اختار الملك أن يكون قائماً بالاتصال السياسي متفاعلاً مع مكونات الحقل الحزبي أثناء لحظة انتخاب وتجديد بعض الهيئات السياسية لقياداتها (حزب الأصالة والمعاصرة، وقبله حزب التجمع الوطني للأحرار وحزب العدالة والتنمية) عقب انعقاد مؤتمراتها الوطنية. وهو دور ليس جديداً أو حديثاً باعتباره سلوكاً إنسانياً للفرد، وأحد وظائف الجماعة والمؤسسة؛ تمتد جذوره في تاريخ الفكر السياسي والاتصال والإعلام، وهو أيضاً من العوامل المؤثرة في التنظيمات الاجتماعية، لأن العلاقة بين نظام الاتصال والنظام السياسي علاقة جوهرية لا يمكن لأحدهما أن يقوم بوظائفه دون الآخر، بل يتبادلان التأثير والتأثر. ولعل هذا ما جعل البعض يعتبر الاتصال السياسي العصب الذي يتحكَّم في النظام السياسي لحاجة القائم بالاتصال إلى وسائل يُمَوْسِطُ عبرها خطابه السياسي للتوجيه والتحكم عبر تشكيل رأي عام يتكيَّف مع أجندته السياسية ورؤيته للعمل السياسي والحزبي. فهل يكتسب الاتصال السياسي هذه المكانة في النظام السياسي المغربي؟ وما هي الأدوار التي تُناط بالاتصال السياسي في سياق علاقة المؤسسة الملكية بالفاعلين السياسيين؟ وما هي الرسائل التي تحرص المؤسسة الملكية على إيصالها لهؤلاء الفاعلين السياسيين ومن ثم الجمهور (الرأي العام)؟. للإجابة عن هذا الحقل الاستفهامي نحتاج إلى تفكيك متن الرسالة/الخطاب السياسي للقائم بالاتصال تجاه المتلقي، وهو في هذه الحالة القيادات الحزبية الجديدة للهيئات السياسية والرأي العام. وسنعتمد فقط الكلمات المفتاح للرسالة التي وجَّهها الملك إلى مصطفى البكوري بمناسبة انتخابه أميناً عاماً لحزب الأصالة والمعاصرة (البام)، لأنها مُشْبَعَةٌ بدلالات وإيحاءات سياسية تنصهر في بوتقة واحدة لتشكل في النهاية أنموذج الحزب السياسي الذي يمكن أن يحظى بعطف السلطة ويساهم معها (يداً واحدة) في المسار الديمقراطي الذي تقوده خلافاً للهيئات السياسية المغضوب عليها التي تتزعمها قيادات "راسها قاسح أو سخون". تُستهل الرسالة بوصف البام ب"الحزب الوازن" و"الهيئة السياسية الموقرة" و"الحزب الجاد" وكلها تُؤسِّس لمعنى واحد يُثَبِّتُ أو يهدف لإثبات وتجديد شرعية الحزب عساه يقطع مع مرحلة التأسيس التي قادها صديق الملك فؤاد عالي الهمة، وَوُصِفَ أثناءها ب"حزب القصر" و"حزب الدولة" و"الحزب السلطوي" الذي كان سيهدِّد في نظر البعض الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي بإعادة إنتاجه للتجربة البَنْعلِية (النظام البوليسي) والمُبَارَكية (النظام البلطجي) لولا رياح التغيير التي حملها الربيع العربي إلى المغرب. فتوقف "زحف" النسخة الأخرى لحزب التجمع الدستوري والحزب الوطني. فهذه الأوصاف بقدر ما تحاول خلق واقع جديد لمرحلة ما بعد الهمة فإنها تسعى إلى تطبيع الحزب مع محيطه السياسي لعل ذلك يمحو أو يفكِّك أجزاء الصورة الذهنية التي شكلها المتظاهرون والمحتجون عن "البام" لما كانوا يطالبون في الساحات والميادين بحله ومحاسبة رموزه، وكذلك لِيَكُفَّ الخصوم السياسيون عن نحت عبارات القدح والذم والتشهير بالحزب وقياداته مثلما كان يصنع بعض السياسيين الذين استحبوا عودة العداد إلى الصفر ف"دخلوا سوق اجواهم". وهو ما يضمن في النهاية التعاطف مع البام ويزيد من منسوبه، ويقوِّي