يعد مبروك السالمي من الأدباء المبدعين الذين يعملون في صمت، بلا بهرجة أو جري وراء الأضواء... وقد برع في كتابة القصة القصيرة جدا.. وتفنن في تلاوينها وتداويرها.. ويمكن لنا اعتباره كاتبا متفننا في كتابته .. إنسانيا في طرحه... اجتماعيا في رؤيته القصصية.. ناقدا للمجتمع ، منددا بصوره القاتمة... ساخرا من قيمه المتفسخة... وقد أعد مخطوطة قصصية تتضمن 79 نصا قصصيا قصيرا جدا.. تتفاوت نصوصه طولا وقصرا... وهو يقتفي خطى رواد القصة القصيرة جدا في المغرب... وقد تميز في طرحه وفي مواضيعه، ورؤيته القصصية... إن ذاتية الكاتب الساردة تجعلنا نتجاوز المتناقضات الخطابية، لنقف جازمين أن الكاتب قد تحول إلى ذات واعية، تتلبس المواقف والشخوص، لتعطينا هذه الصور/ القصص القصيرة جدا... فمبروك السالمي ، يعرف ويعي أن فن القصة القصيرة جدا ، هو فن كيفية اختطاف اللقطة أو المشهد المعبر والمؤثر.. وقد زاوج بين القصة القصيرة جدا وفن الومضة، المتأسسة على الحذف ، والتكثيف والإبراق السريع.. ويأخذ شكلها عنده شكل الأسطر الشعرية، والكتابة التلغرافية.. وهذا قد زاد من جماليتها كما نجد في ومضته(نخلة) والتي يقول فيها: "اقتلعوها من جذورها وضعوها في غير تربتها رونقت الفضاء... أصيبت بالعقم..." ولو انه في بعض قصصه القصيرة جدا ارتبط بالحكي والسرد الرتيب... الخارج عن نطاق القصة القصيرة جدا.. كما في قصته القصيرة جدا (قصاص)، والتي يقول فيها: "رأى في منامه أن جسمه النحيف قد خار وأنهِكت قواه.. بدأ يذبل إلى أن انطفأت شمعته... دفنوه وأقاموا له مأتما ....في الدار الأخرى، لاحت له بين الحشود امرأة... هرول نحوها، بدأ يمعن النظر فيها... هي، تأكد بأنها هي.. هي التي قتلته... أوقفها، سل سيفه وخاطبها: - ها أنت قد وقعت في قبضتي، سأقتص منك، سأفعل بك كما فعلت بي..اختاري كيف ستموتين... استهزأت به وقالت: - أنا لم أقتلك..أنا خلصتك من نزواتك التي استعبدتك ..خلصتك من الفانية وشهواتها..خلصتك من نفسك التي لا تقدر معنى الحياة... طأطأ رأسه ..أجهش بالبكاء .. سلمها سيفه وانصرف.." إن النصوص التي يقدمها لنا مبروك السالمي ، نصوص فاضحة، ومعرية، ومدينة.. وهذا يجعلنا نستشف أن هذا يبين منظور الكتابة عنده..إذ تصبح الكتابة عنده فعلا ملازما لقراءة الواقع.. والوجود.. وأنها رسالة عليه أن يعطيها حقها من الشفافية والمصداقية، والموضوعية.. وبالتالي الكتابة عنده تعبير عن الذات، وتحقيق لوجود، وفهم للعالم والمحيط.. يعيد بناء هذا العالم في صور مختلفة تتدرج من الواقعية إلى التهكم والنقد، والتعرية، والنكتة الساخرة، واللاذعة، والموقف الساخر... 1- المضامين الدلالية: يستهل الكاتب مبروك السالمي قصصه القصيرة جدا بقصة (ذبابة)، والتي يرصد فيها مغبة التهور، والتمادي في تجاوز الحدود، والخروج عن اللباقة العامة...