بكثير من القلق تابعنا ولا زلنا نتابع الأحداث المتسارعة في شمال المغرب بالريف الأعلى وتحديدا بمنطقي بني بوعياش وتازة ،وكذا في سيدي افني بالجنوب المغربي، وقبلها بأسابيع قليلة بالداخلة بآخر نقطة بالبلاد في تخوم الصحراء المغربية ،تابعنا أحداثا مثيرة قد تسير بالبلاد إلى نفق مظلم وتدخلها في مرحلة ستميزها ولا شك سيادة فترة من الغموض والضبابية في طبيعة المقاربة الأمنية المشددة التي تنهجها الحكومة الجديدة ..هذه الأحداث تابعناها بأنفاس مشدودة وقلوب خافقة ممزوجة بغصة في الحلوق،إذ أنها ذكرتني بأيام سوداء عاشها الريف في الزمن الغابر خلال الخمسينيات والستينيات والثمانينيات من القرن الماضي..ولا أريد أن يعاد ذات السيناريو في مغرب الألفية الثالثة.. صحيح أني لا أتذكر ما وقع من أحداث مؤلمة عقب الاستقلال المشروط والمقيد في حريته باتفاقية أيكس ليبان الملغمة والغامضةعام1955،التي - أي الاتفاقية- أثارت حفيظة الريفيين وبعض الأحرار الراغبين في تصفية الاستعمار بشكل نهائي من أقصى الشمال إلى آخر نقطة بالجنوب المحتل بالصحراء المغربية الجنوبية ،وهو الأمر الذي لم يكن ليسمح به من هندس الاستقلال على الطريقة إياها وفق اتفاقية ايكس ليبان .. هذه الأمور ومع عوامل أخرى التي إنضافت لتزيد التوتر في النفوس المشحونة، بسبب التهميش القسري والإقصاء الممنهج حيال الريفيين من قبل حكام الرباط القدامى(عهدالحسن الثاني)، فتضافرت لتجتمع على صفيح ساخن ولتتفجر في أواخر عام 1958 ..أحداث عاشها المرحوم الحسن الثاني الذي كان وقتها وليا للعهد بطريقته الخاصة ومتابعا نهما لما يجري من الأمور ،ومصرا على إخماد ثورة الريفيين بأجدير عاصمة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي بالحديد والدم والنار.. هذه الأحداث كما قلت لم أعاينها معاينة الرائي للمرئي،للوقائع والفواجع ، ولكنها– أي هذه الأحداث - سكنت الوجدان بالحكي والرواية ،التي تكفلت بها ذاكرة الأجداد بنقلها بأمانة من جيل إلى جيل . ولينجز بعد سنين عددا الدكتور عبد الله البارودي كتابه القيم "المغرب: الإمبريالية والهجرة" لنفهم ونستوعب بعض ما حكاه لنا الآباء والأجداد عما قاسته المنطقة من تهميش وتهجير لطاقاتها الشابة في أواخر ستينيات القرن الماضي... لكن ما أتذكره جيدا وما استوعبته ذاكرتي الحية عن قرب ما تلا بعد ذلك من أحداث مؤلمة عقب انتفاضة 1984.يومها كنت في السنة النهائية من الجامعة .وعبر شاشة التلفزيون الرسمي خاطب المرحوم الحسن الثاني ،ملك البلاد ،الشعب المغربي،وبالخصوص الريفيين بكلام نابي عابه الكثير من السياسيين في العالم الديمقراطي المتقدم..وكانت إذاعة "هنا لندن في BBC "تتولى ،بالنسبة لنا نحن الشباب الباحث عن بصيص أخبار غير زائفة، مهمة التثقيف والحصول على المعلومة بشكل مغاير لما يراد لنا أن نجهله عن أوطاننا. الحسن الثاني خاطبنا بلهجة متوعدة أدخلت الرعب على آبائنا وأمهاتنا،إذ وصفنا بوقاحة لا متناهية "بالأوباش".