الربورتاج التالي هو وصف لرحلة إلى مخيمات جبهة "البوليساريو" في الجنوب الجزائري. ومن خلال استعراض كرنولوجي للرحلة التي استغرقت أربعة أيام يحاول تقديم صورة جزئية لما هو الوضع عليه ولمآلات التفكير عند قادة وأطر ومقاتلين وأناس عاديين.. حول مستقبل قضية ما زالت ترهن المنطقة المغاربية وتشل تنمية دولها وتطور شعوبها. ربورتاج علي أنوزلا الطائرة ما بين العاصمة الجزائر ومدينة تندوف في أقصى الجنوب الجزائري تكاد تكون خاوية إلا من بعض الركاب أغلبهم من الصحراويين. إنهم بعض أطر جبهة البوليساريو في الخارج وطلبة صحراويين عائدين إلى مخيمات الجبهة بالجنوب الجزائري لحضور مؤتمرها الثالث عشر. إلى جانبي جلس ممثل الجبهة في البرازيل وفي الصف الموازي جلس ممثلون للجبهة في استراليا وفي دول أخرى. ومن خلال حديثهم بدوا كمن يلتقى لأول مرة داخل الطائرة، يتبادلون أطراف الحديث حول رحلة كل واحد منهم. ممثل الجبهة في البرازيل من مواليد مدينة الداخلة في الأقاليم الصحراوية، يكاد لا يعرف أي شئ عن المغرب إلا ما يقرأه في وسائل الإعلام. قد يبدو هذا الأمر مجرد تفصيلا زائدا، لكن ما سأكتشفه بعد ذلك هو أن أغلب الأطر الشابة داخل الجبهة تجهل كل شئ عن المغرب. في ممر الطائرة بدا رجل طويل القامة بملامح صارمة، بشرته البيضاء وشعره الأبيض وشاربه الكث...كلها ملامح توحي بأنه جزائري بل إن من يتأمله من بعيد يكاد يجد الكثير من الشبه بين قسمات وجهه الصارمة ونظراته الحادة وتلك التي نراها في صور الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين. لكن عندما قدمه لي الشخص الذي كان يجلس إلى جانبي تذكرت أني أعرفه، فهو سفير الجبهة لدى الجزائر، إبراهيم غالي، أحد أبرز وزراء دفاع البوليساريو الذي تقلب في عدة مناصب قبل أن يعين قبل أربع سنوات سفيرا لما يسمى ب "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية" في الجزائر، وهو منصب حساس دخل "الجبهة"، التي مازالت تعتمد على الجزائر في كل شئ. *** وفي سياق الحديث مع إبراهيم غالي تذكرت انه كان من ضمن وفد الجبهة الذي قابل الملك الراحل الحسن الثاني بمراكش، وبعد ذلك الملك الحالي محمد السادس بالرباط عندما كان وليا للعهد. سألت غالي عن وثيقة تم تسريبها عام 2005 ونشرتها صحيفة "لوجورنال" و"الجريدة الأخرى"، على أنها محضر مفاوضات اللقاء بين وفد الجبهة وولي العهد، فرد بأنه اطلع عليها، لكنه نفى أن تكون تلك وثيقة رسمية، وعندما سألته عمن يكون قد سربها فأوحى بأن وزير داخلية المغرب، الرحال إدريس البصري، ربما يكون آنذاك هو من يقف وراء تسريبها. فقلت له إن مضمونها لم يكن في صالحه لذلك يصعب أن يرمي بها إلى وسائل الإعلام إلا إذا لم تكن في صالحه. بدا إبراهيم غالي كمن لايريد الخوض في مثل هذه التفاصيل، وبدأ يتحدث عن اللقاء الأول مع الملك محمد السادس. فكشف أن وفد الجبهة الذي كان ممثلا آنذاك بإبراهيم غالي نفسه وبمحفوظ علي بيبا (توفي قبل سنتين)، والبشير مصطفى السيد، هو من طلب من الملك الراحل التعرف على ولي عهده. ويتذكر غالي أن ولي العهد بدا خجولا وهو يسلم على الثلاثة بحضور والده، لكن عندما اجتمعوا به بمقر إقامته في الرباط بحضور إدريس البصري لفت انتباههم وجود عدم تفاهم كبير بينه وبين وزير داخلية والده مما دفع ولي العهد إلى نهر الوزير أمام ضيوفه عندما لا حظ أن الوزير يريد إهانتهم أمامه. *** ورغم أن الرحلة طالت ساعتين ونصف إلا أن الحديث جعلها تمر بسرعة، وعلى سلم الطائرة بدت مدينة تندوف الجزائرية هادئة، تشبه إلى حد كبير أغلب مدن الجنوب المغربي. مدينة منبسطة بدون جبال في الأفق، وطقس جاف وهواء نقي، والشمس التي تركناها تغرب في الجزائر ما زالت هنا تشع بقوة. وعلى مدرج المطار تقف طائرات ومروحيات عسكرية. فهذه المنطقة يعتبرها الجزائريون عسكرية. وعلى بوابة المطار وقف أفراد من القوات العمومية الجزائرية بأسلحتهم الخفيفة، وإلى جانب قوات أمن المطار كان يقف أحد عناصر البوليساريو لمساعدة الوفود القادمة لمخيمات الجبهة بالمنطقة. وإلى هؤلاء كان يتم تسليم بطاقتي دخول لتعبئتهما واحد خاصة بالأمن الجزائري وأخرى بأمن الجبهة. مبنى المطار صغير ومتواضع يشبه، وأمام المبنى سأكتشف أن من بين ركاب الطائرة التي أقلتني من الجزائر وفد صحافي من التلفزيون الياباني، وفاجأتني الصحافية اليبانية التي تجاوزت عقدها الخامس وهي ترطن بكلمات من اللغة الحسانية، وقيل لي بعد ذلك إنها تعودت زيارة مخيمات الجبهة منذ عدة سنوات. أقلتنا سيارات رباعية الدفع كانت تقف أمام المطار وانطلقت عبر طريق محوري يتجنب المرور وسط المدينة الجزائرية، وعلى بعد كيلومترات من المطار نصادف أول حاجز أمني يرفع علم الجزائر، عبارة عن حواجز تجعل السيارات تتعرج يمينا وشمالا قبل الوصول إلى نقطة التفتيش التي يقيمها الدرك الجزائري، وعلى بعد أمتار فقط ينتصب حاجز أمني آخر وهذه المرة لما يسمى ب "الدرك الصحراوي"، نعرفهم من خلال سحنات عناصره السمراء وزيهم العسكري ولهجتهم الحسانية... من يجتاز هاذين الحاجزين يعبر "منطقة عازلة" يستمر عبورها مسيرة قصيرة قبل الوصول إلى حاجز آخر وهذه المرة يرتفع فوقه علم ما يسمى ب "الجمهورية الصحراوية". ومن يعبر هذا