من خلال ذبابة تمادت في جبروتها ، وتحديها لصبر الشخصية الرئيسية.. فكان في ذلك حتفها.. "أزعجته حاول صدها تمادت... أمسك بها وشد قبضته عليها بكل ما يملك من قوة... رماها جثة هامدة... بقيت روحها عالقة بكفه..." هذا يدفعنا إلى طرح السؤال: - هل جميع النصوص القصصية تتوافق من حيث التيمة/ الموضوعة؟ - هل كلها تصب في اتجاه واحد من حيث الرؤية، والضمير، والشخوص، والقفلة؟.. المتمعن في هذه النصوص القصصية يخرج باستنتاج صارخ. وهي تنوع الموضوعات/ المواضيع، وتنوع الرؤى... إنها قصص عاشت مخاضات، وتدرجت عند الكاتب إلى أن اكتسبت فنية وجمالية.. وأصبحت عنده وسيلة لتعرية الذات والواقع... وهذا يدفعنا إلى اختراق هذه النصوص، وولوجها لمعرفة ماذا تقول... * التهور واتباع هوى النفس: التهور يؤدي إلى التهلكة.. والذي لا يحسب خطواتهن ولا يخطط لأموره، دائما ينتهي إلى حسرة وندم، وبكاء على ما فات.. وهذا ما نراه في بلادة الحلزون الذي نزع قوقعته، ورمى بها ليشارك في سباق ..وعندما أنهى سباقه وجد أنه قد أضاع وإلى الأبد قوقعته، وهي التي كانت تحميه من حر الشمس، وبلل المطر، وصر الجو.. وبطش الريح...كما أنها تستر عريه.. ولذا يجب دائما الحفاظ والاعتناء بالأشياء التي تشكل جزءا من كياننا.. وتساهم في وجودنا.. وتؤثر في حياتنا مهما كانت قيمته.. وربما الشيء البسيط والذي نظنه قليل الفائدة أحيانا نضطر إليه اضطرارنا للحياة.. وندرك بعد ضياعه أن فائدته كبيرة . ''رغب في أن يكون أسرع مخلوق في العالم... خرج من قوقعته وتركها في مكان آمن... لما أنهى السباق عاد إليها فلم يجدها... لم يتحمل البقاء في العراء... ذهب عند صديقه يتوسل إليه كي يأويه... أجابه: -القوقعة لا تتسع إلا لحلزون واحد..." كما أن التهور أحيانا، يجعلنا نتبع أهواءنا ، ولا ننظر حولنا.. ولا نأخذ حذرنا.. فنرمي بأنفسنا إلى التهلكة.... وكما نعرف... الحياة مليئة بالملذات التي تلهينا وتنسينا عن المخاطر التي تحيق بنا... فالشخصية المحورية رأت بيت العنكبوت فأعجبت به وبنسيجه... وبفنية حبكه.. فأبهرتها الخيوط الرقيقة والرفيعة.. وأمام هذا السحر الذي مورس عليه، ولج هذا النسيج ليجد نفسه فريسة لهذه العنكبوت.. فكثيرا ما تخدعنا المظاهر الكاذبة.. ويكون فيها حتفنا... " أعجبه بيت العنكبوت وأَبهرته خيوطه الحريرية... لم يتمالك نفسه. اقتحمه فوقع في الشرك... حاول الخلاص فشُلت حركته ... باغته العنكبوت..." * انقلاب المبادئ وتفسخ القيم: من الصعب أن يجمع المرء بين المبادئ والقناعة والطموح والسلطة... لأن لكل منها وسائلها ولبوسها.. ولذا الذي يحاول الجمع بين هذه الأمور كلها تتغير مبادئه، وتنقلب مبادئه وتتعدد أقنعته، إذ لكل مهمة قناعها.. فهذا الفقيه المتدين الذي كان يقوم بشعائره الدينية، ويجهر بالحق ولا يخشى في ذلك لومة لائم، عندما تقلد تسيير شؤون القرية.. تبدلت رؤيته ، وتنكر لماضيه ومواقفه ومبادئه...كما في نص (المحراب): " كان يصدح بالحق في المحراب... تقلد مهام تسيير شؤون القرية ... أصبح في حاجة لمن يذكره بحق المحراب...".. كذلك الإنسان أمام الجمال، والمتعة والماديات ومغرياتها.. يبيع نفسه ويستسلم لأهوائه، يتنكر لمبادئه وقيمه...