الوزير قيوح يدشن منصة لوجيستيكية من الجيل الجديد بالدار البيضاء    حقائق وشهادات حول قضية توفيق بوعشرين مع البيجيدي: بين تصريحات الصحافي وتوضيحات المحامي عبد المولى المروري    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    الدورة ال 44 لمجلس وزراء الشؤون الاجتماعية العرب بالمنامة .. السيد الراشيدي يبرز الخطوط العريضة لورش الدولة الاجتماعية التي يقودها جلالة الملك    حصيلة سنة 2024.. تفكيك 123 شبكة لتنظيم الهجرة غير النظامية والاتجار في البشر    الدكتور هشام البوديحي .. من أحياء مدينة العروي إلى دكتوراه بالعاصمة الرباط في التخصص البيئي الدولي    التجمع الوطني للأحرار يثمن المقاربة الملكية المعتمدة بخصوص إصلاح مدونة الأسرة    فرض غرامات تصل إلى 20 ألف درهم للمتورطين في صيد طائر الحسون بالمغرب    الدفاع الحسني يهزم الرجاء ويعمق جراحه في البطولة الاحترافية    38 قتيلا في تحطم طائرة أذربيجانية في كازاخستان (حصيلة جديدة)    رحيل الشاعر محمد عنيبة أحد رواد القصيدة المغربية وصاحب ديوان "الحب مهزلة القرون" (فيديو)    المهرجان الجهوي للحلاقة والتجميل في دورته الثامنة بمدينة الحسيمة    انقلاب سيارة على الطريق الوطنية رقم 2 بين الحسيمة وشفشاون    المغرب الرياضي الفاسي ينفصل بالتراضي عن مدربه الإيطالي غولييرمو أرينا    رئيس الرجاء يرد على آيت منا ويدعو لرفع مستوى الخطاب الرياضي    الإنتاج الوطني من الطاقة الكهربائية بلغ 42,38 تيراواط ساعة في متم 2023    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    الندوة 12 :"المغرب-البرتغال. تراث مشترك"إحياء الذكرىالعشرون لتصنيف مازغان/الجديدة تراثا عالميا. الإنجازات والانتظارات    حركة حماس: إسرائيل تُعرقل الاتفاق    أخبار الساحة    الخيانة الزوجية تسفر عن اعتقال زوج و خليلته    روسيا: المغرب أبدى اهتمامه للانضمام إلى "بريكس"    عبير العابد تشكو تصرفات زملائها الفنانين: يصفونني بغير المستقرة نفسياً!    السعودية و المغرب .. علاقات راسخة تطورت إلى شراكة شاملة في شتى المجالات خلال 2024    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    الريسوني: مقترحات مراجعة مدونة الأسرة ستضيق على الرجل وقد تدفع المرأة مهرا للرجل كي يقبل الزواج    التنسيق النقابي بقطاع الصحة يعلن استئناف برنامجه النضالي مع بداية 2025    تأجيل أولى جلسات النظر في قضية "حلّ" الجمعية المغربية لحقوق الإنسان    بعد 40 ساعة من المداولات.. 71 سنة سجنا نافذا للمتهمين في قضية "مجموعة الخير"    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    ابتدائية الناظور تلزم بنكا بتسليم أموال زبون مسن مع فرض غرامة يومية    جهة مراكش – آسفي .. على إيقاع دينامية اقتصادية قوية و ثابتة    برنامج يحتفي بكنوز الحرف المغربية    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    مصرع لاعبة التزلج السويسرية صوفي هيديغر جرّاء انهيار ثلجي    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    لجنة: القطاع البنكي في المغرب يواصل إظهار صلابته    ماكرون يخطط للترشح لرئاسة الفيفا    بطولة إنكلترا.. ليفربول للابتعاد بالصدارة وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    نزار بركة: 35 مدينة ستستفيد من مشاريع تنموية استعدادا لتنظيم مونديال 2030    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالإضراب    مجلس النواب بباراغواي يصادق على قرار جديد يدعم بموجبه سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية    باستثناء "قسد".. السلطات السورية تعلن الاتفاق على حل "جميع الفصائل المسلحة"    تقرير بريطاني: المغرب عزز مكانته كدولة محورية في الاقتصاد العالمي وأصبح الجسر بين الشرق والغرب؟    