بالرغم من أن الاستعمار الأجنبي للمغرب، خرج قبل أزيد من ستين سنة، غير أن أشكاله لم تنجلي كليا، وهذا الوضع الشاذ يجسده كثيرون في ما يُسمى التبعية الاقتصادية واللغوية، غير أنه في الواقع، هذه التبعية في شقها الاقتصادي، قد خفت على نحو لافت خلال السنوات الأخيرة، حيث المغرب اليوم تحول إلى وجهة استثمارات، جعلته يُنوع اقتصاده، في حين نشاهد جميعُنا أن اقتصاد فرنسا يسير نحو الانهيار. وإذا كانت هذه التبعية قد خفت بشكل واضح في هذا الجانب، فإنها في المقابل نجدها قد تمادت وطغت واتخذت شكلا مُتغولا من أشكال الاستعمار المُذِّل والمُهين، بفضل جيش من "المؤدلجين" والرأسماليين و"المصلحجيين" برزوا بعد جلاء آخر جندي فرنسي عن البلاد. وهذا الوجود الاستعماري يتجلى في حضور لغة المستعمر بحجم ينتهك جميع المواثيق الضامنة للسيادة الوطنية، وهذا بحد ذاته وضع يتجاوز مفهوم التبعية التقليدية، والأصح وصفه بأنه شكل من أقصى أشكال الاستعمار والتدخل الخارجي السافر في شؤون دولة لديها دستور وقضاء وحكومة وحدود وسيادة في القرار، وهي في الأخير تبقى حرة في اختياراتها اللغوية. كانت قضية التعريب أبرز مبادئ الثورة الشعبية ضد الانتداب الفرنسي في المغرب، وذلك نظرا لخطورة اللغة الأجنبية عندما تتحول إلى آلية حربية، فتخرج عن دورها الإنساني كجسر للتقارب والتفاعل مع الآخر، لتتحول إلى سلاح لتدمير القيم وإضعاف النفوس وتكريس الإحساس بالدونية وضرب شخصية المواطن والإبقاء على أرضه كمحمية تابعة. ولا يقف الأمر عند هذا الحد في المغرب، بل يتعداه إلى التدخل المباشر في قرارات مؤسسات الدولة المغربية، وذلك عن طريق مجموعات من الأشخاص، سواء ممن يعملون داخل الدولة كموظفين كبار أو من السياسيين أو رجال أعمال، ممن يشكلون دولة عميقة، نقطة التقائهم، أنهم تربطهم مصالح مع فرنسا، وهكذا يتحول النص الدستوري ومقررات المحاكم الإدارية وغيرها، والقاضية ببطلان هذه اللغة الأجنبية في الدوائر الحكومية، إلى مجرد أوراق لا قيمة لها إن تمرير ما يسمى "القانون الإطار" المعني بتقنين المناهج التعليمية في النظام التعليمي بالمملكة، هو نموذج جديد من عقد الحماية؛ ونقصد بذلك حماية المصالح الفرنسية في المغرب. وهذه المصالح الاقتصادية والسياسية، تتطلب فرنسة (على وزن مغربة وسعودة) الجيل الصاعد والأجيال القادمة، وضرب الدستور والأحكام القضائية بعرض الحائط، وحرمان هذه الأجيال، كما حدث مع التي سبقتها، من حقها الطبيعي في الانفتاح الحقيقي على أكثر من لغة أجنبية، خاصة اللغات الأوسع انتشارا، وهو ما نص عليه الفصل الخامس من الدستور، وبجرة قلم يتم القفز على مبادئ تتخذ مشروعيتها من الإجماع الوطني. إن هذا القانون، والطريقة التي مُرر بها، يصطدمان بعدة إشكاليات، أبرزها غياب الحد الأدنى من التوافق، وهو ما يعكسه تمرير المشروع خلال جلسة اللجنة المكلفة، حيث صوت 12 نائبا لصالح المادة المتعلقة بفرنسية العلوم، مقابل امتناع 16 ومعارضة اثنين. وينتمي المعارضون والممتنعون إلى حزبي الاستقلال والعدالة والتنمية، وهؤلاء لم يقتنعوا بالشق المتعلق بفرنسة الحياة الدراسية في هذا القانون، وهم يمثلون الحزبين اللذين قادا حربا داخل البرلمان لإسقاط المواد المعنية بفرنسة التعليم. وبالتالي القانون يعاني إشكالية خطيرة جدا تتجلى أساساً في عدم التوافق، ومن تم فإن تمريره يُعد تمريرا شكليا. وقد تم ذلك بواسطة الأغلبية الظاهرة، لكن في الواقع، فإن النسبة الأقل هي من صوتت بتمرير هذا القانون الذي سيحكم بلدا وشعبا، وهذا ستكون له تبعات ليست بالهيّنة، ستزيد من تأزيم الوضع داخل البلاد، ومن توسيع دائرة الخلافات، ويقع كل ذلك ضمن ظرفية سياسية يمكن النظر إليها كحالة سياسية غير مسبوقة، حيث الحياة السياسية بلغت نهايتها في المغرب، ودون تجديد حقيقي يحترم شروط الديمقراطية العميقة، فإن الوضع يبقى مفتوحا على جميع الاحتمالات، في ظل وضعية اجتماعية واقتصادية خطيرة يُعانيها المجتمع إن قضية التعريب ليست بالهيِّنة، وإذا كان حجم التجييش الإعلامي والتضليل الذي مارسه وزير التعليم و المغالطات التي