فيسقط من الأعلى إلى الحضيض .. كما في نص( استسلام...) " عقد العزم على ألا يشم رائحتها... هب نسيم عليل حاملا عبق أريجها... لم يتحكم في شمه... رفع الراية البيضاء..." * الخديعة والنفاق الديني: كثيرا ما نغتر بالمظاهر .. ولذا يقول المثل الفرنسي (الثياب لا تخلق القسيس).. فهناك الذين يلبسون أقنعة مزيفة تخفي حقائقهم.. يتظاهرون أمام الناس بالتقوى و الورع... ولكن عندما يختلون إلى شياطينهم يزيلون قناعهم، ليتحولوا إلى ماجن سليط... وهذا ما تعبر عنه قصة (في المحراب) الذي كان ي خطيبا في الناس.. يبكي الناس من خطبه المؤثرة... الكل يرى فيها الإمام الصالح، الورع.. ولكن الصدمة كبيرة عندما وجدوه متلبسا في الرذيلة،فتهدمت الصورة التي وضعت له: " وقف في المحراب... ضرب ضربتين بعصاه، استفاق لهما الغفاة... بكي وأبكى معه الحضور... في اليوم الموالي، ضبط متلبسا"
* التهميش والإقصاء: أصعب شيء أن يحس الإنسان أنها مقصى، ومهمش... في مجتمعه ووطنه.. الشيء الذي يشعره بالغربة، والوحدة والدونية.. ويكون هذا الشعور حادا... وداميا من الفنان والمثقف، لأنهما أكثر من الإنسان العادي حساسية، ورهافة... ويقدم لنا مبروك السالمي صورة قاتمة لفنان تشكيلي يرسم لوحة ويطوف بها في كل مكان.. لكن لا يجد الاهتمام اللازم، ولا يجد التشجيع ولا الدعم.. فيرمي بلوحته بعيدا ويطلق ساقيه للريح هاربا... " أنهى اللمسات الأخيرة على لوحته...تأملها. وجد نفسه قد أنجز عملا يضاهي به كبار الفنانين...أخذ عمله وشد الرحال إلى مدينة الفن في بلده...جاب شوارعها طولا وعرضا..لم يساومه أحد... أضناه السعي...نظر يمنة ويسرة...تأكد بأن لا أحد يراقبه...تخلص من اللوحة...ثم أطلق ساقيه للريح..." وهي صورة تحمل من الدلالة الكثير، وفيها من الإدانة للمجتمع ونظرته القاصرة للفن والثقافة... * الخيبة والانكسار: الإقصاء والتهميش يولدان الشعور بالخيبة، وينميان الشعور بالانكسار.. والدونية.. لكن الصعب والشديد الوطء على النفس عندما يحس الإنسان بخيبة قاتلة عندما يعجز عن ممارسة حقه البيولوجي.. فيحس أنه فقد فحولته، وبالتالي فقد رجولته.. وهنا يتنامى الشعور بالخيبة والانكسار.. فيدب اليأس إلى نفسه وربما هذا يؤدي به إلى الانتحار ، أو الهروب من الحياة الزوجية بالمرة... لكن لن يتمالك مثل هذا الزوج دموعه ونفسه عندما يصبح مسخرة أمامها ومدعاة لشتيمتها وسبابها.. هنا يفقد الإلف والمعاشرة مذاقهما.. كما جد في نص (لا تحزني): '' قال لها وهو يكفكف دموعه: - لا تحزني... حدجته بنظرة عُجْب وقالت: - وا أسفاه... كنت أعتقد أني أعاشر رجلا"...