وهو الأمر الذي تطلب منا جهدا ليس يسيرا في التنقيب في قواميس اللغة العربية لمعرفة كنه الكلمة الجديدة. كان إذا غضب الملك جاء إلى الشاشة وفي يده خنجر صغير يتلاعب به بين أصابعه، دلالة على عدم الرضا على "شعبه الوفي".و يومها كان بصره نافذا مرعبا، وخنجره حادا باديا للعيان، متوعدا "أعداءه" ،نحن الريفيين ،كذلك بدونا له في لحظة الظلام ،فخرج منه الكلام على النحو الذي أشرنا إليه! مما أتذكره وهو يخاطبنا بعينين ثاقبتين، من غير أن يشخص بصره إلى ورق من المفترض أن يكون قد خط فوقه كلمات مختارات. بل جاء كلامه مباشرا كأنما يخاطب فردا ذليلا ،خماسا حقيرا يؤدي الخدمة وهو صاغر .قال متوعدا: يستحسن بكم أن تتذكروني كولي للعهد وليس كملك. ولكم أن تتصوروا حجم الكلام المبطن. فالمؤرخون وحدهم يعلمون خبايا هذا الوعيد.. نقطة أول سطر.لكن .. ومع ذلك كله ، وبعد ما سال ماء كثير في مجرى الحياة، وانتقل الحسن إلى عفو الله ،بأخطائه وحسناته، ومن الأخلاق أن نذكر موتانا بخير ،كيفما كانت حصيلة أعمالهم الدنيوية. فالله العادل وحده الوكيل بمحاسبة العباد في الآخرة..لكن.. هل من المعقول أن تصير الأمور في المغرب الأقصى إلى ما هي عليه من فوضى المناداة بالمطالبة باستقلال الجمهوريات الوهمية في الريف الأمازيغي والجنوب السوسي والصحراء البوليزاريوية،تماما كما كان ملوك الطوائف الخزايا في عهد الأندلس الضائعة ؟؟ ما يدور في شمال المغرب وجنوبه من تحرك مقبول، يستسيغه عقل المتبصر المنفتح على ثقافة الآخر وقبوله كما هو ،من غير إحساس بعقدة النقص تجاه ثقافة هذا الكائن أو الشعور باستعلائية تجاهها...وهنا الحديث يروم ناحية الجمعيات العاملة في مجال الدفاع عن حقوق الثقافات، سواء أكانت أمازيغية أو حسانية أو عربية ، مدنية علمانية أو إسلامية تتخذ من الدين الاسلامي ركيزتها الأساس في بناء التصور .هذه الجمعيات الثقافية تطالب من بين ما تطالب به إثبات الوجود من خلال التأكيد على الخصوصية والهوية.. هاهنا لا أحد ينكر على كل راغب في بناء الذات، وتحقيق الهوية، والتأكيد على الخصوصية الثقافية وحتى العرقية، مادام أن ثمة علما قائما بذاته متخصصا في البحث عن الجذور والوقوف عن الفوارق الاجتماعية وكذا العادات، من جنس بشري لآخر ،وهو علم الأنتروبولوجيا وعلم السوسيولوجيا ..لكن ما لا يمكن استساغته وإنكاره هو جنوح بعض الدعوات المتطرفة لبعض الجمعيات نحو الإنفصال عن الوطن الأم وعن التاريخ والجغرافيا والدين والثقافة الإسلامية..هذا الدين الذي "عجن" الجميع في قصعة واحدة ليخلق هذا الكائن المتفرد منذ 15قرنا أو يزيد.كائنا متسامحا مع مختلف الأعراق والديانات منذ عقود لكن في ظل الدولة المغربية العريقة.. ليسمح لي الأمازيغ في كل مكان أن أقول لهم ، وأنا الأمزيغي الريفي الذي ورث فصيلة دم غير مختلطة أبا عن جد،ليس عن عنجهية التعالي والتسامي بعرقه ولا تمجيدا وتفردا بأصله ،ولكن لكون هذه الفصيلة التي أتحدث باسمها شاء لها القدر أن تعيش عزلة جغرافية وإثنية تامة في قمة تيدغين الريف العالية .