الحاجز يجد نفسه داخل أرض الجبهة، وعلى بعد مسافة قصيرة ينتصب مركز قيادتها المسمى ب "الرابوني"، وهو عبارة عن مركز صغير لمباني إدارية تضم مقر ما يمسى ب "الرآسة" و"الوزرات"، وهي عبارة عن مباني متواضعة من طابق واحد، وشوارع وأزقة متربة، يمزقها شريط أسود رقيق هو عبارة عن الطريق الوحيدة المزفتة التي تعبر مخيمات الجبهة وتربط بين بعضها البعض. *** أول عناصر الجبهة الذي قدم لي نفسه هو ممثلها في منطقة الأندلس، اسمه عابدين بشرايا، رجل هادئ لا تفارق الابتسامة محياه، يحرص على أناقة مظهره، ويفاجئك بأنه قليل الكلام، وعندما يتحدث يفضل أن يتناول مواضيع عامة. انطلق بسيارته رباعية الدفع مسرعا قبل أن ينعرج عن الطريق المزفتة وفي ظلمة المساء بدا كمن يفر بسيارته من متابعة تلاحقه. وعلى ضوء السيارة الذي كان يشق عتمة الظلمة بصعوبة بسبب اهتزازات السيارة، كانت تبدو من بعيد ظلال بيوت مثل أشباح كبيرة تظهر تم تختفي كلما اهتزت السيارة وارتطمت بالأرض من جديد. وأخيرا توقفت السيارة وبدا أننا أمام بيت متواضع صغير ينبثق من بابه المشرع نور أصفر. قال لي مرافقي هذا بيت شقيقتي في المخيم. وهو عبارة عن مبنى متواضع من طابق واحد انتصبت أمامه خيمة تقف مثل شبح في الظلام. وعندما هدأ محرك السيارة خرجت امرأة صحراوية مرحبة، اسمها خديجة، باب البيت حديدي، وأرضيته من زليج أبيض يميل إلى الاصفرار. أول ما تستقبلك قاعة الاستقبال تم فرشها على الطريقة الصحراوية، حيث يجلس الجميع إلى أرضية متساوية. وككل البيوت الصحراوية كانت عدة الشاي جاهزة، وصوت التلفزيون يضفى نوعا من الدفء على وحشة المكان، بالنسبة لشخص ما زال يستكشف مكان تواجده. وككل البيوت الصحراوية، وعلى عادة أهل الصحراء، سيفاجئ المرء كل مرة بشخص، امرأة أو رجل أو طفل يدخل ويلقي التحية عليك قبل أن ينسحب أو يأخذ مكانه بين الجلوس، مما يجعل من الصعب معرفة عدد نزلاء البيت. وفي لحظة أخرى تدخل امرأة أجنبية، شابة اسبانية متوسطة العمر تدعى "روثيو مدينا"، قدمت نفسها على أنها أستاذة جامعية من إحدى جامعات اشبيلية، تقيم مع سكان البيت منذ نحو شهر لإنجاز بحث حول الدور السياسي والاجتماعي للمرأة الصحراوية. بدت مرتاحة في تصرفاتها وكأنها في مكان ألفته وألفت عادات أهله، تجلس إلى الأرض على الطريقة الصحراوية، وتناول الضيوف كؤوس الشاي الصحراوي، والنقاش لا يرسى على موضوع واحد، حتى لو جرى باللغتين الصحراوية أو الإسبانية اللتين يتم بهما الحديث بسلاسة، فالكل هنا يتقن الإسبانية أو على الأقل يفهمها. وعندما انتقل الحديث إلى الهاجس الأمني الذي بدا مسيطرا على سكان المخيمات بعد حادث اختطاف ثلاثة أجانب من بين ظهرانيهم، توجهت بالسؤال إلى "روثيو"، عما إذا كانت لاتخشى على حياتها بعدما حدث، فردت بالقول بأن ما حدث حز في نفسها وهي ما زالت حزينة على مصير المختطفين، لكنها لا تخشى على نفسها، لذلك قررت أن تبقى في المخيم حتى تنهي بحثها. هنا تدخل صاحب البيت ويدعى "السالك عمر"، وهو موظف بإحدى إدارات التعاون التابعة للجبهة، وقال إن ما سهل اختطاف الأجانب هو إقامتهم لوحدهم في مكان مخصص للضيافة، قبل أن يجزم "لو أنهم كانوا يقيمون في بيت صحراوي مثل روثيو لما تجرأ أحد على اختطافهم". وعندما أسأل مرة أخرى " ومن قام باختطافهم وكيف حصل ذلك؟"، يرد الجميع بأن اختطافهم تم بتواطئ مع صحراويين من داخل المخيم، لحساب عصابات إجرامية ربما لمقايضتهم أو بيعهم لتنظيم إرهابي في منطقة الساحل. وفجأة يتشعب الحديث ويتطرق إلى الوضع السياسي بالمنطقة، فتتقاطع للآراء، بين مواقف دبلوماسية متوازنة عبر عنها عبد الله أحمد نائب ممثل الجبهة بمنطقة كاستيا بإسبانيا، ومواقف عاطفية عبر عنها مصطفى مولود، الذي فقد سمعه في إحدى حروب الصحراء، قبل أن ينتقل إلى اسبانيا مساعدا للمثل الجبهة بمنطقة الاندلس، بينما يحتفظ عابدين بصمته، لا تقطعه إلا اتصالات هاتفه الذي لا يتوقف عن الرنين. بالنسبة لعبد الله أحمد الدبلوماسي الشاب فإن الحل لا يمكن أن يكون إلا سياسيا أي من خلال استفتاء لتقرير المصير، أما مصطفى مولود، الذي غادر مدينة الداخلة وهو طفل صغير، فإن ما عاناه وعانته أسرته يجعله يتوسل بعطف إلى الله أن تنتهي هذه المأساة في أقرب وقت، ورغم ما قد يبدو في حديثه من تلقائية وعفوية لدرجة قد يعتبرها من لايعرفه هذيانا، إلا أن حديثه الذي تغلب عليه كلمات بالإسبانية ينطقها بإذغام يصدر غنة، يبدو عميقا وصريحا لأنه يطرق ما هو إنساني، وبلغة إنسانية بسيطة وصريحة تنفذ إلى العمق. *** من فوق التلة الصغيرة التي ينتصب تحتها البيت المتواضع يبدو سطحه المغطى بصفائح القزدير وقد طليت بطين أبيض لتخفيف الحرارة في النهار، والرطوبة في الليل. وعلى مرمى البصر، وفي ليلة مظلمة تضيئها النجوم الكثيرة المتزاحمة في سماء صافية تضفى على المكان نورا أزرقا سحريا، بدت بيوت المخيم متناثرة تدل أضواءها على شساعة المخيم الذي يطلق عليه "27 فبراير". قال لي عابدين بأن المخيم كان في الأصل مدرسة للإناث تحمل الاسم الذي يدل على تاريخ الإعلان من جانب واحد عن قيام ما يسمى ب "الجمهورية الصحراوية". لكن بعد وقف إطلاق النار عام 1991، واكتظاظ باقي المخيمات سمح لبعض الأسر للسكن