* السادية: كثير منا يحبون الألم، ويبثونه إلى الآخر.. كيفما كان نوعه: إنسانا، أو حيوانا، أو نباتا... يتلذذون بتعذيب الآخرين ليرضون نزوة من نزواتهم.. وهذا دليل على مرضهم النفسي.. وذهانهم السادي الشديد .. كما عبرت على ذلك قصة(احتجاج ) " تشرب بفكر الاحتجاج... اقتنى قنينة بنزين... صبها على قطته و أوقد عليها... بهاتفه النقال صور المشهد... شارك به في مسابقة التباري على أحسن شريط وثائقي..." * العبث الوجودي: صعب أن يجد الإنسان نفسه أنه يعيش عبثا وجوديا يبين فراغه الروحي، والثقافي... وحتى الوجودي... يعيش في هذه الدنيا بدون هدف.. لذا يطرح مبروك السالمي الفكرة والموضوع في قصة (لوحة)، والتي لا تخلو من رمزية، وإحالة وإيحاء... فالشخصية الرئيسية ترسم لوحة تشكيلية .. لكن السؤال المطروح هو: - ما جدوى هذه اللوحة؟ وما جدوى هذا الفن إذا كانت اللوحة كمادة لا قيمة لها؟... إنه نوع من العبث أن نحاول أن نجعل من البشاعة جمالا ، ومن القبح فنا... فما القيمة الفنية والجمالية لهاته اللوحة إذا كانت مثقوبة في وسطها؟... "أعد باليته وفرشاته وأصباغه... بدأ في الاشتغال منتشيا على نغمات أغنيته المفضلة: ''وراه كاينة ظروف'' ... أنهى عمله، بدأ يتأمله... وجد ثقبا كبيرا في سند اللوحة..." * النقد وتعرية الذات: جميل جدا أن يكون المرء في لحظة مكاشفة، وتعرية للذات.. ونقدها..إن النقد الذاتي يجعل الإنسان يدرك قيمة نفسه.. ويتمكن من مراجعة ذاته وتصحيح مساره "أحببت السياسة وتفننت في مُعَاشَرَتِها... عندما جالست الفضيلة، اكتشفت أني كنت أكبر خائن للسياسة..." * الاغتصاب والعدوان: مظاهر الاغتصاب والعدوان متعددة ، وكثيرة.. يمكن أن يكون اغتصابا للحريات العامة، أو للكرامة والإنسانية.. ويمكن أن يكون اغتصابا للشرف، وللأحلام والآمال والطموح، ويمكن أن يكون اغتصابا للحياة، والحق في العيش ، كما في قصص (جثة+ قناص+عروس+ بائعة الورد)... إن مبروك السالمي، يقدم مجموعة من الصور المتناقضة في أدق تجلياتها.. بأسلوب لا يخلو من فنية ، واحترافية.. ما دام يضع في مخياله ان هذه النصوص القصصية هي موجهة إلى قارئ/ متلق يضع له مجموعة من المواصفات في ذهنه... ولذا جاءت هذه النصوص القصصية متنوعة الرؤية.. متنوعة الضمير.. وبالتالي يتورط المتلقي/ القارئ مع الكاتب في وضع مجال لهذه النصوص.. وتحديد دوالها... إنه يريد بهذا أن يجعل المتلقي/ القارئ من خلال هذه النصوص أن ينتقل من التلقي إلى المساءلة،ومن التقليد إلى التملك.. خاصة وأن النص القصصي أو المقروء ، يقوم من مواقع مختلفة، أي في نمط البنية في الشكل، في أثره على مسار انتظام التركيب التعبيري، على توالي الجمل ، على منطق تمفصل البنيان اللغوي، على أصوات الشخصيات في القول الذي يقص، وعلى حركات الزمن فيه... 2- دلالة اللغة: لقد تميزت القصص القصيرة جدا لمبروك السالمي بلغة قامت على التكثيف، والإيجاز والاختزال: "أفتى بتحريم زراعة الأعضاء... لما شُل لسانه، هرول مسرعا إلى مستودع الأموات.".. الشيء الذي طبع النصوص بالقصر، معتمدة على جمل قصيرة، وإشارات جميلة، تشبه كتابة البرقيات... إنها نصوص لغوية، ذات فنية.. تعكس العنف الاجتماعي المنغرس في الذات الكاتبة، لأنها لا يرضيها هذا الواقع ، ولا هذا المحيط... إن قصص مبروك السالمي ذات جمل قصيرة كما أسلفت.. معبرة ... دلالية... قوية... سريعة... هكذا نجد مبروك السالمي... ينوع في استخدام الضمير حيث ينتقل من المتكلم كما في (هي التي- ليلى- هزائم- سؤال-اختراع)..