قامت القيامة في مدينة النحاس... ولا أحد يعرف لم سميت هذه الرقعة من الأرض بهذا الاسم. فلا وجود للنحاس ولا لأي معدن آخر ذي قيمة في جوفها الذي لا يضمر سوى الماء المالح الذي لا يصلح لري شجر أو نبات، أو شرب بشر أو حيوان، ومياه الواد الحار المكدسة في حفر عميقة حفرها السكان أمام بيوتهم الحجرية... وليس في تاريخ هذه المدينة ،الحديث نسبيا، ما يشير إلى حدوث واقعة قد تكون لها صلة قريبة أو بعيدة بالنحاس. وربما كان سبب التسمية هذا الشحوب المائل إلى صفرة النحاس الذي لا تخطئه العين على وجه المدينة الباهت.
المهم أن القيامة قامت، فودعت المدينة هدوءها وسكينتها وولى عهد رتابتها التي تجعل نهارها كليلها، وحاضرها كماضيها، ومستقبلها مجهولا غامضا. قامت القيامة فتخلت المرضعة عن رضيعها، والطفل عن لهوه، والشاب عن تيهه في الشوارع والدروب الضيقة، والشيخ عن مسبحته وسجادته... خرج الناس من بيوتهم مثل النمل الفزع، أو مثل الضباع الضالة فداس بعضهم بعضا ودفع قويهم ضعيفهم، وارتفعت جلبتهم واختلط العويل بالصياح، والدعاء بالاستنجاد. ولم يدر أحد وجهته، فلا ملاذ من القيامة ولا عاصم منها. لكن لا بد من الهرب والركض والتدافع والصياح....
كان المسكين يجري ويتحسس جمجمته، هل تهشمت؟ هل فقد شعره؟ ويتفقد قلبه، هل ما زال فيه نبض وبقية من حياة؟ ويتطلع ببصره إلى السماء، هل انخفضت فلامست الأرض لتسحق من يدب على البسيطة؟ يلهث وتتقطع أنفاسه لكنه يجري، مع التيار وضد التيار. لم يكن أمامه مجال للتوقف والاستراحة. إذا فعل ستوقعه الأمواج الآدمية أرضا وتدوسه الأقدام. سيموت، لا يدري كيف، شهيدا أم غير شهيد؟ المهم أنه سيموت ويتدفق دمه حارا على إسفلت الشارع، ويتفتت لحمه وتعلق جزيئاته بالأقدام الخائفة الهاربة ويتصاعد ذرات نحو الجنة أو النار.
اجر، اجر... لا تسأل إلى أين، ولا تسأل لماذا، ولا تطرح على نفسك سؤال الغاية والهدف. لا وقت للسؤال. بل لا فائدة من السؤال، لأن الجواب مؤجل إلى حين غير معلوم، ولأن الفكر معطل، فالقيامة قامت والناس يجرون. وعندما تقوم القيامة ويجري الناس، افعل مثلهم وانس العقل والفكر ولا تطرح سؤالا على نفسك أو غيرك. كان يجري وينتظر القيامة ويحس بنهايته قريبة جدا. ولا يأسف على شيء مثل أسفه على صلاة الصبح التي لم يؤدها قط في وقتها. ولا يأسف على شيء مثل أسفه على تفاحة حمراء شرع في أكلها ولم ينهها.
ما حكايته مع التفاح؟ لا يشتهي فاكهة مثلما يشتهي التفاح، ولا تكاد عيناه الصغيرتان تقعان على هذه الفواكه الدائرية وعلى ألوانها الزاهية حتى تتأجج في نفسه مشاعر اللذة والجني والاشتهاء. يتذكر كل الأشياء الدائرية التي تدغدغ حواسه وتستهويه وتصيبه في مكمن ضعفه... الأجسام البضة الممتلئة, والأعضاء الفوارة النافرة، وكرة القدم بلونيها التقليدين: الأبيض والأسود أو بألوانها ورسومها الحديثة المختلفة، وأقراص الخبز البلدي، وكويرات الكسكس يدحرجها بين أصابعه ويقذفها في فمه ببراعة مثل لاعب سرك محنك، وحبات البرد البيضاء تتساقط في عشية صيفية فتغسل السماء والأرض وتبدد حر الصحراء القاتل.... يلخص التفاح عوالمه السرية ويحمله إلى أجواء سحرية فيعرج إلى السماء السابعة ويجول في الجنان مقتفيا آثار جده الأول حريصا على تجنب الخطيئة. لكنه ينسى حرصه وحذره وهو يمر جوار الشجرة المحرمة. تمتد يداه إلى أقرب تفاحة إليه ويرفعها إلى فمه. لا ينتبه إلى خطأه إلا وهو يقذف من السماء إلى الأرض. تتدحرج التفاحة عند قدميه، يلتقطها ويبتلعها متلذذا بالخطيئة ويجري هاربا من القيامة إلى.... إلى أين؟ إلى من؟ إلى القيامة نفسها. لم الهرب والجري إذن؟ لأن الجميع يجري، ولأن السؤال مؤجل والجواب غائب.
