من يتابع هذه الأيام المستجدات السياسية في المغرب، و الأداء الذي تؤديه الحكومة الملتحية قد يقول أن هناك أشياء جديدة قد طفت على الساحة. فمسألة الكشف عن قلاع الريع وكشف المستفيدين من رخص النقل أخذت من النقاش الشيء الكثير، وجعلت من هذا الحدث حديثا للساعة. غير أنه لابد لنا أن نضع هذا الحدث في سياقه و نفهمه انطلاقا من مناخ سياسي أكبر يؤطره. إذن سنبدأ من طرح سؤال أساسي. قد تكون محاولة الإجابة عنه شيئا مهما لفك طلاسم هذا المعطى الجديد. سؤالنا هو كالتالي: هل بالفعل هناك إرادة حقيقية للتغيير؟ الإجابة عن هذا السؤال تحيلنا أولا على من سيوجه له هذا السؤال. أي من هو هذا الذي سيغير هذا الواقع المليء بالأمراض و الأوبئة المجتمعية و السياسية إذا ما اكتسب هذه الإرادة. الطريق هنا لن تصل بنا للحكومة الحالية ولا لأي حكومة كانت أو ستأتي. بل ستتجه بنا رأسا إلا ما يصطلح عليه في القاموس السياسي المغربي ب "المخزن". هذا الذي هو عبارة ليس عن أشخاص، بل عن منظومة قائمة بذاتها، نمط تفكير مبني على الاستحواذ و السيطرة و الولاء الأعمى المبني على تراتبية عقيمة. و قد يتضح من لائحة المستفيدين من هذه الرخص التي أثارت هذا النقاش جزء مما قلناه. فجل المستفيدين من هذه الرخص هم مشاهير في جميع المجالات سواء رياضية .. فنية .. دينية... الخ حيث أن دورهم داخل هذه المنظومة هو أنهم أبواق لهذا المخزن، يهللون له و يصفقون له بمناسبة أو بدونها، وذلك مقابل أن تقدم لهم العطايا و الامتيازات دون وجه حق . لكن من ناحية أخرى إذا كان هؤلاء المستفيدون من هذه الإمتيازات يحسبون على المخزن فلماذا تخلى عنهم ؟ الإجابة هنا ستكون ببساطة. لأن المخزن هو في مرحلة خلق "نخبة" جديدة قادرة على الحفاظ على وجوده، وتثبيتها يقتضي بالأساس مسايرة جزء من توجهاتها حتى ولو كانت على حساب من خدمه بالأمس. نحن هنا لا نقلل مما فعلته حكومة بنكيران. لكننا نحاول أن نعري موقعها الآن من السلطة و القرار. فهي حسب ما يُرى ليست سوى فاعل ثانوي في الحقل السياسي تتحرك وسط مساحة ضيقة حُددت لها سلفا ولا تُقدم على أي خطوة دون أن تلتجئ لمن في يده القرار. و للوقوف على هذا الأمر لا ضير من فتح باب التساؤلات مجددا لتحديد مدى شجاعة أو قدرة تحريك ملفات بعينها تعفنت بفعل الفساد و النهب في وضح النهار للمال العام. - هل حكومة بنكيران قادرة على وضع يدها على ملفات الفساد المستشرية فيما يتعلق بالمستفيدين من نزاع الصحراء، سواء الأعيان أو رجالات المخزن التاريخيين الذين استفادوا بشكل مهول من الامتيازات، ويتم التغاضي عن العديد من تجاوزاتهم بسبب ارتباطهم الحساس بهذا الملف ؟ - هل حكومة بنكيران قادرة على فك ملف بطائق الإنعاش الوطني. الذي صار باب اغتناء بالنسبة لبعضهم، حيث أن بعض الأشخاص يستفيدون هم و عائلاتهم بالعشرات من هذه البطائق، ليس لشيء سوى لأنهم من العائلات المعروفة تاريخيا لدافعها عن مغربية الصحراء ؟ - هل حكومة بنكيران قادرة على فتح ملف الفساد المستشري في المؤسسة العسكرية، هذا الفساد الذي أصبح من كثرة قدسيته عنوانا للزج في السجون لكل من يحاول التحدث عنه ؟ - هل حكومة بنكيران قادرة على فتح "ولو" نقاش في مسألة زواج المال والسلطة بحيث يطال هذا النقاش "جميع" الفاعلين السياسيين مهما علت مناصبهم ؟ لم نختر هذه الأسئلة اعتباطا، بل اخترناها بالرغم من وجود الكثير منها في جميع المجالات و الاتجاهات، بل كان اختيارها لتوضح مسألة مهمة. هي كيف أن الفساد يعتبر توجها و إستراتيجية سياسية يراهن عليها المخزن في التحرك و ترسيخ توجهاته بعيدا عن أي معطى أخلاقي أو تعاقدي، و تغييبا لأي إرادة غير إرادته . كل هذه المعطيات تحيلنا على أهمية إعادة النظر في ما يسمى ب "العهد الجديد" و "الصلاحيات الواسعة" التي رُوج أنها تمتلكها حكومة بنكيران، ثم على عجزها عن تغيير الكثير من الأشياء المستعصية الحل سِوى مِن لدن من عنده القرار السياسي الحقيقي. فما وقع لحد الآن أو سيقع لن يطال سوى الجزء المتيبس من شجرة الفساد، ذلك الجزء الذي أهدي لبنكيران و رفقائه امتياز اجتثاثه، غير أن الجزء الطري و الذي لازال يؤدي أدوارا في أجندة المخزن فذاك يصعب على أصحاب اللحي أن يطالوه !! في الأخير لا يسعنا سوى القول : الفساد في هذا البلد هو ليس مجرد فعل لأفراد تطاولوا على أموال عمومية، الفساد في المغرب هو إحدى " الحلول " السياسية لتدبير مجموعة من الملفات، و لاجتثاثه ينبغي أن تكون هناك إرادة سياسية كاملة الصلاحيات ، تقطع مع مسألة اعتبار الفساد هو ضرر أصغر يمنع ضرراً أكبر. هذه المقاربة التي كانت من أولويات المخزن في التعاطي مع مجموعة من الملفات. بما فيها الملف الأكبر. وهو ملف وجوده . لذا لن نقول مع القائلين : ' انزعوا الفساد من السياسة .. لصلاح السياسة ' بل سنقول : ' انزعوا السياسة من الفساد .. لفساد الفساد ' .