إلى الغائب كما في باقي النصوص القصصية.. كما نوع في استخدام القوالب، ليحصل على نصوص قصصية ذات رؤى متعددة، وعلى خطاب متنوع، ومتعدد المقاصد...وهذا كله يبين لنا المنظور السردي لمبروك السالمي... وتتميز هذه النصوص كلها بخطابها ذي اللغة الواحدة والوحيدة.. ما عدا قصة (لوحة)، والتي تخللتها جملة( وراه كاينة ظروف)، وهي من المدلول الشعبي، الغنائي التراثي... والتي كسرت أحادية اللغة، وأعطت للنص واقعيته..وبينت إيمان الكاتب بتوظيف الموروث الشعبي دونما حرج ما دام يخدم درامية النص... غير أن هذه النصوص الأحادية اللغة والخالية من البوليفونية توحي من خلال المشاهد والتصوير ، والسرد إلى الإيحاء بالأصوات الخفية، واللغات الهامسة التي تتضمنها، وتختبئ وراءها شخوص متنوعة، تعبر عن وعيها وتصورها... وهذه اللغة المجسدة للمعنى والحقيقة، والتي تتضمنها النصوص القصصية بارتباطها بالمشاهد السردية، والحركة ، والانسيابية... تتجسد الحركات عبر التمثل ، والمتخيل.. وتتجسد حوارية اللغة فيما بينها ، فتعكس بصورة فنية، وضمنية، التنوع الاجتماعي، للغة وبالتالي تعكس في حوارها القوى الاجتماعية في حركييتها، وتعايشها... وعندما نستحضر الخطاب القصصي في هذه النصوص القصيرة جدا، جد أن لغتها الوحيدة متعددة الأساليب.. وهذا التمظهر اللغوي يمثل لغة معاصرة، خالية من العتاقة.. تمتاز ببساطتها وسهولتها، ووضوحها... وهذه اللغة التي نسجت بها هذه النصوص القصصية، هي لغة إخبارية، ناقلة مهما اتخذت من صيغ بنائية، سواء أكانت جملة اسمية أم فعلية أم شبه جملة. وسواء أكانت جملة بسيطة مباشرة أم جملة شعرية تحمل انزياحات لغوية. ذللك أن أساس جملة القص يتمثل في عملية الإخبار... هذا الإخبار الذي يتم عبر التفاعل بين كل مكونات القص، وتقنياته التي يعتمدها مبروك السالمي، ولو أنه يستخدم أنساقا لغوية تعتمد مبدأ الانزياح اللغوي، بعيدا عن الخبر الدقيق...وبالتالي ينفي الخبر ليعوضه بالمشهد الحواري، الدرامي(المسرحي)، أو بالصورة، والصورة المشهدية كما في قصة (بائعة الورد): " وردة فاتنة تمتهن بيع الورود... تظل النهار كله تترقبولا من يشتري، خلاف صديقتها التي يتوافد عليها زبائن كثر... سألت صديقتهامرة: - ماذا أفعل كي يكون لي زبناء مثلك؟ أجابتها : - عليك ب '' با أحماد''،فهوالوحيد الذي سيجعل تجارتك مزدهرة... طرقت باب ''با احماد''. أدخلها غرفة منتشرابخورها وبها أكسسوارات مختلفة... بدأ في قراءة التعاويذ وفك الطلاسم، ثم قاللها: -عليك أن تتخلي عن بيع الورد. فلديك من الجمال والغنجأفضل مما تبيعين .فكان أول الزبائن..." 