به. وميزة هذا المخيم عن باقي مخيمات اللاجئين الصحراويين هو توفره على الكهرباء وقربه من مركز القيادة بالرابوني، لذلك فأغلب سكانه من موظفي وأطر الجبهة، ولا يوجد في ذلك أي امتياز لسكان هذا المخيم مقارنة مع سكان المخيمات الأخرى وإنما باعتباره مقرا عمليا بالنسبة لأطر الجبهة وموظفيها. وفي هدوء الليل لفت انتباهي الصمت الذي يخيم على المخيم الذي تلفه الظلمة من كل مكان، فحتى نباح الكلاب هنا غير موجود، فقط برد قارس يلسع الجلد وينفذ إلى الداخل حتى يجعل أسنان المرء تصطك وهو يتحدث. وعندما لاحظت خديجة تأثري بالبرد علقت بأن "الحمادة"، وهي منطقة الهضاب القاحلة التي توجد بها المخيمات، سميت كذلك نظرا لقساوة طبيعتها في الشتاء والصيف، وادعت أن الاسم مشتق من كلمتين هما عبارة عن شكوى من حرارة الصيف وزمهرير الشتاء، عندما يصرخ المرء "آآآح ماذا...أحره !"، أو "آآآح ماذا ...أقرسه !"... *** الطريق من مخيم "27 فبراير"، إلى مخيم "العيون"، يحددها عابدين بشرايا بحدسه وهو يعبر هضاب "الحمادة". فقبل اكتشاف تقنيات "جي بي إس"، كان البدوي يحدس اتجاهه بنظرته الثاقبة نحو الأفق المفتوح ليصوب هدفه. وعندما ارتفعت السيارة لمرة أخرى فوق تلة من تلال الحمادة أطللنا على مخيم "العيون". بدا المخيم أكثر شساعة من مخيم 27" فبراير"، وعلى طول الطريق المزفتة التي تشقه من الوسط بدت ملامح الحياة الصباحية، لأصحاب دكاكين صغيرة، وورشات إصلاح سيارات، وحركة نشيطة بين رصيفي الطريق الضيقة، وعلى جنباتها انتشرت نفس البيوت الطينية متناثرة، تنتصب أمام بعضها خيام يكسوها لون الغبار، وخلفها أو على جنباتها حاويات من الحديد تستعمل كخزانات للمياه. ملامح الناس متعبة تحملها أجساد ضامرة، ووجوه الأطفال التي لوحتها الشمس تخفى ورائها ابتسامات طفولية بريئة، وهم يلعبون في التراب. صادف ذلك اليوم زيارة مفوض الاتحاد الإفريقي لمخيمات اللاجئين، وهو ما يفسر وجود موكب من سيارات رباعية الدفع التي كسرت روتين الحياة اليومية لأناس ظلوا في حالة انتظار منذ 35 سنة ونيف، هو عمر مشكل الصحراء. كان الموكب عائدا لتوه من الرابوني حيث تم استقبال المسؤول الإفريقي من قيادة الجبهة، واتجه نحو قاعدة عسكرية تسمى "قاعدة الشهيد الحنفي". ومنذ المرور عبر بوابة القاعدة يفاجئ المرء منظر الدبابات والآليات العسكرية المتناثرة في المكان يتآكلها الصدأ، وعجلاتها المطاطية "نامت" تحت ثقل هياكل الحديد الذي يبدو أنه لم تتم صيانته منذ زمن بعيد... وفي عمق القاعدة التي تمتد على عدة كيلومترات ينظم استعراض عسكري لعشرات الدبابات السوفياتية القديمة، يصطف أمامها عناصر مما يسمى ب "الجيش الشعبي الصحراوي"، رجال يحملون وجوها متعبة تخترقها تجاعيد السنين الطويلة التي قضوها تحت الشمس. سألت أحد الجنود، والكل هنا يعتبر جنديا بما أنه لا توجد رتب عسكرية، حول ما إذا كانت هذه هي أكبر قاعة عسكرية بالمخيمات، فرد بتحفظ بأن هذه فقط واحدة من بين القواعد الكبيرة. وعندما ترجل الوفد الرسمي التقيت ما يسمى بوزير خارجية الجبهة، محمد سالم ولد السالك، سألته عن عدد عناصر قوات الجبهة فرد بدبلوماسية "تعرف أن هذا الرقم من الأسرار العسكرية ولا يمكن الإفصاح عنه". لكن التقديرات تقول بأن عناصر قوات البوليساريو لم تتجاوز في أحسن الأحوال 20 ألف عنصر، كان هذا في زمن الحرب، أما اليوم فيصعب تقدير العدد خاصة بعد أن توجه الكثير من "المقاتلين" القدامى إلى ممارسة حياتهم المدنية سواء كطلبة أو أطر أو مزاولة أنشطة خاصة تدر عليهم دخلا حرمه منه انتمائهم إلى فئة "المقاتلين" التي يعتبر المنتمون إليها متطوعين. وفي المؤتمر السابق للجبهة عام 2008 أقر المؤتمر تعويضا رمزيا لهذه الفئة من المجتمع الصحراوي، ويتراوح التعويض الذي يصرف لهم اليوم ما بين 70 و80 دولار (ما يعادل 600 و 700 درهم) كل ستة أشهر يقضيها المقاتل بعيدا عن أسرته. صور هياكل الآليات المتآكلة تحت أشعة شمس الخريف العمودية، وسيجار وزير الخارجية الذي يعضه وهو مطفأ، ازدحمت في رأسي مع صور الأطفال الذين رأيتهم في مخيم العيون وهم يلعبون في التراب بثياب تشيه الأسمال البالية، فهزتني المفارقة... *** كنت قد قضيت يوما كاملا، بنهاره وليله، بالمخيم. وبدأت أتلمس بعض جغرافيته وأستأنس إلى حديث أهله. فالمخيمات بنتها الجبهة على دفعات، ووزعتها إلى عدة مناطق أطلقت على كل منطقة اسم مدينة من مدن الصحراء. وكانت هذه التسميات في البداية، كما اخبرني بذلك أحد موظفي مفوضية اللاجئين، ويدعى سيدينا، تخصص لتجميع النازحين من كل مدينة في مكان واحد، وهكذا أنشأت مخيمات تحمل أسماء : العيونوالسمارةوالداخلة، تم في البداية تجميع السكان اللاجئين من هذه المدن بها، قبل أن تتوسع مع ارتفاع كثافة ساكنتها بعد مرور أكثر من 35 سنة على نصبها. أكبر هذه المخيمات هو مخيم السمارة يليه من حيث الكبر والكثافة السكانية مخيم العيون. وبعد وقف إطلاق النار عام 1991 تم السماح لسكان هذه المخيمات لتغيير أماكن سكناهم فاختار البعض منهم إقامة مساكن لهم بمخيم "27 فبراير"، الذي كان مدرسة خاصة بالإناث فتحول إلى مخيم سكني كبير،. أما قيادة الجبهة ومؤسسات "جمهوريتها" فتوجد كلها بمركز الرابوني الذي يعتبر