ساقها، وأعادت تسويقها الآلة الإعلامية بلا هدف في الغالب، وإنما فقط نكاية في العدالة والتنمية، قد مهدت على المستوى الشعبي، لتقبل المغاربة مبدئيا، والى حد ملموس، هذا الانقلاب على لغة الوطن لصالح لغة بلد أجنبي لا تتوقف مؤامراته علينا في الخفاء والعلن، فإن تبعات ذلك ستكون خطيرة على الأمد القريب والمتوسط، وسيتعدى ذلك ضرب الهوية الوطنية وإفقاد الإنسان المغربي حسه الانتمائي وتحقيره، في وقت تشهد فيه الحياة الاجتماعية ظواهر خطيرة تتمثل في الجريمة بمختلف أشكالها، والتي تعدت الجريمة بمفهومها التقليدي، إلى جرائم الاغتصاب والتطرف، والتخريب والفوضى خاصة في التظاهرات الرياضية، وأحد أهم أسبابها افتقاد هذا الإنسان حس الانتماء إلى هذه الكتلة البشرية الحضرية، أضف إلى ذلك، ما نلمسه يوميا من تزايد لحجم النزعة العرقية داخل المغرب، المفتعلة والمتحكم فيها من الخارج، وخطابات التشكيك في الانتماء التاريخي للمحيط العربي وحتى الإسلامي في كثير من الحالات، إذ إن تبعات هذا الانقلاب على المبادئ التي جاءت بالاستقلال، تتعدى ما سبق ذكره بكثير، إذ ستكون لها لا محالة أثار وخيمة على مدارك الطلبة وقدراتهم على الاستيعاب والتحصيل العلمي، في ظل عاملين أساسيين، يتمثلان في تدهور مستوى اللغة الفرنسية في صفوف الطلبة وأيضا المعلمين، وكذلك في افتقاد هذه اللغة جاذبيتها لما تشهده من انحدار دولي غير مسبوق، أضف إلى ذلك تأثير الجوار، ونقصد تبعات "الثورة الثقافية" في حال اكتمال ملامحها، التي تشهدها الجزائر، للتخلص من آخر أذرع الاستعمار الفرنسي وأداته الأولى في السيطرة على المجتمع بجعله منغلقا في لسان، أغلب البلدان التي تعتمده لغة إدارية خارج مواطنها الأصلية، هي بلدان متخلفة، ممنوعة من لغات الانفتاح الكوني. هذا فيما ينفتح المواطن الفرنسي من بداية مشواره التعليمي على اللغة الانكليزية. وهذا التطور الذي تعرفه الجزائر، والذي سبقته أيضا في المغرب، قبل سنة، حملة شعبية واسعة جذبت أنظار الإعلام الدولي، تدعو إلى دحر لغة المستعمر لصالح لغة العصر، سيكون له تأثير على الرغبة الشبابية في المغرب، في التخلص من لغة العبء لصالح لغة العصر، خاصة إذا نجح مسلسل الانتقال "الديمقراطي اللغوي" في الجارة الشرقية بما يخلق عدالة لغوية في هذا البلد، أساسها تمجيد وتعزيز لغة الوطن والتخلص من لغة الانغلاق والتطلع إلى لغة الانفتاح. فهذا التطور إن حدث، أكيد سيكون دافعا لشباب المغرب، ليس فقط للمطالبة بعدالة لغوية تمنحهم حقهم المسلوب في التمكن من لغة أجنبية عالمية، وحقهم في أمن لغوي يضمن لهم احترام لغتهم باعتبارها إحدى أهم حقوق المواطنة، بل سيكون دافعا أيضا لمزيد من الزهد في اللغة الفرنسية المتأخرة دوليا وإهمال تعلمها، لكونها غدت، بامتياز، لغة أجنبية للبلدان الأكثر تخلفا على الصعيد الدولي والمقموعة شعوبها، الممنوعة من الحرية، والمخترقة سيادتها. وفي الأخير، نقول، أنه إذا كانت، السمة الغالبة التي عرفت بها بداية 2011، أنها كانت مرحلة المطالبة بالحرية ضمن العدالة الاجتماعية، والانتفاض ضد الاستبداد الداخلي، فإن المرحلة الموالية، وبعد التدخلات الأجنبية الفاضحة، التي حدثت كانقلاب خارجي على هذه الانتفاضات وتسببت في ما نراه من مآسي في بلدان الربيع العربي، فان هذه المرحلة ستكون مرحلة المواقف لا محالة، وليس فقط المطالب، وهي مواقف ضد الاستبداد الدولي وضد التدخل في البلدان المستقلة وانتهاك سيادتها بما يخدم مزيدا من الاستبداد الداخلي المرتبط بالمنظومة الدكتاتورية العالمية، وأن مطالب الهوية والتحصين اللغوي أو الأمن اللغوي، ستكون طاغية على الحراك القادم، إن لم نقل أبرز شعاراته، وفي بعض أقطار المغرب العربي، كالمغرب الأقصى وتونس، ستزيد النزعة تجاه المطالبة بمحاكمة وسجن عملاء أو خدام المنظمة الدولية – الاستعمارية- للفرنكفونية، لتكون أهم المطالب الشعبية. وبالعودة إلى ظاهرة المقاطعة الشعبية التي عرفها المغرب مؤخرا، ومن خلال استهدافها للمنتج الفرنسي بشكل ملموس، تتضح لنا الرؤية بشأن طبيعة الحراك القادم، والعقلية التي ستحكمه.