تعارجت لا رغبة في العرج ولكن لأقرع باب الفرجْ و أحمل حبلي على غاربي و أسلك مسلك من قد مرجْ فإن لامني الناس قلت اعذروا فليس على أعرج من حرجْ الحريري - سيدي القاضي: كما أسلفت و ذكرت لحضراتكم فهذا السيد المنيف كان يقيم برياضي و يستغل مرافقه و ينتفع بنخيله و أشجاره، كنت أنا الخادم الذي يؤدي كل الخدمات دون استثناء، لدرجة أنه يستدعيني عندما يريد ركوب جواده لأركع من أجل أن يصعد على ظهري. أذاقني الويل هذا اللئيم... المطرقة تنزل على الطاولة و تحدث صوتا عنيفا يوقف الاستطراد. القاضي يفتح فمه ببطء ويقول: - احترم المحكمة، تكلم بشرف. مرة أخرى يغص بالمرارة في حلقه، كل سكريات الدنيا لا تستطيع أن تزيل أثرها المر اللاذع. لهاته التي تعينه على الكلام لم تعد تريد. هي اكتفت من الذل، و لا يقيم بدار الذل يألفها إلا الوتد و عير الحي. و لا يخفى على أحد أن بينهما رابطة جميلة . البهيمة و الوتد. الوتد يشج على الرأس ليدخل في الأرض مرغما ذليلا و البهيمة يعيقها الوتد عن الانطلاق. مرة أخرى يسمع المطرقة تضرب بقوة هذه المرة، صوت رئيس القضاة الأبح يزجره: - أكمل القصة أيها المتهم و دعك من هذا الشرود المتعمد. إنها مسألة شرف الذات هذه التي تنتهك، المحكمة نفسها من تنتهك هذه الكرامة الآن. لا وزن لأي شيء إلا للقانون طبعا، لا شيء يفوقه. استطرد : - المسألة هي أن السيد ألبير... قاطعه القاضي بصوت كالهدير: - لا أسماء لا أسماء جلجل الصوت و تردد صداه مرات قبل أن يخمد في هواء المحكمة، و بقي ذلك الصدى يدور في رأسه: لا أسماء لا أسماء. السمات فقط إذن، الصفات. يعود ليكمل القصة فيرطب حلقه بلعاب بدأت ينابيعه بالجفاف: - المسألة تبدأ من الرياض، و كما قلت فرياضي و أنا مالكه تهجم علي فيه هذا الإنسان و أقصاني و جعل مني عبده و مولاه. و كما لا يخفى على سيادتكم فذلك الذل لا يقبله الرجل إلا إذا اضطر إليه اضطرارا. أنا علي الهمام لم أرضه لنفسي و لكن اضطررت إليه. و ليخرج من رياضي قمت بكل شيء متاح أمامي دون جدوى، كان يتملكني. زوجتي نفسها ملكه متى رغب بها دون أن أقدر على منعه. لماذا؟ القانون يحميه. المال يحميه. و أنا العبد الضعيف المالك الأصلي للرياض و النخيل و الأشجار لا أقوى على الحراك، التفت الشبكة من حولي و لا قوة لي على تجاوزها. صوت آخر يهدر، هذه المرة ينطلق من دفاع السيد المنيف الذي أشار بأصبعه إشارة مبهمة و كأنها يد القدر التي لا ترد ليزعق بعدها محاميه بالكلمة المشهورة: - اعتراض سيادة الرئيس. ينظر القاضي بعينين فاترتين يغشاهما النعاس، نبهته كلمة اعتراض دون أن يعرف لها مناسبة، أجاب و كأنه في حلم: - الاعتراض مقبول. علي الهمام يجد نفسه مرة أخرى في موقف لا يحسد عليه. لا يعرف كيف يتصرف. الآن و قد تم هذا الاعتراض كيف يكمل مرافعته و هو الذي لا يعرف من القانون إلا اسمه؟ لم يكن لديه بديل فكل أمواله تحت وصاية عدوه اللدود، لم يكن لديه بنس واحد يدفعه للمحامي و لو كان من الدرجة الثانية. أحس أن الدنيا تدور و تدور و أن الأرض من تحت رجليه لم تعد ثابتة. أفاق على ضرب المطرقة و على كلمات القاضي الزاجرة: - شرود آخر و أنهي الجلسة لصالح مسيو ألبير. لقد نهاني عن الأسماء و هاهو ينطق بها دون تحفظ و الأدهى انه يضيف إليها صيغة احترام و تبجيل. تنحنح مرتين و بلع ريقه بصوت مسموع ثم استفاض في الحديث: - أنا يا سيدي الرئيس تعبت من الذل و الصغار، لم أعد أستسيغه، كنت فيما مضى أمني النفس بخروج هذا الغازي من بيتي عندما يصحو ضميره و.. هذه المرة استبد الغضب برئيس القضاة حتى أن أنفه تطايرت لحمتاه و أطلق زفيرا حادا شأن ثور غاضب سيهجم على ضحيته. تمالك نفسه و بصوته الخشن قال: - لقد حذرناك من أن تطلق الاتهامات جزافا، رجوناك أن تتحدث بشرف أمام القضاة، هذه هي آخر مرة أحذرك. تابع.. مالذي فعله بحق الله ليستحق كل هذا التأنيب و التعنيف من رئيس القضاة ألأنه أشار إلى ألبير بالغازي؟ أو ليست تلك حقيقة ثابتة؟ كيف يتابع وهم يحذرونه و يعترضون على أقواله؟ مرة أخرى شعر أنه قزم يقارع العمالقة، بمن سيستغيث الآن لينجده؟ استمر في الحديث رغم أن الكلمات بدأت تخذله و هو الرجل الفصيح المفوه: - و هكذا بعدما علم السيد أن رياضي لم يعد يفيده، أو انه ربما عثر على ما هو أحسن منه ومن هو أفضل مني استدعاني يوما للجلوس معه. قال لي إنه عازم على الرحيل و إنه سيتركني و شأني و أن ملكية الرياض ستعود لي مقابل بعض الشروط. توقف ليرطب حلقه ويستعيد تلك الذكريات المؤلمة التي حطمت فؤاده و هو الذي قبل شروط ألبير وقتذاك دون تفكر في العواقب. هاهو الآن تحت السندان و المطرقة تنزل عليه. خشي أن يسجل عليه القاضي مخالفة شرود أخرى فتابع: - قبلت منه الشروط التي كان أهمها وثيقة التعهد. تساءل القاضي و قد بدأ الأمر يستحوذ على اهتمامه: - وثيقة تعهد؟ - نعم وثيقة التعهد. مازلت أذكر محتوياتها لأنني قمت بقراءتها مرتين أمام كاتب العدل قبل أن أوقع ذلك التوقيع الذي سلب مني كل شيء. كانت الوثيقة تقول فيما تقوله: أتعهد أنا علي الهمام و أنا في كامل قواي العقلية والذهنية وأتمتع بكل الشروط الواجبة للتوقيع على هذا العقد أنني أقر و أعترف برهن رأسي لدي السيد ألبير كوجامي. و عليه فسأكون ملزما بعدم استعماله إلا في قضاء أشيائي الضرورية أما بالنسبة للتفكير و الإبداع و القدرة على الخلق فأنا ملزم بعدم استعمال هذا الرأس إلا بموافقة من السيد المذكور. وفي حالة ضبطي متلبسا باستعمال الرأس في أمور التفكير يكون الثمن هو رياضي الكائن بشارع (تموغ) و الذي ستنتقل ملكيته إلى السيد ألبير.... ومنذ ذلك الوقت و أنا لم أفكر في التفكير بهذا الرأس لأنه يا سيدي القاضي مرهون لدى السيد المبجل. سرت همهمات في قاعة المحكمة تدل على دهشة الحاضرين. كاتب الضبط يقرض القلم في توتر مبالغ فيه وهو في حيرة من أمره هل يكتب ما سمعه أم أنه سيتهم بالجنون. عند انتهاء علي الهمام من الحديث تراجع إلى المقعد المخصص له ثم نهض دفاع السيد ألبير ليلقي مرافعته و بطنه تسبقه إلى الأمام. تقدم للأمام و هو ينهج و كأنه عدى مسافة طويلة: - السيذ الرئيس، السادة القضاة، السيد ممثل الحق العام، السيدات و السادة. أقف أمام محكمتكم الموقرة مؤازرا للسيد المبجل و الذي لا تجهلونه ألبير كوجامي. كما سمعتم للهمام فقد وقع على وثيقة تعهد تفيد بأنه في حالة استعمال رأسه في شؤون التفكير يكون عليه أن يتخلى عن رياضه الكائن بشارع تموغ. و الوثيقة المذكورة هي بحوزتي... يمد يده بها لأحد موظفي المحكمة ليوصلها للقاضي. يواصل مرافعته: - ولقد اندهش موكلي غاية الاندهاش عندما وجد مقالة باسم علي الهمام في جريدة الاتحاد تتكلم عن العولمة و تحتوي على مصطلحات عميقة لا يمكن أن تأتي إلا من مطالعة كثيفة و تفكير جيد. و الأسلوب يا حضرات، كان أسلوبه أسلوب أستاذ. هذه هو العدد المذكور من الجريدة. يتصفح القاضي الجريدة باهتمام بالغ و بين الفينة و الأخرى يلقي بنظرة يملؤها الحقد نحو علي الهمام الذي ازداد انكماشا على نفسه. استدار المحامي ليواجه المتهم و يرمقه بعينه التي تبدو من وراء النظارة و كأنها نقطة زيت في صفحة لبن. ألقى عليه تلك النظرة بكل ما تحمله من معاني ثم أكمل مرافعته، لكن علي الهمام لم يكن يستمع، جل ما سمعه كان مزيدا من الإدانات. نسخة من مجلة أجنبية تنشر له قصة. مجلة ثقافية محلية تنشر له نقدا لرواية حديثة. ذلك الوغد كان يتابعه منذ زمان و يتحين الفرص للانقضاض عليه. حانت الفرصة على ما يبدو ولم يعد للانتظار نفع. إنه محاصر به و بوثيقته اللعينة و بنسخ الجرائد و المجلات التي نشرت له. لقد خسر المعركة. لم يثنه أحد عن شروده هذه المرة الذي دام حتى سمع الصوت المألوف للقاضي و هو يقول: - سترفع الجلسة للمداولة. طبعا الأمور واضحة جلية لا تحتاج لأي مداولة، فالإدانة بأدلتها و هو عاجز عن الدفاع عن نفسه بأي شكل كان. انتظاره لعودة القضاة كان بمثابة حكم آخر قضاه في الترقب و هو يمني النفس بأن يفهم القضاة سبب توقيعه، و أن الأمر مجرد إكراه. خاب أمله عندما رجع القاضي و نطق بالحكم. بالحرف الواحد قال إن الرياض أصبح ملكا للسيد ألبير بحكم القانون. بعد يوم كامل من خروجه من المحكمة، مازال السيد علي الهمام مغموما شاحب الوجه تنتابه نوبات مرض غريب. كل ما سبب له في هذا هو خوفه من التشرد. زوجته تهدده منذ الآن بالطلاق و ابنه، ماذا سيكون مصيره؟ تحت وطأة هذه الهواجس استسلم لغفوة لذيذة ما لبث أن استفاق منها على صوت البستاني و هو يناديه. نهض متثاقلا ليعرف مالأمر. وجد أمام وجهه السيد ألبير و محاميه السمين. يا لوقاحة هؤلاء القوم!! بوجه غاضب واجههما، قال: - ماذا تريدان؟ السيد ألبير تولى الكلام بعدما قاطع محاميه المتزلف: - سيد علي أنا هنا لأعقد معك صلحا، أنت تعرف أن الرياض أصبح من حقي و لكني لا أريدك أن تتشرد، لذلك و لأنني إنسان طيب يعرف الأصول قررت أن أرد لك ملكية الرياض مقابل تجديد التعهد.. "يا إله السموات ماذا يقول؟ يريدني أن أجدد معه التعهد، يريدني أن أرهن رأسي عنده مرة أخرى. يريدني أن أقوم بكل أشيائي اليومية دون تفكير." كاد ينفجر في وجهه، بل كاد أن يبصق على وجهه، ولكن هدوءا غريبا سيطر عليه. إنه ليس هدوءا بل هي البلادة التي تلازم الخوف. الخوف من التشرد، الخوف من تضييع مثل هذه الفرصة التي لم تكن متوقعة. الآن هاهو يوقع من جديد وثيقة التعهد خوفا من التشرد، خوفا على مستقبل ابنه و زوجته. لأنه كان مضطرا و مكرها فلا بد من التماس العذر له. وضع نسخة التعهد بين يديه، و بعين طفقت بالدموع بدأ يقرأ: أتعهد أنا الموقع أسفله و أنا في كامل قواي العقلية و النفسية و في كامل اتزاني أن المسمى ألبير كوجامي يعيد إلي ملكية الرياض مقابل تجديد رهن رأسي له. و عليه فأنا ملزم بعدم استعمال هذه الرأس في أمور التفكير إلا بعد العودة للسيد المذكور...