بمثابة القيادة الإدارية والعسكرية للمخيمات، وهو في نفس الوقت المركز التجاري الصغير الذي يمكن أن يقتني منه المرء بعض الأغراض الخاصة التي لاتوجد بالمخيمات. والمسافة بين المخيمات شاسعة وكبيرة، وأبعد المخيمات عن مركز القيادة العسكرية والإدارية هو مخيم السمارة. ويبقى عدد سكان هذه المخيمات سر من أسرار الجبهة التي لا تريد الإفصاح عنه. وعندما أسأل سيدينا عن سبب امتناع الجبهة عن إحصاء سكان مخيماتها، يقول بأن من يتحفظ على ذلك هي الجزائر وليست الجبهة، وذلك لأسباب أمنية وسياسية حتى لا يتم توطين اللاجئين. وأعيد أسأل محدثي عما إذا كانت للمفوضية إحصاءات خاصة بها حول عدد اللاجئين، فيقول بأن آخر عملية إحصاء غير قانونية للمستفيدين من المساعدات قدرت عدد سكان المخيمات بنحو 150 ألف، لكن المفوضية نفسها، حسب قول نفس المصدر، اعترضت على إدماج عناصر مما يسمى ب"الجيش الشعبي"، والطلبة في هذه المساعدات، بما أن المساعدات مخصصة للاجئين فقط، فتم حصر لائحة المستفيدين النهائية في 125 ألف مستفيذ. لكن عندما يسأل أحد أطر الجبهة عن عدد سكان المخيمات يقدرهم بنحو 200 ألف شخص. *** أغلب المساعدات الإنسانية يتم تجميعها داخل مقر "الهلال الأحمر الصحراوي"، الذي يتم تحصينه بجدار ضخم من الحاويات الضخمة الفارغة التي حملت أطنانا من المساعدات للاجئين على مر العقود الثلاثة الماضية. وتتوزع هذه المساعدات على مواد أساسية يحتاج إليها سكان المخيمات في معيشتهم اليومية مثل الحليب المجفف والشاي والسكر والأرز والدقيق... ويتم توزيعها شهريا، وبعض المساعدات توزع أسبوعيا خاصة عندما يتعلق الأمر بالخضروات والمواد الطرية التي لا يمكن الاحتفاظ بها طويلا خارج البرادات الكبيرة. وفي السنوات الأخيرة، أقامت الجبهة تجارب زراعية صغيرة لإنتاج بعض الخضر والبقوليات... وعندما يطرح السؤال عن التلاعب في المساعدات الإنسانية، يرد سيدينا بالقول بأن ما يسمعه في هذا الإطار لا أساس له من الصحة، على اعتبار أن الجهات الداعمة والهيئة المشرفة على توزيعه بالمخيمات، وهي هيئة أممية تابعة لهيئة غوث اللاجئين وبعض موظفيها أجانب، يحرصون على أن تصل المساعدات إلى مستحقيها، لكنه لا يستبعد أن يقوم بعض هؤلاء بإعادة بيع بعضها أو ما يفوق احتياجاتهم منها من أجل اقتناء أشياء ترفيهية مثل الأفرشة والآليات المنزلية بما فيها تلك الترفيهية مثل التلفزات ومؤخرا الحواسيب والهواتف... وغيرها. ورغم محاولة سيدينا التقليل من أهمية ما يتم إعادة بيعه من مواد المساعدات في السوق السوداء، إلا أنه لايخفى مدى تأثير بث مثل هذه الأخبار على آداء الهيئة وعلى الداعمين. وفي هذا الصدد يقول بأنه غالبا ما تصلهم تقارير تستفسر عن وجود مواد خاصة بالمساعدات الإنسانية يتم بيعها في السوق السواداء بموريتانيا، ويشير هنا إلى التأثير السلبي الذي أحدثه تقرير إحدى القنوات التلفزية المغربية التي قامت بتصوير تلك المواد وهي تباع في السوق السوداء الموريتانية. نشاط السوق السوداء ازدهر داخل المخيمات في العشرية الأخيرة، فالكثير ممن يوصفون ب "المقاتلين" العائدين من جبهة الحرب بعد وقف إطلاق النار لم يعد يجدوا ما يشغلون به أوقات فراغهم فتفرغ الكثير منهم إلى التجارة بكل أصنافها بما فيها حتى تلك المحرمة دوليا مثل تجارة المخدرات. وتحولت المخيمات إلى سوق سوداء كبيرة يتم التعامل فيا بكل العملات وبكل أشكال المقايضة بما فيها حتى تلك التي تخص مقايضة الرهائن والمختطفين كما حدث مؤخرا مع الأجانب الثلاثة المختطفين من داخل مخيمات الجبهة. وحسب مسؤول من الجبهة فإن عملية الاختطاف تورط فيها صحراويون ممن "أعماهم البحث عن المال"، على حد قوله، وذلك من أجل "بيعهم" أو "مقايضتهم" مع تنظيمات إجرامية قد تقوم هي الأخرى بدورها ببيعهم أو مقايضتهم مع تنظيم القادة في منطقة المغرب الإسلامي. *** وبعيدا عن التجارة والتهريب، أعود إلى "الخيمة" كما يسميها الصحراويون، أي "البيت" الذي أنزل بين أهله، لأجد غرفة الاستقبال مكتظة كالعادة في جلسة شاي. وعندما يتطرق النقاش إلى الموضوع السياسي، يقول لي عبد القدوس، الشاب العشريني الذي يدرس الهندسة في اسبانيا، ويتحدث الاسبانية بطلاقة وبلكنة إقليم الباسك الاسباني، إن شقيقه صاحب فكرة تقول إما "الكل أو لا شيء". فبادرته بالسؤال عن موقفه هو، فقال إنه مع "الاستقلال"، يعني استقلال إقليم الصحراء عن المغرب. فبادرته بسؤال ثان، وماذا لو أن هذا الخيار لم يوجد فرد بأن الحكم الذاتي سيكون الحل الذي سيختاره مستبعدا فكرة الانضمام إلى المغرب. وهو ما أثار حفيظة شقيقه أحمد الذي يكبره بسنتين. فانتفض أحمد، خريج كلية علم النفس بالجزائر، ليقول بأنه في حالة ما إذا قررت الأغلبية اختيار "الحكم الذاتي" أو "الانضمام إلى المغرب"، فإنه هو سيظل في مخيمات اللجوء، لأنه لا يستطيع أن يخون "دم الشهداء"، كما يقول، قبل أن يسترسل في شرح موقفه قائلا: "نحن جيل المخيمات، لا نملك أي خيار آخر غير خيار الاستقلال، لأن في عنقنا دماء الشهداء، ومعاناة 35 سنة من النفي القاسي..". وعندما أقول له بأن ما يعرف ب "جيل الثورة"، ما زال على قيد الحياة، فماذا لو قرروا التنازل عن تضحياتهم من أجل مستقبل الأجيال المقبلة؟. هنا