3- الدلالة التركيبية: القصة القصيرة جدا عند مبروك السالمي تمتاز بخاصيات...تميزها منها: 1- السخرية: أمام الفوضى التي يعرفها العالم، وأمام تناقضاته العارمة، وامتزاج قيمه، وتلبسها، وتشظي الرؤى فيه، والتي خلقت في الإنسان / المتلقي نوعا من القلق والتوتر ، واللبس، اضطر إلى خلق قيمه الخاصة... والتي من خلالها يعيد شيئا من التوازن إلى نفسه، وكيانه، ووجوده كإنسان له قيمة... هذا الاضطرار دفع بالإنسان/ المتلقي إلى البحث عن أساليب دفاعية، تعبيرية وجد فيها متنفسه، وملاذه.. عوضته عن أشياء كثيرة، منها : المجابهة الصريحة. ومن هذه الأساليب: السخرية والكاريكاتورية، أو التصوير الكاريكاتوري...والنكتة... وكتابنا ، لا يهدف من السخرية الاستهزاء، والانتقاص، ولكنه يهدف إلى تبيان الخلل، حتى يتم الانتباه إليه، ثم تجاوزه وإصلاحه. فهل توفرت السخرية في نصوصه القصصية؟... - يقول في قصته (خيانة): '' سأل صديقه معاتبا: رأيتك البارحة في شرفة بيتك تعانق زوجتك، وتقبلها بشكل مخل بالحياء.. ألم تستح من المارة؟.. أجاب: لم أكن أمس في المنزل...".. ومن خلال هذا النص أعلاه،وغيره، نجد أن السخرية حاضرة وبقوة..وجاءت متنوعة.. وتتمثل في: 1- السخرية الاجتماعية، والتي تسخر من بعض المظاهر الاجتماعية،وبعض ملامح المجتمع...إنها سخرية تنتقد المشروع المجتمعي في واقعيته... كما في قصة(مهاجم). 2- السخرية السياسية، والتي تتخذ من الانتقاد للوضع السياسي هدفا لها، وتعرية بعض السلوكات لسياسيين، أو بعض مظاهر التدبير السياسي في المجتمع...كما في نص(عيد الحب) والتي يقول فيها: " فكر فخامة الرئيس في تقديم باقة ورد لزوجته، هب نسيم بعبق الفل والياسمين.. أغلق نوافذ غرفته، وخلد للنوم" ويرى الأستاذ نور الدين بوصباغ في ورقته النقدية الرقمية(مقامات السخرية في المجموعة القصصية(الإقامة في العلبة) للقاص المغربي حسن البقالي، بأن: "السخرية شكل من أشكال التعبير التي تجسد وعي الذات اتجاه ذاتها لحظة ضعفها، وفقدانها لملكاتها.. وبالتالي فهي موقف استرجاعي يهدف من خلاله المبدع إعادة التوازن للذات اتجاه ذاتها، واتجاه العالم..وأيضا لتحويل ما يفترض أنه عجز وألم وانكسارات إلى لحظات قوة، وانتصار وتسامي"... والسؤال المطروح هو: - هل فعلا مبروك السالمي يتغيى من السخرية استرجاع التوازن المفقود ، وإزالة الخلخلة التي أحدثتها التناقضات التي لاحظها، ودفعته إلى الكتابة؟... - ما هو الحامل الإسنادي الذي تنبني عليه سخريته؟.. إن السخرية التي يعتمده في نصوصه هي القصصية،التي تتأسس على ركائز ثلاث، وهي: - نقد الذات وانتقادها. - محاكمة المجتمع سياسيا واجتماعيا، وإدانته... - فضح القيم المبتذلة، والمسوخات الاجتماعية التي بدأ يعرفها المجتمع المغربي، والعربية، وتعرية الواقع... وبالتالي تصبح السخرية من خلال كتابته، ومن خلال منظوره:"فن إبراز الحقائق المتناقضة، والأفكار السلبية في صور تغري بمقاومتها، والرد عليها، وإيقاف