بقلم : علي بعراب . هذا الفضاء الواسع والمقسم على شكل ضيعات صغيرة ومتوسطة وكبيرة خارج بوابات القصور والمداشر غالبا ما تكون مجانبة للأسوار، تفصل بينها حدود من أحجار متراصة تبين كل مساحة على حذة، أو ممرات شبه عالية تفصل هذا عن ذاك ،يسهر الناس ويحرصون على تميز نظافتها ، وغالبا ما يشتغلون بتبليطها بالطين والتبن كي تحافظ على أناقتها وتستقبل منتوجات السنة دون أن تتسخ او تمرغ في التربة بشكل يجعلها غير مقبولة لدى كبار الدار ، أو حتى المارة والملاحظين من عامة الناس ، ومن الضروري أن يتوسط الأندر ثقب غالبا ما يكون مبنيا من الأسفل الى الأعلى بواسطة أحجار متداخلة بحيث يستطيع تحمل " الوتد "( بوكجدي) الذي يمتص ضغط وتدافع الدواب أوقات الدرس .
إنه الوجه الآخر لحياة الإنسان في الواحة، إذ لا يبرحه الا في فترة معينة وقصيرة من السنة كلها ، ويعتبر فصل الشتاء تلك المرحلة التي ينقطع فيها الوصال بين الشخص والأندر، هذا الشقيق الذي ولدته الطبيعة وأتى به واقع الحال ليكون أخا رذيفا للفلاح وبنيه داخل هذه الواحة المشمسة ، فعند خروجه من المنزل يتجه صباحا الى الحقل في المزرعة هناك على الجهة الاخرى من أسوار القلعة المحصنة ، وقد يتناول إفطاره هناك لعدم توفره على الوقت الكافي ، فيقوم بري وسقي المزروعات ، او تنقية التربة أو اعانة زملائه في "التويزة" (أدوال) ،وعند الظهر يكون ملزما بإنهاء عمله والإلتحاق بالمسجد ان كان العمل خفيفا ، وقد يصلي ويتناول غذاءه في المروج ، بعد أن تقوم الزوجة أو البنت أو زوجة الإبن بزيارته ومده بما يحتاجه من أكل وشراب .
في فصل الربيع تعود العلاقة لتتجدد بين الإنسان في الواحة وشقيقة الأندر ، فيأتي بمحاصيله من الفول ، والعدس ، والشعير ، فوق دابته التي تصحو من خمولها لتعانق الطرقات بحوافرها من جديد ، وقد تكون محظوظة بحصولها على لجام جديد وبردعة محكمة الصنع ، كما أنها تعانق أنواع الأعلاف المنيعة والمزودة بالقوة لتتحمل الصعاب !!! ،تخرج النساء بعد الإنتهاء من جمع المحاصيل ويكون الأندر المكان الذي تمارس فيه تقريبا كل شعائر البيت ، إذ يصبح بيتا خارجيا ، وتكون الحركة رغم كل هذا قليلة في هذا الوقت ، ليأتي الإزدحام مع وصول محاصيل القمح الذي يعتبر المنتوج الرئيسي للعموم في الصيف.
هكذا يسود قانون آخر بالأندر ، فيلتزم الناس الحراسة الجماعية والحيطة من اشتعال نيران -لا قدر الله- إذ يحتاط الجميع،.. وبكل زاوية جلة ماء مليئة ، أو خابية يستعملها لشرب الماء ، " ضاربا عصفورين بحجر "، فيسود التآلف بين الناس ، ويتسامر الشبان معينين آبائهم ، فيكون الأنذر عبارة عن(مسرح شعبي) قابل لأي تشكلات بين مختلف السكان ليلا ونهارا .... ويأتي فصل الخريف فتتغير حالة الأندر بحيث تغطى أرضيته بكميات هائلة من الذرة فيفتح المجال امام الشبان والفتيات البالغات سن الزواج لتنمية العلاقة على شاكلة ركن للتعارف والسمر جماعات هنا وهناك لنزع القشرة للذرة ليلا والتغني بالشعر والمواويل ، والتنكيت وتبادل الحجج المضحكة !! يحدث كل هذا في أجواء يسودها الإحترام والإلتزام بالأخلاق وعدم تجاوز الخطوط الحمراء للسلوك الإجتماعي الفاضل .
وبعد شهر من الزمن، يصبح الأندر( النادر) معرضا لأنواع من التمور، وكأن الناظر يخال نفسه في جنة من سعف النخيل وعناقيد ثمارصفراء متراصة ومستوية مختلفة أنواعها وأشكالها تجري من تحتها سيول من عسل ،وتطوف حولها أسراب من النحل ، وفراشات من ألوان بديعة، فتكون النساء في شغل طول النهار يقلبن التمار في الشمس ، ويعملن على إعدادها للعجين، ويخترن الأنواع ويعزلنها على حدة، وتكون الحركة في الأنذر في أشد زحمتها .
هكذا تكون العلاقة بين الشخص وعائلته في الواحة ، والأندر والفدان والمنزل ، حيث يتشكل ثلاثي الحياة، ومثلث الكينونة البسيطة بالواحة بمعناها الإجتماعي الخالص .....