فلم يختلط لنا عرق ولا استوطن معها عرب بني هلال أو سليم ..المهم ،إني أمازيغي ريفي وأعتز..لكن ،ليسمح لي إخوتي أن أقول إن الدعوة إلى الانفصال عن الوطن الأم لا يخدم أية أجندة سوى أجندة من يريدوننا أن نكون ضعفاء أذلاء لا حول لنا ولا قوة.فبينما الأمم الأخرى تتقوى بكيانات موحدة منصهرة في اتحادات عالمية، يظهر من بين أيناء جلدتنا من يقول بالتفرقة العنصرية البغيضة والثقافية المحدودة الآفاق. فعن أي دولة يتحدثون؟ عن دولة الريف في الحسيمة وعاصمتها أجدير ؟أم عن دولة الريف الشرقي وعاصمتها الناظور؟ وجبالة؟ ألم يلحظ هؤلاء المنادون بتشكيل هذه الكيانات في الشمال ،كما في الجنوب، ألم يلحظوا أنهم هم الآخرون قد برز من بين أظهرهم وفي حدود الريف نفسه من يطالب بدولة جبالة وعاصمتها لا نعلم بعد ،أتطوان أم طنجة أم الشاون؟ والشيء نفسه ينسحب على الجنوب المغربي لدى إخوتنا" السواسة"، الذين كثيرا ما أعيب عليهم تعصبهم للأمازيغية ،ليس كثقافة ولسان ،فهذا حق طبيعي في التعبير والتواجد ولكن في الدعوة إلى المجاهرة بإقصاء العربية واعتبار "العرب"أعداء تجب محاربتهم وإخراجهم من المغرب الأقصى وإرجاعهم إلى أرض الحجاز كما يدعون. ولا ينبغي خلط ما يقع في سيدي إفني من تهميش لأبنائها وحقهم في التنمية والاستفادة من خيرات البلاد والقضاء على ناهبي الثروات ،فتلك مطالبة مشروعة، لكن في حدود الحفاظ على ممتلكات الوطن .. وقد يقول قائل :وماذا عن أهل الجنوب في أقصى الصحراء؟. نقول :إنهم _أي هؤلاء البوليزاريو _هم أيضا واهمون بظنهم قادرون على إقامة وطن من خيام وبدو رحل ،فوق كومة من رمال لا تعرف الاستقرار بفعل عوامل الرياح القوية .فهم ضحية فكر منتهي مدة صلاحيته .بل هم ضحية قوى سياسية تستغل سذاجة تلك القبائل الصحراوية..فليس في الأمر صدقة جارية من قبل هذه القوى المحيطة الطامعة(الجزائر وليبيا واسبانيا) . وأما الحكم الذاتي المعروض حاليا في إطار الجهوية الموسعة المقترح من المغرب فهو حل من بين الحلول الرامية إلى تدبير الخلاف بآليات ديمقراطية تهدف إلى الحفاظ على المكتسب المشترك التاريخي بين أبناء الوطن في الشمال والوسط والجنوب .فشعوب الدول العريقة في النظام الديمقراطي لا تسارع إلى المناداة بالانفصال والتشرذم واختزال المشكل في الإثنية والقومية الضيقة المنافية للفكر الحداثي .الدول العريقة تتشبث بالوحدة وبالأصل المتين في الوحدة حتى وإن اختلفت جذورهم ولغاتهم ودياناتهم. وبهذا الفكر المتنور وحده نتجاوز كثيرا من المشاكل المفتعلة بسبب قوة التعصب لهذا العرق أو ذاك ولهذه الثقافة أو تلك ،لأنها – أي العصبية بمفهومها الجاهلي- نتنة تورد أصحابها المهالك ،وتنهي دولا بذاتها وتخرب أوطان مهما علا شأنها بين الأمم.ولنا في ملوك الطوائف في الأندلس الضائعة خير درس .فاعتبروا يا أولي الألباب.. هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.