مفعولها"[1]... - المفارقة: كما هو معلوم فإن القصة القصيرة تقوم على المفارقة.. فماذا نعني بهذا المصطلح؟.. المفارقة في أبسط صورها القصصية: جريان حدث بصورة عفوية على حساب حدث آخر هو المقصود في النهاية. أو هو تعرف الشخصية تعرف الجاهل بحقيقة ما يدور حوله من أمور متناقضة لوضعها الحقيقي. فالمفارقة هنا درامية، والمفارقة عموما صيغة بلاغية تعني: قول المرء نقيض ما يعنيه لتأكيد المدح بما يشبه الذم، وتأكيد الذم بما يشبه المدح...وفي القصة القصيرة جدا لعبة فنية أو تقنية قصصية لا غاية لها إلا الخروج على السرد، وهو خروج يبعث على الإثارة والتشويق"[2]... ويرى الأستاذ محمد غازي التدمرني في مقاله الالكتروني(عناصر القصة القصيرة جدا)، إلى أن المفارقة، العنصر الأهم في بنية القصة القصيرة جدا، لأنها الحامل الأهم في تحريك كمون شحنة اللغة باتجاه الفعل الذي يحرك بدوره أنساق الدلالات بهدف الانتقال من الانفعال إلى الفعل، مشكلا حركة تصادمية تسعى إلى تعميق إحساس المتلقي بالأشياء المحيطة به. لذلك كان من وظائفها التقنية ، تشكيل الصدمة الإدهاشية.. فالمفارقة هي معطى، نتيجة لتوفر بعض الأمور من فعل التضاد والثنائيات اللغوية... وهي خلاصة موازنة ومقارنة بين حالتين يقدمهما الكاتب من تضاد واختلاف، يلفتان النظر. صحيح أن بعض النصوص القصصية لمبروك السالمي، لا تفرز قصة قصيرة جدا... ولا تعطينا فنية نتلمسها في سردها.. بل لا نجد فيها إلا نثرية خطابية. وبالتالي تضيع منها كل أركان القصة القصيرة جدا ، الفنية... هذا يجعلنا نستحضر مقولة الدكتور خليل موسى:"إن أي جنس أدبي لا بد أن تتوافر فيه سمتان: التوهج والإثارة(الفعل ورد الفعل)(النص والقارئ). فالتوهج خاصية ناجمة من التجربة الصادقة، والبناء المرصوص المكثف في النص. والإثارة هي ما تتميز به في نفس المتلقي من إعجاب ودهشة ولذة. وأي نص يفتقد أحد هذين العاملين لا نقبله في حقل أي جنس أدبي"[3].... إن التوهج والإثارة والتشويق، والإدهاش، يجعل القصة القصيرة جدا تتحقق فيها المفارقة التي يمكن أن تحمل تعدد الأبعاد، واختلافها.. وذلك من تقابل أو تضاد، أو رفض أو قبول، أو طوع أو تمنع... يقول في (صبي): " تأخذه معها مرغمة.. حل ضيفا على غرباء منتشين يعبثون بجسد أمه، غير مكترثين لنظراته البريئة... ترعرع في عالم الفجور، ولما اشتد عوده،فعلها مع سبق الإصرار والترصد"... هذه القصة القصيرة جدا تضعنا أمام ثنائية: - الواقعي: تأخذه معها ، - غير الواقعي: مرغمة. - الواقعي: ترعرع، - غير الواقعي: حل ضيفا على منتشين. - المؤمل: الانتقام لشرفه. - الواقعي: فعلها مع سبق الإصرار والترصد من هنا كانت المفارقة أساس القصة القصيرة جدا..لأنها في القصة ، قامت بمهمة تحريك اللغة...وتأجيج دلالاتها..وأنساقها...إذ تفاعل فيها الانفعال والفعل... الشيء الذي جعل المتلقي يحس بالتصادمية في التعبير.. والحركة في السرد...والارتجاج في محيط النصي..