأمور تجري في أنظمة ديمقراطية مثالية؛ بينما الحقيقة هي بالأحرى في كيفية إدارة الخلافات المتفجرة لا في آلياتها الديمقراطية المثلى. وفي الخلاصة، فإن الوعي بما كانت عليه الخلافات التكتيكية في الماضي من توتر وجودي يعطيها أوزانا أكبر من حقيقتها، ووقعها الفعليين، كما يعطيها أبعادا استراتيجية افتراضية، لا تعوض في الحقيقة عن النقص الاستراتيجي الواقعي الذي كان سببا في ظهور تلك الخلافات، والذي لم يزد إلا غموضا في زمن العولمة… إن الوعي بنسبية هذا التاريخ الانشقاقي، وبنسبية خلافاته التي تخطت الوقائع جل أصولها، أمر لابد منه، لكي نستوعب الضرورات الموجبة لوحدة اليسار، ولتصالحه مع تاريخه، بمكاسبه وخساراته أيضا. قد يقول قائل: إنك لم تأخذ في حسبانك التطلعات الاجتماعية التسلقية والانتهازية التي أثرت وتؤثر في سيرورة اليسار. وهذا صحيح ومؤكد. إلا أن وجود هذه التطلعات كان وسيستمر دائما في الحركة اليسارية. ومن يتصور أن الحركة اليسارية ستكون يوما مَا خالية من هذه الإفرازات، بشتى ألوانها المكشوفة والمستترة، فهو حالم وسيعجز حتما عن الفعل في الواقع. وما زلت أظن أن الحركة اليسارية هي أكبر وأوسع من هذه الإفرازات، شريطة أن يمتلك أغلب مناضليها الوعي بنقائصها الراهنة، وأعطاب تاريخها المشترك، ويتحلى بالروح السياسية العملية لتجاوزها… وأخيرا، ربما لم يتمعن الصديق العزيز الخلاصة الكبرى التي تضمنتها مقالتي السابقة، حيث ورد فيها، أن جميع الخلافات التي عاشها اليسار قد جُربت في الميدان خلال عقود خلت، وجميعها لم يثمر أي منها الطفرة النوعية المنتظرة لليسار. وإذا ما نظرنا إلى تاريخ اليسار في مجمله، فالأرجح أن العكس هو الصحيح، على الرغم من صوابية هذا الاختيار أو ذاك في لحظته. إذ في كل محطة خلافية كان اليسار يزداد ضعفا من جراء انشقاقاته المتتالية، وما يتبعها من شروخ كبيرة في قواعده الاجتماعية. وفي نفس الآن، كانت الأزمة المجتمعية العامة، بفعل عوامل عديدة، تزداد تعقيدا واستفحالا. ولتوضيح هذه المسألة المجتمعية الأخيرة، التي تفوق خيارات اليسار وإرادته، والتي للدولة مسؤولية كبيرة فيها، يمكننا أن نستدل على ذلك بالفروق النوعية بين ما كانت عليه تطلعات المجتمع المغربي المفتوحة على المستقبل والمشدودة إليه، لمرحلة، وبين انقباض هذه التطلعات وهيمنة المحافظة عليها في مرحلة ثانية، ثم في المرحلة الأخيرة بتعدد مظاهر التفكك المجتمعي وسيادة الفرداوية والعزوف السياسي وفقدان الثقة في كل المؤسسات، بما يترك الكلمة الأخيرة لجمهور الشارع بمجاهيلها العديدة… ألح دائما على ضرورة تحليل المفارقات التي عرفها تطور المجتمع المغربي، لكي نقترب من فهم الأزمات التي عانى منها اليسار، وخاصة لتجاوز إيجابي وعقلاني لتفسيرات ترجع أزمة اليسار لهذا الموقف أو ذاك، وفي هذه القضية أو تلك.. والتي كيفما كانت صوابيتها، إلا أنها نسبية أمام ضخامة وتسارع التحولات المجتمعية، وما ينتظر اليسار من طول نفس لكي يستوعبها ويتصدى لعقاباتها. للأسف ليس بإمكاني في مقالة صغيرة، أن أقدم اللوحة الشاملة كما أراها في العودة إلى التناقضات العينية داخل اليسار، في أزمنتها، ومدى صوابيتها ونقائص كل منها في ترابطها بمفارقات الواقع المجتمعي في حينها. ولذلك، فأنا مضطر لأكتفي بالاستنتاج التالي: ما عاد أحد يجادل اليوم في أن اليسار بجميع خياراته وتموقعاته، إذا ما تركنا جانبا خطابات التمجيد للذات النابعة حكما من الحاجة المستديمة «للصنمية التنظيمية»، ليس أمامه إلا الدفاع عن الوجود في حده الأدنى. وهذا الواقع المتدني إلى حده الأقصى، والذي أحد تمظهراته التحديات الانتخابية، يستوجب طرح السؤال الصادم، والذي يتم الهروب منه: إلى متى سيستمر هذا الحال الدفاعي المتدني الأقصى، أمام هول فقدان الثقة العدمي في كل المؤسسات (حزبية ودولتية) لدى جمهور الشارع اليوم وغدا، وأمام مجاهيله الكبرى ! وفي رأيي لو أن الجميع أجاب أحزابا ومناضلين، عن هذا السؤال، وبصدق مع الذات، وبلا مكابرة ولا استخفاف بالآخر، وخصوصا بلا رتابة ذهنية مطمئنة لنفسها، لا تستشعر هول ما نحن أمامه من مجاهيل، فإننا سنصل لا محالة إلى الجواب الوحيد القادر على إخراج اليسار من دوامة انحباساته، وذلك بالشروع في ترتيب مبادرة نهضوية توحيدية كبرى، غير معتادة، تقوم على أساس: مراجعة نقدية تركيبية للتاريخ النضالي المشترك لليسار، بمكاسبه وخساراته، ومع وضع كل مواقفه المتناقضة في زمنيتها المجتمعية النسبية. وعلى هيكلة تحافظ على تفاعل تنوع الرأى بداخلها، أي، مع الوعي الضروري بترتيب الخلافات الراهنة بقدر أهميتها وأولوياتها مع الحاجيات الاجتماعية في الساحة الجماهيرية. وبالتلازم مع الوعي الضروري أيضا بأن المهمة المركزية في الزمن المنظور على الأقل، ولا سواها، هي إعادة بناء قواعد اليسار الاجتماعية والجماهيرية، أولا وأخيرا. والقاعدة الحاكمة في جميع ما سبق، أن من لا يستطيع كسب الأغلبية داخل الهيكلة الموحدة المفترضة، فهو عاجز بالأحرى على أن يكسب لأطروحته الأغلبية الشعبية. فكثير من الصبر والتأني إذن، استخلاصا من تسرعات جرت في الماضي، ومن أجل بناء هذا المشروع النهضوي الوحدوي الكبير، الذي وحده يمكنه أن يستشعر الجماهير بتغير نوعي لدى اليسار، ووحده يساعد على تنمية ثقتها فيه. وهكذا فإن الواحد في المئة، بما يرمز له من وعي جماعي جديد لتاريخ اليسار الشامل، هو الذي يفتح الطريق لتراكم النسب المئوية المحجوزة لطفرة يسارية ممكنة ومحتملة في الغد. ولهذا يستحق كل الجهود والإرادة القوية!