اجر، اجر... يجري ويجري الناس حوله والقيامة تزحف بخطى سريعة نحو المدينة. هذه المرة لن تخطئ القيامة هدفها ولن تخلف موعدها لأن الناس تركوا أعمالهم وهجروا ذويهم وتركوا ملذاتهم وخرجوا يجرون مثل النمل الوجل أو الضباع الضالة. لطالما سمع تنبؤات تنذر بالقيامة وتحدد لها يوما معلوما سرعان ما يمر وينقضي دون أن يحدث شيء غير عاد. تنبؤات يصدرها عرب وعجم، مؤمنون متدينون وملاحدة يسمون القيامة نهاية العالم أو نهاية الحياة على الأرض بفعل ارتطام كوكب أو مذنب أو غيره بهذه السفينة البيضوية الهائمة على وجهها في السديم، الدائرة كالحمقاء حول نفسها وحول غيرها... كثرت التنبؤات وتسارعت واضطرب الناس. أما هو فلم يكترث ولم يشغل نفسه، لأن علم الساعة عند الله، ولأنه أعد لأخراه بعض الزاد ولأنه لا يأسف على شيء مثل أسفه على صلاة الصبح التي لم يؤدها قط في وقتها. الله يلعن الشيطان. كان يزين له النوم ويعينه عليه. لكن ما يحدث الآن شيء مختلف. لا يتعلق الأمر بنبوءة، بل بحقيقة تراها عيناه. ليست القيامة شيئا آخر غير هذه الأمواج البشرية يلطم بعضها بعضا. ليست شيئا آخر غير هذا الخوف على الوجوه وهذا الذهول على العيون الجاحظة وهذا الانصراف المطلق عن متاع الدنيا والأهل والمنافع... لا بد للقيامة أن تقوم الآن، وهنا، في هذه المدينة بالذات. تفشت البطالة وانتشرت الرذيلة وساءت الأخلاق وأكل القوي الضعيف وذبح الشاب أبويه من الوريد إلى الوريد وعمت الرشوة والربا وساد العنف بين الناس... أضحت هذه المدينة في أمس الحاجة إلى نبي أو رسول يعيد المحبة إلى القلوب، ويزرع التسامح في النفوس ويقول للعقل الذي يعذب أهل المدينة: استرح أيها المارد اللعين قليلا، ودع الروح تسمو فتجلي أوهامك وتريح خلق الله مما هم فيه من تيه وتعاسة وحيرة... لكن زمن الأنبياء والرسل قد ولى ولا رجعة له، لذلك فالقيامة هي الحل. لا بد لها أن تقوم وتنهي المأساة البشرية. كفى من الحياة أيها الأحياء. كفى...
طال الجري بالناس وطال الهرب، وما تغير شيء في المدينة، وما استجد طارئ ينبئ بنهاية هذه الحياة الدنيا. أخذ الصياح يخفت، وراحت الأقدام المتعبة تتباطأ في خطوها قبل أن تتوقف ويجلس الناس على الأرصفة والطرقات ويسندون ظهورهم للجدران والأشجار وأعمدة الكهرباء، ويلتقطون أنفاسهم ماسحين العرق عن وجوههم الشاحبة ملتفتين في حذر إلى من حولهم، مشرئبين بأعناقهم إلى السماء تارة، وإلى الأفق البعيد تارة أخرى.
نهض من مكانه وشق طريقه بصعوبة بين الأجسام المتعبة اللاهثة. تبعته نظرات زائغة مستفسرة. واصل سيره ولم يأبه. ساد سكون رهيب كأن المدينة خلت فجأة من ساكنيها. مئات الأجسام ملقاة على الأرض، صامتة، مشلولة لا تصدر عنها حركة أو إشارة، تنتظر نهاية وشيكة... ورجل يشذ عن القاعدة، يتحدى الخوف والصمت ويمشي واثقا من خطوه وهدفه. ابتعد وتوغل في أزقة وشوارع جانبية. رأى أغلب الدكاكين والمحلات مفتوحة، فقد فر منها أصحابها وتركوا أبوابها مشرعة وهربوا من القيامة. لم يتردد كثيرا، دخل متجرا لبيع الملابس وراح يكدس السراويل والأقمصة والجاكيتات والجوارب... على الرصيف. أضاف إليها مواد غذائية ومجوهرات وأثاثا منزليا وعطورا نهبها من محلات أخرى. ملأ جيوبه وحمل بضاعته على كتفيه وأخذ طريقه إلى البيت. رآه آخرون ففعلوا مثله. نهضت الأجساد من أماكنها وارتفع اللغط. كسروا الواجهات الزجاجية واقتحموا البنوك وهشموا الشبابيك الأتوماتيكية وارتفعت أعمدة الدخان هنا وهناك. حاول بعض أفراد الشرطة إعادة الهدوء إلى المدينة، وإنهاء عمليات السرقة والنهب والحرق، لكنهم فشلوا. كانوا يواجهون مدينة خرجت عن نطاق السيطرة. خلعوا بدلاتهم الرسمية واختفوا بين جموع الناس. ينهبون ويحرقون ويكسرون مثل غيرهم.
ارتفعت ألسنة اللهب عاليا في الفضاء، وتلبدت سماء المدينة بغيمة دخان سوداء، فهبط الليل قبل موعده واضطرب الناس في الظلمة وقد انقطع الكهرباء وتعطلت الإنارة... في الصباح لم ير الناس في مدينتهم ما يدل على الحياة. بقايا دخان وأكوام رماد وأتربة وحجارة ودماء وجثث في كل مكان... آنذاك أيقنوا أن القيامة قد قامت في مدينتهم حقا.