وهذا ولد فيه صدمة إدهاشية، حركت مشاعره، ومخياله.. فهناك مفارقة وهي خيبة توقع الانتظار إذ القارئ كان ينتظر من يكبر الطفل لينتقم من المنتشين لشرفه.. أو يشتغل ويعيل أمه ويصونها...لكن نصطدم بفعل لم نكن نتوقعه وهو الاعتداء جنسيا على والدته...وهنا المفارقة. 2- الرمز: كما في قصته (الزعيم)، والتي يقول فيها: '' أطل عليهم من شرفة بلاطه العالية... ألقى فيهم كلمة رنانة أطربت قلوبهم، وألهبت حماسهم.. فصفقوا وأشادوا بالبطل المغوار ، ثم انتشروا في الأرض.. عاد للتربع على عرشه مطمئنا، هب نسيم بعبق الفل والياسمين، أغلق نوافذ بلاطه وأحكم الإغلاق"... ففي هذه القصة نجد الكاتب يوظف الرمز للتعبير عن الربيع العربي،وعن ما مس بعد الدول العربية من حراك شعبي وسياسي...كما حدث في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا... 3-اعتماد الحوار: يحتل الحوار حيزا مهما في بعض قصصه القصيرة جدا.. ويعتبر تقنية مسرحية ، وظفها مبروك السالمي في كتابته القصصية ليدفع بالحدث إلى الأمام.. وليصعد من درامية القصة، وليطرح من خلاله مجموعة من الأفكار والرؤى، والتأملات...كما في قصته (كأس)، التي قول فيها: "ملأ الكأس حتى فاضت... انتشت وهمست في أذنه: - أريد قلبا... أجابها: خذي قلبي... زادت نشوتها... فقالت: - أريدك محلقا بي في الفضاء الرحب... خارت جناحاه... تكسرت الزجاجة..." 4- هندسة شكل السطر الشعري: عندما نتمعن في بعض قصص السالمي، نستشف من خلالها الشاعر المتخفي في القاص... هذا ما يجعله يغير في هندسة شكل قصصه القصيرة جدا...فيعتمد على الجملة القصيرة، والتي يشكل من خلالها سطرا شعريا... وبذلك ينتفي النثري أمام الشعري، والشعري ضمن النثري... مما يبين وبالواضح أن القاص السالمي قاص وأديب مهووس بالشعر.. ورغم حرصه الشديد، يتسلل الشعر إلى كتاباته.. وأحيانا يثور عليه ليتبدى في شكل الكتابة، وهندستها الشكلية. يقول في قصته ( نخلة): "اقتلعوها من جذورها وضعوها في غير تربتها رونقت الفضاء.. أصيبت بالعقم" ففي هذه القصة القصيرة جدا، تأخذ جملها شكل السطر الشعري، وبذلك تنتفي الحدود بين النثر والشعر...الشيء الذي يجعلنا من خلال الملمح البصري نجزم بأنها قصيدة شعرية أو تكاد تقترب من الشعر... ما دامت تتلبس شكل القصيدة... وإذا ما قارناها بما ينشر في المغرب من مجاميع شعرية، وما تتضمنه الملاحق الثقافية من قصائد نثرية، فإن هذه القصة القصيرة جدا، وغيرها تدخل في نطاق الشعر والقصيد.. ولا يعفيها من أنها قصيدة تتلبس القصة... هكذا نجد عالم مبروك السالمي غنيا بدلالاته وفنياته، الشيء الذي يجعل من قصصه فضاء للمتعة.. ومعانقة الجمالية والأدبية... [1] - د. عبده الهوال،(حامد)، السخرية في أدب المازني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، (د-ط)، 1982،ص:35 [2] - محيي الدين مينو،(محمد)،فن القصة القصيرة،منشورات دبي، 2000، ص:45 [3] - د. موسى،(خليل)، جريدة البعث، العدد8460، تاريخ: 1/11/2002