تتدخل "تغلا"، الأرملة والأم التكلى، التي ظلت صامتة وهي تعد كؤوس الشاي، لتقول بأن من يخون دم الشهداء فهو خائن ! موقف "تغلا محمد العروسي السويدي"، الحاسم أملته عليها تجربتها المريرة، فهي غادرت مدينة العيون عام 1975، قبل وصول أولى طلائع القوات المسلحة الملكية المغربية. وتتذكر "تاغلا"، أنها غادرت بيتها ليلا وهي بنت 25 سنة، وكانت في شهورها الأولى من الحمل، ومعها طفلتيها اللتين لم يكن سن أكبرهن يتجاوز 5 سنوات، وركبت شاحنة أقلتها هي والعديد من الأسر التي قررت الهروب خوفا من "بطش الجنود المغاربة"، كما كانت تصوره لهم "دعاية البوليساريو"، آنذاك، إلى ن استقر بهم الحال بمنطقة العركوب بنقطة أم الدريكة فتعرضوا للقصف من قبل الطيران المغربي، وما زالت صور القصف عالقة بذاكرة هذه الأم التكلي التي فقدت إحدى بناتها الصغيرات في ذلك القصف، والكثير من الأقارب الذين كانوا رفقتها في رحلة التيه تلك. وعندما نفذت بجلدها إلى منطقة بئر إنزران توفيت بنتها الثانية من شدة المرض الذي ألم بها بسبب انعدام الدواء وقلة الأكل والبرد القارس ليلا والحر الشديد نهارا. وحتى بعد أن استقر بها المقام بمخيمات اللجوء بالجنوب الجزائري، ظلت المآسي تلاحقها بعد أن توفي زوجها في إحدى المعارك بين مقاتلي الجبهة والقوات المغربية. ومع ذلك فإن هذه المرأة التي ظلت صلبة، رغم تقدم سنها، لا تكن أي ضغينة لمن تعتبره سبب مأساتها، فهي زارت مدينة العيون في إطار تبادل الزيارات العائلية التي ترعاها هيئة "المينورسو". وقالت إنها عندما عادت إلى مدينتها الأصلية لم تتعرف عليها ولم تتعرف حتى على أهلها الذين تركت بعضهم ورائها، فكل شيء تغير، ولم تعد تجد ما يغريها بالبقاء في المكان الذي ظلت تمني النفس بالعودة إليه. *** أغادر البيت صحبة مجموعة من الشباب إلى مقر "إتحاد الصحافيين والكتاب الصحراويين"، وهو عبارة عن غرفتين صغيرتين بهما طاولتين صغيرتين لحاسوبين تم أخذهما إلى مكان انعقاد مؤتمر الجبهة بمنطقة تفاريتي. وداخل المبنى الصغير كان بعض الشباب يجلسون أمام شاشة صغيرة يتابعون أحد الأفلام الغربية على ال "دي في دي". النقاش هنا يدور حول آخر الأفلام وآخر البرامج الكمبيوترية وعن آخر تقليعات موضة الشباب... فالشباب هنا كما في كل مكان في العالم يريد أن يحلم من أجل أن يعيش... سألت أحد الشباب عما إذا كان قد سمع ب "الربيع العربي"، فوجدته متابعا يقضا لكل ما حدث ويحدث في دول الجوار، وقال لي بأنه هو أيضا مع ثورة الشباب، وبأنه ينتقد احتكار محمد عبد العزيز للسلطة طيلة كل هذه السنين. ويتدخل شاب آخر ليقول بأن لا يمكن مقارنة وضع عبد العزيز مع وضع الحكام العرب، على اعتبار أن زعيمهم صاحب شرعية ثورية. ويقول لي أحد المتحمسين لعبد العزيز، إنه شخص عادي مثلهم، يسكن في نفس المساكن التي يسكنون بها، وأفراد أسرته جزء من الشعب يعيشون في نفس المستوى المعيشي الذي يعيشه بقية سكان المخيمات. في تلك اللحظة انتفض شاب آخر وقال لي إن هناك مجموعة من الشباب التي تعترض على سياسة عبد العزيز، وهم يسمون أنفسهم بشباب "حركة 5 مارس". وقال لي إنهم ينصبون خيمتهم أمام مقر الرآسة. مكان اعتصام شباب حركة 5 مارس التصحيحية شبه فارغ إلا من خيمة كبيرة ارتفعت فوقها شعارات تطالب برحيل الدكتاتور، وتندد بالفساد والاستبداد... وخلف الخيمة نصبت خيمتان صغيرتان يتخذ منهما المعتصمون مكانا لمأواهم، لكن كل الخيام كانت فارغة، ربما لأن المعتصمون يعرفون أن "مقر الرآسة" سيكون شبه فارغ طيلة أيام المؤتمر فانصرفوا إلى أغراضهم. أحد الشباب العائدين من اسبانيا، ويدعى السالك، ولا يخفي تحمسه لعبد العزيز، قال لي بأنهم طلبوا من عبد العزيز أن يقوموا بإخلاء مكان الاعتصام بقوة، لكنه رفض اقتراحهم، وهو ما يدل في رأيه على "ديمقراطية" زعيمه ! *** كان موعد انطلاق القوافل نحوا منطقة تفاريتي حيث سيعقد المؤتمر الثالث عشر للجبهة في ساعة مبكرة من صباح ذلك اليوم، لكن نظرا لكثرة الوفود والمؤتمرين فقد تأخر انطلاق القافلة حتى منتصف النهار. وكما في كل أنشطة الجبهة فإن القائمين على التنظيم متطوعين، والمنفذين مقاتلين سابقين أو أطر وطلبة عادوا من الخارج لمد يد المساعدة. وفي زحمة الإعداد للرحلة وجدت الخليل سيد امحمد، وزير ما يسمى ب "المناطق المحتلة"، رجل بشوش لاتفارق الابتسامة محياه. وعندما يقدم نفسه ويذكر صفته بأنه "وزير" ينفجر ضاحكا مثل من يتهكم على نفسه. لكن لمن لا يعرف الرجل فهو أحد الأطر الكبيرة داخل الجبهة، التحق بها منذ انطلاق رحلتها منتصف السبعينات، جاءها قادما من تجربة حزب "الكادحين" الحزب الموريتاني ذو التوجه الشيوعي. وظل الرجل وفيا لنفسه ومبادئه. وهو الذي يدير اليوم تحركات ما يسمى في داخل المغرب ب "بوليساريو الداخل". أي نشطاء الجبهة داخل المغرب. لكن للرجل حس براغماتي، فقد سبق له أن فتح عدة قنوات اتصال في الخفاء مع مسؤولين مغاربة من أجل الوصول إلى حل سياسي للقضية التي ما زال يحمل همها مثل جمرة يخشى أن تنطفئ في يده ولا يريد أن يظل يحملها إلى أن تحرق جسده... انطلق القافلة، عبارة عن أربعة عشر سيارة من سيارات الدفع الرباعي، تقل على متنها صحافيين وضيوفا أجانب، وقبل هذه القافلة تم تسيير