قادتني المعاشرة الطيبة التي نسجتها والفضاء المكاني الذي عششت فيه رغبة مني، مدة من الزمن، إلى عقد ألفة أساسها التوادد ، بيني وأناس لقائي معهم كان مصادفة ، رجال أكابر، لممهم ابيضت واشتعلت وقارا ،يزورون البلد مرة في السنة طيورا مهاجرة،أبت وامتنعت عن الذوبان، في وطن احتضنهم عمالا، يُشَيدون له ويبنون ،ويخلصون في العمل له ،لكنهم لم يفكروا ذات يوم أن يمسَخوا هويتهم إرضاء لذلك الوطن، إلا في وقت متأخر ، لأنهم يتنفسون وطنية أمازيغية ، مغربية أصيلة، ويرفضون بشدة وعنف كلمة الترحيب، التي تُشهَر في وجوههم في أول خطوة على أرض وطنهم، بل يكرهون بعنف عبارة: ( مرحبا بكم في بلدكم).
جالستهم صبيحة يوم خميس بداية شهر يوليوز 2012 لمدة تزيد عن ثلاث ساعات ،بمقهى الكتبية بتنغير، حيث لا يتوانى النادل جمال ،وبعده حسن شبي .في تأخير طلب أو إساءة مُعاملة ، كلمة الترحيب بادية في البداية، والشكر موصول في الختم والنهاية ،وذاك سلوك ألفْته في آيت شبي من زمان، لهم كل الشكر على طيبوبة اللسان وحسن الخصال ....، ذاك المكان أجد فيه بعض الراحة من حين لآخر، مع زملاء قُدم أقاسمهم الود وبعض الكلام غير الطويل ، نبحث عن نتف خبر نتداوله أحيانا بيننا خطأ دون قصد ،تبْيض به وجوهنا معرفة وإشراقا حين تسْوَد الوجوه..... في الفضاء نفسه سلمت على الحاج: الصديق القريب ،البعيد ، وصديقه الحاج( م )،قرب المكان الذي جلست فيه وأخي الحاج لحسن، وهو في مستوى عمرهم ، أناس عاشوا التجربة نفسها ، ساعة مغادرة البلاد، بحثا عن عيش أفضل.... بدأ الكلام عادة بأحوال الطقس من حيث: البرودة والدفء بالقول: هذه السنة قََََرُّها حار،وزمهريرها لاسع بارد ، و هذه السنة ضَبُورها عاتية، ،وعامل الإقليم القديم والجديد ،وما تغير في تنغير وما لا يمكن أن يتغير ، وهو الحديث المألوف المتداول بين الناس حين يجهل البعض البعض.. الحديث كان مستهله بقايا تجربة صادقة حفها المجهول والمغامرة منذ الدرجة الصفر في وشمها على أديم ذاكرة قوية آنذاك، حيث الفتوة لا زالت فتية ،عالقة بخيوط متشابكة ، حين حل موعد مغادرة الوطن، وترك المدينة في أزمة وقتية ، بحثا عن الأفضل ونمط عيش له فرادته، وخصوصيته في بداية السبعينيات، اعتمادا على عقد عمل بالديار الفرنسية ،حيث انطلقوا عبر البحر بينهم وبين صور الرق الشيء القليل ، تحت رحمة الله ورضا الوالدين ،محاطون بالمياه وبنيران الفراق والعذاب والاغتراب ، ليحلوا بمكان مجردين من كل شيء إلا ذاكراتهم وما على أجسادهم من لباس ،وما يحملونه من متاع قليل في حقائبهم الشديدة الاحمرار ، وهي المرحلة التي كانت فيها فرنسا ،حاجتها ماسة ، ليد عاملة ، نفيسة،قنوعة من دول فقيرة تتحمل التعب من أجل التشييد للخروج من مخلفات حرب ألمانيا النازية، وتقديم صورة حية عن الذوق الفرنسي الرفيع من اناقة وعطر ، وديك رياضي متألق، وعصر الأنوار ، والحرية ،والديموقراطية.... الحاج والحاج يسردان تفاصيل الرحلة الشاقة المتجلية الأثر قي الخوف الأكبر و ترك الوطن والأبناء بين الإخوان والأعمام، والاتجاه نحو موطن يحفه الخوف المرعب الرهيب، بلغة غريبة ، و طريقة أكل حداثية ، ولباس مقلم وأحذية ملمعة ، أناس ببشرة شقراءَ ناصعة جذابة تظهر عليها النعم.... ، ويجب تغيير كل شيء من أجل التعايش ومن أجل إنقاذ أبناء وإخوان ،هم في المغرب ينتظرون الحوالة لتغيير الوضع من لا شيء إلى شيء ، وتغيير حال الحقول التي لم تزرع لسنوات .....،ولا أخفيكم حقيقية لواعج أبي رحمة الله عليه، حين كان يتسلم الحوالة من "مقدم" إغيرم عمي بَهَا ، مكتوب عليها الاسم ،وأسفار ثلاثة ،متبوعة بكلمة درهم ، على اليمين دون فواصل ودون أن أستطيع تحديد المبلغ بالريال المغربي، فازداد وضعنا رفعة ومكانة بفعل الأخ غير الأكبر جزاه الله خيرا ..