امتداده اجتماعياً. تركز الرسالة على تيمة أخرى لا تقل أهمية عن إثبات وتجديد شرعية البام حينما تحاول بناء قصة نجاح سياسي لحزب لم تمض على ولادته سوى أربعة أعوام ولما يشتد عوده بعد أظهر خلالها "انخراطه البناء في المسار الديمقراطي التنموي" بقيادة الملك، وتمكن من تنظيم مؤتمر وطني "محكم التنظيم"، وهو النجاح الذي يجسده اختيار مصطفى البكوري عن "جدارة واستحقاق" أميناً عاماً جديداً للحزب (المسار السياسي المتميز، النزاهة والكفاءة والمواطنة الملتزمة والتشبث المكين بمقدسات الأمة وثوابتها وخدمة الصالح العام...) يحظى بثقة سائر مكوناته، بل وحتى المتعاطفين مع الحزب. وتستهدف تفاصيل قصة النجاح دعم أو رسم الصورة الذهنية لحزب سياسي (وازن وموقر وجاد، تتولى قيادته شخصية مقتدرة تتمتع بالكفاءة) لإقناع الجمهور بمشروعه السياسي المجتمعي لبناء المسار الديمقراطي التنموي. وتتجاوز ملامح هذه الصورة الذهنية وضع الحزب وقيادته في بؤرة الاهتمام والضوء لتقوم بوظيفة تتماهى مع الإعلان السياسي الذي يخلق انطباعات لدى المتلقي بالعناصر التي تُنتج النجاح والقوة والمكانة في المشهد السياسي والانغراس في النسيج الاجتماعي، وتساعد الجمهور على إدراك نموذج السلوك السياسي الذي تباركه السلطة ويُقوِّي بدوره العاطفة تجاه ثوابت النظام السياسي واستقراره ويساعد في امتداده الاجتماعي ويُعزِّز مصالحه وأهدافه ويغرس الولاء لمشروعه السياسي في عقول الجمهور. من هذا المنظور، يتجه السلوك الاتصالي إلى دعم سلطة النظام السياسي وتوجُّهاته في المجالات المختلفة وخدمة مصالحه الحقيقية والمتصورة بما يُجذِّرُ رؤيته للفعل السياسي ودور الفاعلين السياسيين والوظائف التي يرسم معالمها للهيئات الحزبية المخلوعة الأسنان والأضراس بما يجعلها أبداَ تحت عطف ورحمة بَزُّولَةِ السلطة. لذلك يقدم القائم بالاتصال تفسيره للوقائع والأحداث السياسية في السياق الذي يراه مناسباً، وهذا يعني تجاهله لمكونات حزبية في لحظات سياسية أخرى، لأن أطروحاتها السياسية تهدد مشروعه لبناء المسار الديمقراطي التنموي الذي لا يستجيب بالضرورة لآمال البعض في تأسيس "ملكية برلمانية الآن وهنا". إذن، يؤكد هذا الحقل الدلالي لمضمون الرسالة وإشاراتها ورموزها السياسية أهمية دور ووظيفة الاتصال السياسي في علاقة المؤسسة الملكية بمكونات المشهد الحزبي والجمهور عموماً، وهو ما يجعله (أي الاتصال السياسي) بالفعل العصب الذي يتحكم في أي نظام سياسي، لأنه "يؤدي إلى نوع من التكيف الضروري مع النظام السياسي عبر عملية تنموية يتم من خلالها اكتساب المعرفة وتكوين المواقف والقيم وتشكيل الثقافة السياسية والمحافظة عليها أو تغييرها. وهذه العملية مستمرة عبر مراحل حياة الإنسان"، ومن خلال المناهج التربوية التعليمية وفي الحقل الثقافي والمجال الفني المُشْبَعِ بالرموز، وفي مجال العمل الاجتماعي والمجال الرياضي، إذ يكفي أن يظهر رأس هرم السلطة في أي نظام سلطوي بجانب أحدهم في صورة تذكارية وهما يركبان سيارة أو يتناولان وجبة العشاء لتصل الرسالة إلى من يهمه الأمر فضلاً عن الرأي العام، لأن القائم بالاتصال السياسي يحكم أيضاً بالصور والرموز ولا يحتاج إلى خطاب سياسي مكتوب، وهو ما يجعله مهيمناً على المشهد السياسي وليس فاعلاً سياسياً فقط.