قوافل أخرى. سائق المركبة التي كانت تهتز فوق تضاريس منطقة صحراوية تمتد حتى الأفق، مقاتل سابق، قضى 12 سنة من القتال في صفوف الجبهة. يعرف المنطقة وتضاريسها مثل ما يعرف المرء تضاريس كف يده. يتذكر "السالك"، وهذا هو اسمه، سنوات الحرب، وقسواتها وآلامها، ومع ذلك يقول بأنه ما زال مستعد للعودة إلى حمل السلاح إذا طلب منه ذلك. وفي سرير إحدى الأودية حيث توجد عدة شجيرات لشجر "الطلح"، تتوقف القافلة للراحة بعد ثلاث ساعات من المسير المضني، فيلفت انتباهي وجود وفد كبير من الصحافيين الجزائريين، قدر عابدين بشرايا عددهم بنحو 30 صحافيا. وعندما نجلس إلى ظل شجرة لتناول الشاي الذي بدأ "السالك" إعداده، يقترب مني أحد الصحافيين الجزائريين ليبدي إعجابه بجود "غابة الشجر" هذه في عمق الصحراء، وهو يعتقد أن الجبهة هي من قام بزرعها ! فأنبهه إلى أن شجر الطلح ينمو من تلقاء نفسه في الصحراء ولايحتاج إلى من يزرعه... فيتشعب النقاش إلى الحديث عما يسميه الصحافيون الجزائريون ب "القضية الصحراوية"، فاكتشف سطحية فهم بعضهم ل "القضية"، وبعضهم الآخر يكررون نفس الموقف الرسمي لبلادهم مما يجعل من المستحيل مناقشتهم. وحتى عندما يتطرق الموضوع إلى المقارنة بين هامش حرية التعبير في المغرب وما يوجد في الجزائر، تبدو الأنا الجزائرية حاضرة عند بعض الصحفيين الجزائريين المتشنجين في نقاشاتهم مما ذكرني بالنقاشات المتشنجة لمحسوبين على الصحافة المغربية عندما تتغلب الأنا الوطنية على الحس النقدي الذي يجب أن يكون حاضرا عند الصحفي المهنى. استمرت الرحلة حتى ساعة الغروب، عبرت خلالها القافلة 370 كيلومتر من الصحاري. وعند مدخل بوابة صغيرة، عبارة عن مجسمين لجملين أبيضن، كتب عليهما بالغتين العربية والإسبانية عبارة: "تفاريتي المحررة ترحب بكم"، كان يقف مقاتلون تابعين للجبهة يحملون أسلحة خفيفة ويؤشرون على السيارات للعبور. وعند عبور "البوابة"، تبدو عشرات السيارات الرباعية الدفع والشاحنات الكبيرة على بعضها حاويات ضخمة، وفي الأفق نصبت عدة خيام أمام مباني صغيرة عبارة عن بيوت من طابق واحد بنيت على شكل أحياء صغيرة تفرق بينها أزقة ضيقة. "هنا تفاريتي" إذن. الأرض التي ما زال متنازع حول تصنيفها هل هي أرض "محررة" كما تصفها الجبهة، أم مجرد "منطقة عازلة"، كما يصفها الجيش المغربي الذي أقام على حدودها الشمالية الغربية جداره الأمني على بعد من الحدود ما بين الصحراء والجزائر، حتى لا يضطر إلى متابعة فلول مقاتلي البوليساريو إلى داخل الحدود الجزائرية. *** تم تقسم الضيوف إلى فرق من سبعة إلى عشرة أنفار في كل بيت صغير، والتجهزات عبارة عن فراش أرضي خفيف وغطاء واحد لكل ضيف، أما الأكل فقد نصبت خيمة كبير للضيوف. وداخل كل بيت كان الضيوف يجتمعون حول كؤوس الشاي، فتنطلق النقاشات في كل اتجاه.. تطال كل المواضيع وبكل اللغات. كانت قدرة الجبهة على التنظيم، واللوجستيك الكبير الذي حركته من أجل عقد مؤتمرها الذي يحضره نحو 2100 مؤتمر، ونحو 250 ضيف أجنبي وصحفي، ونحو 2000 شخص آخر من المتطوعين والأطر الفنية والتقنية ومساعدي الخدمة ومن المقاتلين... في عمق الصحراء مثار إعجاب الكثير من الضيوف الأجانب. وعندما حل الليل بدت السماء ونجومها المتلألئة مثل طبق من البلور الأزرق تلمع في صحنه قطع من الجواهر المشعة بلون ذهبي... فجأة انقطع التيار الكهربائ وتوقف أزيز المولد الكهربائي فسكن الليل وهدأت النفوس.. *** منذ الصباح بدأ توافد المؤتمرين والوفد على القاعة الكبيرة التي بنيت لاحتضان أشغال المؤتمر، وهي عبارة عن قاعة من طابق واحد بها أعمدة حديدية ترفع سقفها من ألواح القزدير، وعلى جنباتها مكبرات الصوت، وفي وسطها مآت الكراسي البلاستيكية البيضاء. كانت المناسبة للتلاقي بين الكثير من أعضاء وأطر الجبهة، وتأخر افتتاح المؤتمر حتى منتصف النهار، في انتظار وضع آخر الترتيبات قبيل الافتتاح. فالمترجمون كلهم متطوعون من أطر الجبهة ودبلوماسييها في الخارج، وكل اللغات متوفرة. وبقي الجميع ينتظر زعيم الجبهة محمد عبد العزيز، الذي كان آخر من التحق بقاعة المؤتمر بعد أن استعرض تشكيلة عسكرية أدت له التحية العسكرية. بدأ خطري ولد الدوه، رئيس المؤتمر بافتتاح أشغاله، بطلب الوقوف لعزف النشيد الوطني الصحراوي. وهو بالمناسبة نشيد عنيف كلماته تمجد العنف الثوري يقول مطلعه "أنا الرفيق المستحل..دماء خصمنا ككل" وفي مقطع آخر يقول: "وبعد لغة الكلام..لغة النار والحديد". وعند صعود الأمانة العامة السابقة إلى منصة المؤتمر ارتفعت الشعارات وسط زغاريد النساء، ولفت انتباهي أن أغلب الشعارات هي تلك التي كان يرددها الطلبة اليساريون في الجامعة المغربية، ونقلها الطلبة الصحراويون إلى مدنهم في الجنوب المغربي، من قبيل "يا شهيد ارتاح ارتاح...سنواصل الكفاح". وعندما أعلن في المؤتمر عن مشاركة 54 مؤتمرا ممن تسميهم الجبهة بمناضلي الأراضي المحتلة، اهتزت القاعة مرة أخرى وبدأ الجميع يصرخ بصوت واحد "لابديل..لابديل..