هم أناس درجة الوعي الاجتماعي فيهم سارية ،عالية بل درجة التعاون فيهم متأصلة شبوا عليها بين أحضان وأخلاق الجنوب الشرقي ، فطمحوا للأعلى بها ،ولن يضيع الله عملهم مهما كانت الأحوال. عملوا في أماكن شاقة هناك شربوا ماء وشايا وخبزا، يتغذون بالشيء القليل ،هم متواضعون صامتون ،قنوعون،لا يتدخلون في شيء لا يخصهم ،يراقبون بصمت تفاصيل البلاد التي شردتهم غيومها ، وتفاصيل البلاد التي رمت معاطفها لهم وخبأتهم وكانوا أُحَادا ثم أُحَادا ، وأكاد أجزم أن ليس لهم أصدقاء في بداية حياتهم من الأجانب ، ولا يعرفون أسرار وخبايا المدن التي استقروا بها ، يعملون بأمانة ونزاهة ،أمانتهم ورصانتهم واستقامتهم ومصداقيتهم مشهود لهم بها، تقاسموا أمكنة ضيقة للنوم مع زملاء لهم، سِلما وسلامة، وابتسامة ، والتزموا الكتمان جامعين خصال العفة والخير سراء وضراء ، حسب متطلبات الوقت والحال ، مقابل جمع ما أمكن من العملة لإرسالها للبلد ،ليستمتع الإخوة بها في المغرب بعرق وتعب إخوانهم هناك، فشيدوا المنازل واشتروا عقارات عديدة فنمت التجارة والصناعة وأصبح الكلام حلوا طيبا وعلى شفاههم كلمة "إحْلا وَوَال" كبر الأبناء وكبر العقل والتعقل، وازدادت البطالة في الوطن، ورغب الجيل الجديد في الالتحاق بالأب هناك، وهنا بدأت المشكلة تعقدا : فكيف يمكن الاندماج في ثقافة كلها غريبة؟ وهل ستستمر الحوالة في طريقها المُعَبّد إلى الإخوان غير الإخوان ، وهل ستنقص أو ستنقض؟، وكيف يمكن حل مشكل العقار، والمشاريع التي كانت العائدات السابقة من فرنسا مصدر نموها ؟و هل سيطلب الحاج نصيبه من حقِّ بناه إخوانه بعرقه.؟... ،أسئلة عدة تتزاحم دون الحسم فيها، لأن أي كلام في الموضوع هو تمزيق للُحمة العائلة.... ولم يجد الحاج معبرا لخياله غير الصمت الرهيب الذي يقف شاهدا على ما تبقى من حقائق مرعبة ومُخْجِلة...،.يحكي الحاج أحيانا بلغة فيها انشراح كبير لأن قلبه قد شبع من وسخ الدنيا وامتلأ عفة وقناعة ،وشكر الله وحمده على بذور الأبناء الذين وجد فيهم الذرية الصالحة سواء في الدراسة أو العمل: فمنهم من يُسير شركات كبرى هناك، ومنهم من يشرف على مشاريع كبرى هنا، يلبسون الأحسن،ويمتطون الأجود، والحمد لله على ما أعطى وما وهب، فانتصر التماسك الأسري على الغضب العائلي المتطاير ..أحيانا أخرى يحكي الحاج حيث ينتابه كرب عظيم بلغة مبطنة بالحنق والتأسف، على بعض أفراد العائلة من الأقرب الأقربين ، الذين رضعوا جميعا ا حليبا مشتركا ، بين جدران بيوت طينية عتيقة وبين حضن أم رؤوف وأدعية أب ودود، ، فتغيرت معاملتهم ،وظلمهم أصبح أشد مضاضة، فخانته شفتاه في الضحك فتصاعد بركان من الزفر ، فقيدته بعض المشاعر المهيبة الدفينة ، فحتى السلام بين الإخوة منقطع، وحتى الرحم ممنوع، وأي كلام أو حتى إشارة ، قد تعني المطالبة بالحق في الإرث ،فيهرب الوجه من الوجه مصافحة، والقلب من القلب عناقا ومعانقة، وهو بالإرث غير راغب وغير طالب، فالله عوضه بعمل ذريته ، بعد أن تغيرت فكرته، ربما احتكاكا بالأجانب، فعَدل تفكيره عن بناء سكن للأولاد إلى بناء الأولاد علما ومعرفة وذلك مشروع الحياة الأحسن وهذا التمزق النفسي بين حضن الأسرة والعائلة هو مجمع اتفاق في الحديث، قد يعود الأمر إلى قضايا حداثية والتحول المجتمعي الذي يصاحبه تحول في السلوك والأخلاق، وأن الزمن يتحول من الأسرة الممتدة إلى الأسرة المنقطعة، والمتفردة ،لكنها فكرة ضيقة لم تجد طريقها إلى قلوب الحجاج وعقلياتهم المتشبعة بروح الدين ، فالحداثة قد جرفت كل شيء حسب البعض ،ويجب أن نكون حداثيين وإلا سنعيش خارج التاريخ ،فلا يمكن آن نكون أنصافا نأخذ منها ما يليق ونترك ما لايليق لأنها نظرة توفيقية طوباوية متجاوزة ،بل أقول معهم أيضا لا يجب الارتماء في أحضانها والانسلاخ عن القيم الدينية السمحة.
