الحياة زمن قصير بمقياس الزمن الممتد، وأحْكَم الناس فيها من علَّلها ، فأحسن التعليل، المَار فيها سائح، ومتنزِّه، و مُسْتَجِمَّ؛ ولا يُستحَم في مياهها مرَّتين؛ لأنَّها جارية متغيِّرة باستمرار، تننبُع من منبع لا ينضب، وتصُبُّ في مَصَبٍّ لا يمتلئ؛ ونحن نجري بجريانها؛ لكنَّها، مُقَتِّرٌة علينا تملك كل شيء؛ ولا نمَلِّك مِمَّا تملك غير "اللحظة" الواحدة هي "الآن"، أو "الحاضِر"؛ وكأنَّها اختَبَرَتنا، فاستنتجت أنَّنا لا نستحق، وأننا أسرى خوف وقلق بما مضى وانقضى وأصبح أثراً بَعْد عين ، والعاقبة أسوأ حين يَسَْجَُِِن المرء نفسه في سِجْن "الماضي"؛قائلا : لو رَجَع بيَ الزمن القهقرى لَمَا فَعَلْتُ ذا وذاك ،أو ما فعلت ذاك وذاك ، فيرثَ الشعور بالأسف والنَّدم والحسرة والحزن! لأن العودة إلى الماضي ،إنَّما تعني العودة إلى الأسباب والدوافع والضغوطات ... فعِشْ "الحاضر"، واعْرَفْ كيف تعيشه، وتنفّع منه؛ فأنتَ لا تملك من كلِّ الزمن غيره؛ عِشْهُ حُرَّاً من مشاعِر لا تلغي ما وَقَع، ولا تَمْنَع وقوع ما لم يَقَع؛ وعِشْهُ حُرَّاً دون "الخوف من الموت"؛ فحُكماء الإغريق وَصَفوا ب "الحماقة" كل مَنْ يستبِد به الخوف، إذ قالوا: الموت ليس فينا، بل غائبٌ عنَّا، ما دُمْنا على قَيْد الحياة، فإنْ متْنا ماتت معنا كل المشاعر"، ومنها هذا الشعور بالخوف من الموت. إنَّها ل "حِكْمة"؛ لكنَّها كمثل أي حِكْمة لا تخلو من "الخطأ.... والناس في الحياة تختلف درجات تفكيرهم ومراتبهم ، حسب القدرات الأصيلة الدفينة أو المكتسبة ،ومن هنا جاء حديثي عن الأستاذ العادي بالمفهوم المترجم، أو المدرس العادي بالمفهوم التربوي، أو الفقيه بالمفهوم الديني، رغم بعض الاختلافات ولا أقصد به طبعا الإنسان الشعبوي أو العامي ،بل الإنسان الذي له مؤهلات وممتلكات واختار بمحض ذوقه ألا يكون مختلفا .... ولد الأستاذ العادي الصبور العنيد ، موضوع الحديث، شخصا عاديا كما يولد جميع الناس، في قرية عادية، مسّها الصبر دهرا ،وهي حالة شعورية أكثر من كونها مكانا .. فيها النهر، والتمر ،والنخيل والتين، والزيتون ، والجبال، والرمال... تنحل فيها أشعة الشمس، بسرعة كبيرة ، وتنعدم فيها مستلزمات العيش الحديث . داسته أقدام العابرين ، وفرحت به أمه، ووضعت له خرصا في أذنه اليسرى، تميزا و محبة ودرءا للعين، وامتدت فيه رغبة البوح ،وسكون الذاكرة . درس بمدرسة طينية عادية ، وحلم بأبجدية جديدة ليس فيها مفردات الفقر والتفاهة . ..وتابع دراسته الطويلة الابتدائية والإعدادية والجامعية، فحمل العُري ورئتيه معه من مكان لمكان، امتزجت في نفسيته اللذة بالحيرة والدهشة بالسحر، وداهمته رغبة في أن يكون نسرا وأصبحت تستهويه أغنية القرطاس والقلم، حبا وموعدا ، فبدأت الرحلة وتجمدت في قلبه كل الخطوات والفصول ، والندى والمطر، فنجح بمعدلات عادية، وولج المركز التربوي الجهوي ، بنقطة عادية ، وعُيِّن بمنطقة عادية ،وكتب على باب قسمه " أنا طير غِرِّيد أحلم ." ورفع رأسه مثلما ترفع الأزهار تيجانها عند قدوم الفجر ..