عن تقرير المصير..". *** بدا المؤتمر معدا سلفا، وعندما اقترحت رآسة المؤتمر، كانت اللائحة معدة سلفا، وحتى عندما أخضعت للتصويت لم يكن أمام المعترضين بديل آخر سوى تسجيل مواقفهم. وعندما صعدت رآسة المؤتمر إلى المنصة، كان رئيسها يحمل ملفات هي عبارة عن أوراق المؤتمر التي كانت جاهزة، وذلك حتى قبل انطلاق أشغال المؤتمر رسميا. وعندما دعي محمد عبد العزيز، بصفته أمينا عاما للجبهة لتلاوة التقرير الأدبي، ارتفعت الشعارات مرة أخرى، وصعد عبد العزيز بزيه العسكري، وبدأ يقرأ ورقة طويلة استغرقت تلاوتها عدت ساعات. ومن بين النقاط اللافتة للانتباه تركيز عبد العزيز على تأثير الأزمة الاقتصادية العالمية على المساعدات الإنسانية للاجئين، وهجرة العقول الصحراوية، وتراجع النمو الديمغرافي لسكان المخيمات، وتفشي الفساد الإداري داخل أجهزة الجبهة وغياب ثقافة الرقابة والمحاسبة، وتنامي عقلية الاستهلاك غير المنتجة مما أدى إلى ظهور علامات البذخ وتراجع الروح التطوعية... *** وخارج قاعة المؤتمر سأجد بابا مصطفى السيد، الأستاذ الجامعي بكندا وفي الجامعات الجزائرية، وهو الشقيق الأصغر لمصطفى البشير السيد، الذي يحمل الكثير من ملامح الشبه معه. بدا بابا، الذي يوصف عند الكثير من أنصار الجبهة ب "الثائر الدائم"، ممتعضا من المؤتمر ومن "الطريقة الكاسترية"، نسبة إلى الزعيم الأبدي للثورة الكوبية فيديل كاسترو، التي مازال يتم من خلالها تدبير الاختلاف داخل المؤتمر. سألته لماذا غادر قاعة المؤتمر، فرد علي وهو ينظر نحو الأفق، "هل تريدني أن أجلس أستمع إلى نفس الخطابات التي مللت الاستماع إليها؟ !"، قبل أن يقول موضحا رأيه، العبرة ليست في الخطابات ولا في الأشخاص وإنما في من يجعني قادر على الحلم. وعندما أسئله مرة ثانية، "ألا يجسد عبد العزيز بالنسبة إليك، الزعيم القادر على جعلك تحلم؟"، يلجأ إلى التاريخ باحثا عن مقارنات مستفزة ليقول ما مفاده أن عبد العزيز لن يكون هو ديغول الصحراء، وذلك نسبة إلى الزعيم الفرنسي شارل ديغول، الذي جعل أمته تحلم حتى تحقق حلمها. *** على هامش المؤتمر سألتقي بأحمد البوخاري، الدبلوماسي الصحراوي الأنيق في ملبسه وكلامه، والذي ظل يشغل منصب ممثل الجبهة بنيويورك قرب الأممالمتحدة. وهو أحد الوجوه البارزة التي حضرت كل اللقاءات المباشرة مع المغرب في إطار التفاوض بين الطرفين الذي ترعاه الأممالمتحدة. بدا البوخاري متفائلا بمستقبل التفاوض السياسي وذلك بالرغم من انقضاء سبع جولات من التفاوض غير الرسمي تحت رعاية الممثل الجديد للأمين العام للأمم المتحدة كريستوف روس. فبالنسبة للبوخاري فإن روس يعمل بمنطق سياسة "تفتيت الصخرة"، ويحاول أن يمسك العصى من الوسط، حتى تستمر المفاوضات. وعندما أسئله " وكيف هو موقف الجبهة حاليا؟". يرد بجواب دبلوماسي "نحن مرتاحون حتى الآن ونرى أن المفاوضات تسير في الاتجاه الصحيح، لكن سيرها ما زال بطيئا..". وفي لحظة ما يقول البوخاري بلغة الدبلوماسي الحكيم: "أتمنى أن نصل إلى حل في عهد قادة الثورة التاريخيين، فأغلب هؤلاء يعرفون المغرب ودرسوا بجامعاته، ويعرفون أحزابه وسياسييه، كما أنهم جربوا الحرب وأهوالها، وبالتالي فهم الأقدر على الوصول إلى حل...". وما يقوله البوخاري، تؤكده انطاباعات محمد بيسط، الذي يتولى ما يسمى بمنصب "وزير منتدب للشؤون الإفريقية". يتذكر بيسط، وهو من الدبلوماسيين الصحراويين الشباب والنشطين، أنه التقى ذات مرة بالطيب الفاسي الفهري، وزير الخارجية المغربي، وقال له إن كل ما يعرفه عن المغرب هو صور القصف للطائرات التي أغارت على مخيم أهله بالصحراء عندما كانوا يهربون في اتجاه تندوف في منتصف سبعينات القرن الماضي، وصور المغاربة اللذين يحاصرونه في مظاهرات مفتعلة عندما يأتي إلى بروكسيل لعقد لقاءت مع دبلوماسيين أوروبيين، وبأن هؤلاء يعاملونه كعدو ويشتمونه بأقذع الأوصاف... نفس الإحساس يشاركه إياه عبد القادر الطالب عمر، الوزير الأول لما يعرف ب "الجمهورية الصحراوية"، فهذا القيادي الذي لم توفيه الجبهة حقه، ما زال يتحدث بغصة عن "الشعور القوي بالحكرة" الذي دفع جيله إلى حمل السلاح ضد المغرب من أجل التحرير. ويلفت النظر إلى أن ما حققه المغرب بالنسبة ل "ثورة شعبه"، هو دفعهم إلى خلق "هوية وطنية صحراوية". ويقول إن المغرب بعد35 سنة اعترف بوجود هذه "الهوية"، وهي ما حاول التنصيص عليها مؤخرا، حسب رأيه، في الدستور المغربي الجديد الذي أشار أول مرة إلى "الهوية الحسانية" كخصوصية صحراوية. *** كانت الساعة قد قاربت منتصف الليل إلى قليلا، عندما ذهبت للقاء محمد عبد العزيز في مقر "إقامته"، وهي عبارة عن ثكنة عسكرية صغيرة نصبت فوق تلة تطل على المنطقة المنبسطة التي نصبت بها الخيام وأقيمت عليها المباني التي تستضيف المؤتمر. بعد عبور حواجز أمنية خفيفة، يستقبلك "المقاتلون" بنفس التلقائية الثورية، وداخل المبنى الحجري، غرف صغيرة وضيقة، وداخل إحداها أرائك من النوع الذي يستعمل في تأثيت المنازل المغربية "سداري". كانت الغرفة مجهزة بتلفاز صغير وعلى الشاشة قناة "الجزيرة" الحاضرة دائما في كل مكان. لم أنتظر طويلا، وسرعان ما قيل لي بأن "الأخ الرئيس في انتظارك". وحدت عبد العزيز ما زال في زيه العسكري. نفس البساطة في الأثاث كانت تعم الغرفة التي خلت إلا من طاولة زجاجية. وأمام عبد العزيز كان يجلس الرجل الذي ظل دائما يوصف ب "الرجل الثاني" داخل الجبهة، إنه البشير مصطفى السيد، الذي يتوارى عن الأنظار