انتقل حديثنا بعد التأسف على الحال إلى مشاكل أسرية أخرى لبعض المهاجرين المغاربة ، حيث يميل العقل للاندهاش بين ذكريات الماضي وإكراهات الحاضر التي بدأت تلوي أعناقهم وهم في سن متأخر ، ومن هذه المتاعب رغبة الكثير منهم في العودة طاويا الزمن والحقب بجناح واحد مكلوم ، متسلحا برغبة أكيدة للعودة إلى المنبع والأصل ،لكن الزوجة الحاجة الجناح الثاني الضعيف سابقا والقوي حاليا بحرارة أكتاف الأبناء وسواعدهم ، تأبى العودة والرحيل ،لأن الأبناء يشتغلون والبنات أعشاشهن مبنية و مستقرة هناك ،ولا رغبة لها في العيش مجددا في ثقافة قد تبدو حاليا متجاوزة، فيصبح الحاج بيْن بيْن ويقع في الحَيَْصََ بَيْص، وأي اختيار فهو مخاطرة ومغامرة وارتماء : هل سيعيش هناك رجلا مسلوب القوة والإرادة ؟أو سيعود للتزوج هنا، ويبني وسطا اسريا فتيا ، فيه افتراء على النفس انتقاما من الزوجة الأولى؟ فيتأسف على الزمن الذي أذله واستخف به طيلة أعوام مرت كالإعصار ؟هي حقا أسئلة مُحيرة والحسم فيها مجازفة كبيرة ،بل من المهاجرين المتقاعدين من يسافر وحيدا للبلد تاركا الحاجة في حالة مرض، ويبحث في البلدة بين الجيران والأحباب عن الأنس سامحه الله ، وقد تناسى أيام العشرة الجميلة النقية فيذيع خبره في بلاد المهجر وتتضاعف متاعبه بينه وبين أبنائه وزملائه .... وختمنا الحديث بأبناء المغاربة المهاجرين الذين ازدادوا هناك ،يتكلمون لغة فرنسية فيها توابل من اللغة الأمازيغية والعربية ولا رغبة لهم في البلاد ولا في عبادها، وانتهى المجمع بالحديث عن التماطل الإداري وبطء ، الحصول على الوثائق الضرورية ، واكتظاظ المدينة، ودخول الغرباء إليها،وودع بعضنا البعض، بسماع آذان الظهر على أننا سنلتقي على خيال حكايات حقيقية أخرى في مجلس آخر، إذ ْلا وجود للوقت الساعة لإطلاق عنان المخيلة للمزيد من التصورات . ورغم ما قاله الحجاج وما لم يصرحوا به، فهم فرحون بالعودة لبلدهم الأصل وهم يمتطون سيارات من النوع الجيد الأنيق، الرفيع
متجاوزين سيارة "الفاركو ترانزيت "التي ألفهم الناس بها قديما ،وهي إشارة قوية إلى تغير في الفكر والنظر للحياة ،ولهم أجر كبير في إحياء صلة الرحم وأقول لهم: إنكم في قلوبنا أيها الحجاج ،بلا نفاق وأنكم قد تعبتم من أجلنا، وشربنا الود بتعبكم، وامتلأنا أنفة بكم وأنتم غياب، وآمنتم بالقناعة التي لا يفنى كنزها وأحببتم الحياة حتى النهاية، وأن شبابكم حق علينا ،فسامحونا إن أخطأنا أو أسأنا، أو زاغ لساننا عن الصواب ،فأنتم أهل الدار الكبار الأكابر ولا يمكن" للعين أن تَعلى على الحاجب" وأنتم القلب الكبير والعقل الرصين ، وشكرا لكم على كل شيء، وأملنا كبير فيكم أيها الكرام ،و في بركة الله تعالى ، و صدق الرسول الكريم و محبة الوالدين ....،على أن نلتقي معكم على حرارة صيف آخر إذا أطال الله عمر الجميع إن شاء الله تعالى . ولنا عودة مع حكاية عجيبة: شخوصها رجال ثلاثة، وبطلها شخصية غريبة أطوارها ،وبمساعد ،مساعد أحيانا ومعيق أحيانا أخرى، حيثُ ُقلب النموذج العاملي فيها ،وتعقدت خيوط خطاطتها السردية وتشابكت ، وزمنها مطلع شهر يوليوز وما زالت مستمرة لحد الساعة، وذك في القريب العاجل بحول الله.