وتزوج بزوجة عادية ، لا تتذكره إلا بعد سماع أغنية دارت الأيام، وأنجب أطفالا بزغب دافئ تحت الجناح، فأطعمتهم أمهم من فمها حليبا طريا ،فيه كل شيء، فقاوموا حتى أصبحوا فراخا وولجوا مدارس عادية، بعيون كُحلها من معدن الكُحل .....واستمرت حياته عادية مليئة بالانكسار، دامت فيها هيمنة الهو على الأنا ، فتبدد كل شيء: الشجر والصخر ،وهيمنت عليه الريح وعدا، منتظرا ومنكسرا، يأتي الصبح بالخبر مبشرا ، ويرحل به المساء بوجه ممزوج بالدهشة واليأس ...وذات يوم مات الأستاذ العادي ،ميتة عادية، فواجه الموت بأقصى درجات الوحدة ،.....ساعات طوال من القلق والفوضى والتخبط ،... نوم متقطع واستيقاظ ، وغضب ،.... حسِب الزمان مرات عديدة وفي كل مرة يُخطئ العد ، فيعيد الكرة من جديد ، فلا تسعفه الذاكرة ......،أخذ الزمان كل عمره ولم يجد لمن يقدم أوراقها ، فسقطت الواحدة بعد الواحدة ، ذهب مغمض العينين إلى المجهول ....حزم أمره وغادر... فنسي معنى الرجوع للحياة لأن الزمن لا يتكرر .. مات خاسرا في منظور العقلاء... ،... إنه شهيد المأساة والتجواب والترحال على السفوح من مكان لآخر.. هاجر كما تُهاجر الأصوات والطيور والثورات والأموال والأدمغة ... أجَّله الزمان مرارا، وها هو الآن في بحر من السواد، يغمض عينيه للكارثة ، وقد حانت رحلة الأرواح وبدأت وليمة الديدان .. دفنوه كيفما شاءوا، تافها حيث لم يكن في إمكانه، إلا أن يفكر في الرحيل بروح متعبة، وصمت غريب،.. ورقد لأن روحه ،شبعت من الأيام والليالي ، وتعبت أجفانه من اليقظة ،وترك في وصيته : "يا بَنِي أمي لا تندبوني ولا تذرفوا الدموع ، ولا تزعجوا راحتي بالترنم والتكهين ولا تتكلموا عن ذهابي بالغصات ..... " فكانت جنازته عادية ، رفعوه على الأكتاف، وساروا به راقصين ومسرعين،.. حفروا له قبرا عميقا ، واسعا لتجلس بجانبه أشباح الليل في بقعة خالية ،إلا من الموتى.... وانتهى التأبين عاديا مستصغرا ورحم الله الأستاذ العادي....
حكاية فيها هذيان وبؤس ، وشفقة ..و.فيها حكمة وعرض كرنولوجي عاد، حيث اعتبر الفلاسفة أن الموت أمر لا يطاله الفكر، ولا يدخل في نطاق إمكانية المعرفة،ولا يمكن اختياره بأي شكل من الأشكال إلا نادرا فعلا ، أو خيالا ،أو حسا . ... إنها علاقة صدامية مع الزمن .في بلدة ، فيها العلاقات الرمزية والاجتماعية الممتعة والمؤنسة والمتوترة ...شعور شرس أحيانا، ومتلائم وهادن أحيانا أخَر ...فاحمدوا الله على نعمه وصلوا لربكم ركعتين كلما شرقت شمس يوم جديد، وأستغفر الله إن قلت إن زمننا هذا زمن الصخر في العلاقات وزمن الحجر والحجز والنسيان،.فإن سقيت جذور التين بماء الحنظل، ستجني منها التين طبعا ، وإن سقيت جذور الكروم بماء العلقم ستجني منها ثريات وعناقيد من العنب، لكن إذا سَقيت الإنسان بكوثر دمك ،فلن تجني منه غير المكر والغدر والتيه والنكران والنسيان ...اللهم ارحم ضعفنا .،وانشر رحمتك علينا ولا تجعلنا من القوم الناكرين ،والمتنكرين والغافلين ....لكنني أسأل نفسي وإياكم: كيف لأستاذ عاد أن يحول نفسه إلى أستاذ غير عاد حتى لا يُنسى ويُطمس ذكرُه ، ويبقى رقما من الأرقام الضائعة على ذاكرة المارة الذاهبة الراحلة، والواقفة والمقيمة .....والسلام عليكم ورحمة الله بطريقة عادية.