مع بزوغ الخيوط الأولى للشمس تدب الحركة في جل المراعي والحقول حيث تنتشر نساء قرويات إما للعمل في الأرض أو لرعي قطعان الغنم٬ أو لحمل أكوام من الحطب على ظهور أجسادهن النحيفة ٬ ولا ينتهي بهن هذا الكفاح إلا في الهزيع الأخير من الليل. وقبل الخروج إلى الحقل تكون هؤلاء النسوة قد أعددن الفطور ووجبة الغذاء مع صيحة الديكة ٬ ليبدأن يومهن خارج البيت وهن مطمئنات على الأسرة. إنها يوميات المرأة التي لم تغب فصولها عن العالم القروي بجهة مكناس- تافيلالت وباقي القرى بالمغرب٬ وفي جميع مراحل السنة٬ ومهما كانت أحوال الطقس٬ وضع مازال قائما بكل جزئياته فرض عليها ولعقود خلت واختزل دورها في خدمة البيت وإنجاب الأطفال والعمل في الحقول. لم تتمكن القروية رغم أدوارها المتعددة كمزارعة وحرفية وتاجرة وعاملة٬ من الانسجام مع العصر ومتغيراته وحمولته الثقافية٬ والسياسية٬ والاقتصادية٬ ومازالت مستلبة إما بالسليقة أو رغما عنها٬ بأحكام مجتمعها وقوانينه المجحفة٬ وأي خروج عن الإطار المرسوم لها سلفا قد يفسر تعارضا مع طبيعتها البشرية. فالقروية التي تعلو وجهها آثار قساوة الحياة٬ ظلت خارج مسار حياة المرأة بالحواضر٬ هاجسها الوحيد البحث عن لقمة عيش للأسرة وتحقيق أسباب الحياة لها٬ بعيدا عن صالونات تصفيف الشعر والتجميل وعروض الأزياء والمسارح والسينما٬ ورغم ذلك لم يشفع لها كفاحها ومشاركتها في المسار الإنتاجي وبناء الأسرة٬ للحظي بالاعتراف وتثمين دورها. وفي قرى الجهة المعروفة بقساوة الطقس ووعورة التضاريس٬ نسبة كبيرة من النساء طاقات لا تحتسب في عملية التنمية وينظر إليهن ككائن لا يصلح إلا لإنتاج الأطفال والقيام بأعمال قسرية٬ ومعاناتهن تزيد مع تفاقم الهوة بين ما تقمن به من أدوار في الإنتاج وتأمين الغذاء ورعاية الأسرة٬ وبين المكانة التي لم تطلنها كقوة فاعلة في سوق الشغل من خلال الأنشطة الفلاحية التي تمارسنها. وما ساهم في تأزيم الوضع٬ قضية تعليم الفتاة في القرى الذي مازال يتأرجح بين الرفض والقبول بسبب ثقافة المجتمع القروي المنغلقة وبعد المؤسسات التربوية٬ ثم قلة ذات اليد٬ وهي أسباب كافية للإبقاء على ارتفاع نسبة الأمية وتدني المستوى الثقافي وسط النساء. بالمقابل انتفض جزء من هؤلاء النسوة ضد سياسة الاستلاب والوصاية واخترن كسب الرهان للارتقاء بحالتهن الإنسانية٬ فانشغلن بالبحث عن بدائل يجدن فيها كل أسباب النجاح وتحسين نوعية حياتهن فاندمجن في دروس محو الأمية وفي مشاريع صغيرة وبسيطة لكنها مدرة للدخل تحقق لهن الاستقلال المادي والحد الأدنى من متطلبات العيش الكريم. وتخوض هذه الفئة من النساء تجارب مكنتهن من كسب رهان النجاح والانعتاق من مخالب التبعية والاستغلال٬ عبر تأسيس تعاونيات فلاحية كإطارات للاقتصاد الاجتماعي والتضامني٬ تشتغل في أنشطة تختلف في طبيعتها وتلتقي في أهدافها. وضمن التعاونيات الفلاحية التي تحدت كل الصعاب وحققت ما كان بالأمس في حكم المستحيل٬ تعاونية "الزهور" المتواجدة بقرية آيت عمرو وعلي بإقليم أزرو٬ التي تعد من التعاونيات النسائية الأولى بالجهة حيث اختارت الاشتغال في إعداد الكسكس وخل التفاح والعسل بجميع نكهاته ثم تربية المواشي. وحول ظروف تأسيس هذه التعاونية٬ أبرزت السيدة سلطانة صغيري٬ في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء٬ أن عملية التأسيس سنة 2001٬ اكتنفتها في البداية العديد من المعيقات في ظل مجتمع يسير على نهج الأجداد حيث حركة المرأة محسوبة ولا تتجاوز دائرة البيت والحقل. وأوضحت السيدة سلطانة التي تمكنت من خلال تجربتها أن تكتسب المهنية والخبرة حتى في مجال التواصل رغم أن تعليمها بسيط٬ أن تأسيس التعاونية واجه سيلا من التعليقات والانتقادات من لدن العائلة والجيران وساكنة الجماعة٬ ولم يتقبل أحد فكرة استقلال النساء المادي٬ وسفرهن للتكوين وطلب المعرفة وبيع المنتوج في الأسواق لكن – تضيف - مع وجود الإرادة والعزم على النجاح ذهبت كل التعليقات أدراج الرياح. وأوضحت أن التعاونية التي تشتغل بمواد طبيعية تخضع للمراقبة٬ شكلت ملاذا للعديد من النساء إذ أصبحن يشتغلن في ظروف أفضل بكثير مما كن عليه في السابق ماديا ومعنويا٬ كما وجدت فيها الشابات المجازات فرصة للعمل وتحقيق دخل قار. وأضافت أن عمل التعاونية تطور وتوسع وأضحت توصل منتوجاتها للأسواق الكبرى والمتاجر بمختلف المدن المغربية٬ يدعم ذلك مشاركة العضوات في المعارض الجهوية والوطنية في بحث عن أسواق جديدة وعرض المنتوج الذي حظي بإقبال مريح. وتقول السيدة سلطانة أن التعاونية أضحت تشغل يدا عاملة نسائية مهمة في المنطقة خاصة في إنتاج مادة الكسكس المنسم بالأعشاب الطبيعية وبالقمح٬ وهو منتوج أصبح له زبائنه٬ وتتقاضى المرأة عن كل 100 كلغ 400 درهم. وترى أن المرأة القروية أصبحت شيئا فشيئا تعي قيمة دورها٬ وتتسلح بقدر من المعرفة والمهارة٬ لمواجهة ليس فقط الحاجة بل حتى التهميش والتبخيس