ليعود كل مرة منتقدا ومحذرا من "انحراف الثورة"، التي أطلق شرارتها الأولى شقيقه "الوالي مصطفى السيد". يطلب عبد العزيز حضور محمد لمين أحمد، أحد الوجوه المؤسسة للجبة، ومحمد الأمين بوهالي، "وزير الدفاع الأبدي" لجيش الجبهة. بدا عبد العزيز صاحب شخصية قيادية أمام أقرب معاونيه، وظل محمد لمين أحمد، وفيا للقبه "حكيم الثورة"، صامتا طيلة الجلسة، أما محمد الأمين بوهالي، فكان منضبطا أمام قائده العام، وحده البشير مصطفى السيد، بدا مثل "منظر للثورة". وطيلة الجلسة التي طالت حتى الهزيع الأخير من الليل، حاول البشير تلخيص القضية في استمرار وجود حاجز النفسي تراكم عبر الزمن، يتمثل في "الحكرة"، التي دفعتهم كشباب لحمل السلاح في بداية السبعينات. ومع مرور الوقت يرى البشير أن عامل الثقة تم كسره ويصعب استرجاعه أو جبره. وعندما أسأله عن الحل يسترسل في شرح أسباب الخلل الموجود في العلاقة مع المغرب، ليخلص إلى القول بأنه لابد من السماح لهم بوضع أرجلهم أولا على الأرض التي شردوا منها. فالخطوة الأولى بالنسبة إليه تبدأ من هنا، أي من إيجاد موطئ قدم لهم على الأرض، وعندما نطمئن يمكن أن نفكر في الخطوة الثانية. أما عبد العزيز فيبدو مصمما على نفس المبدأ. فهو لا يرى حلا آخر غير تقرير المصير. وعندما أسأله عن عامل الزمن، "ألا يعمل عامل الزمن ضدكم؟"، يرد بلغة الواثق من نفسه "نحن صمدنا 35 سنة ومستعدون للصمود 35 سنة أخرى، وقبلنا صمد المؤتمر الوطني الإفريقي 93 سنة، وثوار جنوب السودان ظلوا يحملون السلاح منذ عام 1956...". الأمثلة التاريخية لا تنقص عبد العزيز...وقبل أن يسترسل في الاستشهاد بها أقاطعه: "ألا تخشون من أن تهب عليكم رياح ثورات الربيع العربي فتجرفكم أنتم وثورتكم؟"، فيرد بثقة أكبر في النفس "ما خرجت من أجله الشعوب العربية هو ما ظللنا نحن نقاتل من جله طيلة العقود الماضية، فإرادة الشعوب التي عبرت عنها الثورات العربية لا يمكن أن تقف ضد تقرير المصير الذي نناضل نحن من أجله"، قبل أن يختم: "رياح الربيع العربي تهب لصالح الشعوب وليس لصالح الأنظمة...". فأنطلق من الفكرة التي انتهى إليها، وألح في السؤال الذي طرحته على أكثر من مسؤول داخل الجبهة : "وماذا لو أن رياح الربيع العربي هبت على الجزائر، عندها ستجدون أنفسكم في وضع حرج، إما الوقوف إلى جانب النظام أو الوقوف إلى جانب الشعب؟". وفي كل مرة كان الجميع يرد بنفس القناعة الإطلاقية "الجزائر لن تشهد ربيعا عربيا، لأنها عاشت مآسي الثورات وجربت محن عدم الاستقرار الداخلي". وبعض منظري الجبهة الأكثر إقناعا يذهبون أكثر في التحليل قائلين بأن الشعب الجزائري الذي خرج للتو من حرب أهلية طاحنة يوجد في وضعية منهكة، وبالتالي فهو يفضل الاستقرار في ظل النظام الذي سيضمن له هذا الاستقرار، حتى لو كان نظاما غير ديمقراطيا... *** لكن ما يضمن الاستقرار حتى الآن داخل الجزائر، وهو ما لم أسمعه على لسان قادة الجبهة، هو عائدات البترول والغاز الجزائريين. ففي العنوان الرئيس لجريدة "الخبر" الجزائرية الصادرة يوم 18 ديسمبر، كتب بالبنط العريض "احتياطات الجزائر تبلغ 200 مليار دولار". وبينما أنا أقلب صفحات الجريدة الجزائرية في مطار هواري بومدين بالعاصمة الجزائر، اقترب مني السيناتور الشرفي البلجيكي جوزي دوبيي، العائد لتوه هو الآخر من مؤتمر الجبهة، فأشفقت على حاله من شدة الغبار الذي ما زال عالقا بثيابه وشعر رأسه لدرجة أنه كان عندما يضحك بقوة تتناثر حبات الغبار فوق الطاولة الصغيرة التي كنا نتقاسمها. ولما لاحظت استماتته في الدفاع عن موقف "البوليساريو"، سألته إن كان قد سبق له أن زار المغرب ليرى الوجه الأخر من الصورة، فرد بالقول بأن سفير المغرب في بلجيكا دعاه هو وأربعة برلمانيين عام 2005 لزيارة المغرب، لكن كل ما رآه في الغرب حسب قوله هو فندق المامونية بمراكش، وعندما طلبوا زيارة الإقاليم الصحراوية نظمت لهم زيارة خاطفة، دامت أربع ساعات، في حين طالت إقامتهم بالمامونية أربعة أيام ! ويتذكر السيناتور البلجيكي العجوز بروح النكتة زيارته لمدينة العيون بالقول بأنهم أخذوا مباشرة من المطار في سيارات مريحة إلى قاعة للاجتماعات كانت تغص بالحاضرين، وعندما دخلوا وحتى قبل أن يتحدث أي أحد فوجئوا بوابل من التصفيق والشعارات. ويلخص دوبيي زيارته تلك بأنها كانت "سياحية"، قاموا خلالها بزيارة عدة منشآت اقتصادية، وعندما طلبوا لقاء السكان قيل لهم بأن موعد إقلاع طائرتهم قد حان. ومازال السيناتور البلجيكي يتساءل عما الذي استفاذه المغاربة من تلك الرحلة التي يقول بأنها أتت عكس أكلها. وعندما أقارن بين المكان الذي كان ينام فيه دوبيي وأمثاله من الضيوف الأجانب في مخيمات البوليساريو، على أفرشة أرضية وبدون ماء دافئ، في منطقة قارسة ليلا، أتذكر قول الدبلومسي بيسط وهو يتحدث عن الفرق ما بين آداء الجبهة الدبلوماسي، وأداء الدبلوماسية المغربية: "هم يستعملون الولائم ونحن نستعمل رائحة الغبار (النبغة، حسب اللهجة الحسانية)، فمن يأتي عندنا لا بد أن يقبل بغبارنا...". لكن الدبلوماسي الصحراوي الشاب يبدو أكثر تواضعا ممن يعزون كل "انتصاراتهم" إلى "رائحة البارود" التي ما زال يحن إليها اليوم الكثيرون داخل المخيمات...