تزايد أعداد الأقمار الاصطناعية يسائل تجنب الاصطدامات    مجلس النواب بباراغواي يجدد دعمه لسيادة المغرب على صحرائه    ضربات روسية تعطب طاقة أوكرانيا    وزير الخارجية السوري الجديد يدعو إيران لاحترام سيادة بلاده ويحذر من الفوضى    السعدي : التعاونيات ركيزة أساسية لقطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني    ارتفاع معدل البطالة في المغرب.. لغز محير!    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    ما أسباب ارتفاع معدل ضربات القلب في فترات الراحة؟    "بيت الشعر" يقدم "أنطولوجيا الزجل"    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتاب: مشاهدات في الشاوية ودكالة والرحامنة


الحلقة 11
يعتبر إدمون دوتي (1867-1926) من أبرز الكتاب الأجانب الذين اشتغلوا بالتعريف بالمغرب في إطار مهام استطلاعية واستعمارية معلومة. أصدر إدمون دوتي كتابه «مراكش» في سنة 1905، فكان واسطة بين مؤلفاته السبعة,. وهو كتاب ذو ملمح رحلي، جاء يرسم مسار مؤلفه الذي قاده من الدار البيضاء إلى أبواب مراكش، مروراً بالجديدة وآسفي ودكالة وبلاد الرحامنة وبلاد الشاوية. وقد جاء الكتاب في فصول ثلاثة واشتمل على مجموعة كبيرة من الصور التي يعود معظمها إلى المؤلف نفسه، وجاء حاملاً طابع أكاديمية الرسوم والآداب الجميلة. إنه كتاب يصور جانباً كبيراً من عادات وتقاليد المغاربة في ذلك الزمان وجانباً كبيراً من معاشهم، ويجعل حاجة كبيرة إلى ترجمته للقارئ المغربي المعاصر.
سكان عبدة لا يسكنون الخيام ويفضلون عليها «الدشور»
جولة في دكالة
لا نروم الإتيان ههنا بوصف لبلاد دكالة، فقد جاء ث. فايشر لقسم من هذه المنطقة بمجموعة من الإفادات ذات القيمة العلمية الكبيرة. لكن الفرصة قد واتتنا بعبور بلاد دكالة مراراً وتكراراً ومن أقصاها إلى أقصاها. فأفضل ما يمكن أن نفعل ههنا لتقديم تصور على شيء من الدقة لهذه البلاد هو أن نعيد ههنا إيراد الأقسام من مذكراتنا التي تهم مختلف هذه المسارات. ولقد جئنا في القسم الأول من هذا الفصل بتصوير لطريق الجديدة أو طريق أزمور، في القسم منها الذي يمر بدكالة، أي ذلك القسم الذي يمتد إلى كراندو. وسنأتي ههنا بتصوير لمجموعة من المسارات الممتالية. فمسار (في أكتوبر 11902) من كراندو إلى الغربية ومن الغربية إلى الجديدة، وهو المسار الذي يمر في قسمه الأول بأخصب الأراضي في هذا الإقليم، ثم يتواصل من بعد الغربية في خلاء مترامي الأطراف وينتهي إلى فحص (ضاحية) الجديدة. ومسار آخر (في يونيو 1901) من آسفي إلى الغربية ومن الغربية إلى الوليدية، ويقترب بنا من بعض الأطلال والخرائب ذات الأهمية الكبيرة في إعادة تكوين تاريخ هذه البلاد. وسنترخص في التفاصيل المتعلقة بالقسم من هذا المسار الذي يمر بعبدة. ومسار أخير (في يونيو 1901) من أزمور إلى بولعوان، بطول وادي أم الربيع.
الطريق من كراندو إلى الغربية ومن الغربية إلى مازكان
(15 أكتوبر 1902). خرجنا في الزوال (في الساعة الثانية وخمس وأرعين دقيقة) نريد كراندو. وجعلنا نميل في مسيرنا جهة الشمال الغربي. وإن هو إلا وقت الساعة الثالثة وخمس وعشرين دقيقة وصلنا إلى دوار السي الصديق قصير حتى وصلنا (في الساعة الثالثة وخمس وعشرين دقيقة) دوار سي الصديق، المتألف من ثماني نوايل. ثم مررنا بعد ذلك بقرب الضريح الجميل لسيدي محمد العالم، وإنه لبناء طريف قد أحاطت بقبته أربع قباب صغيرة على هيأة مربعة، فهي يضفي عليه فخامة وعظمة، وتجعل من اليسير التعرف عليه من بعيد. وبعد أن كنا نضرب في تلك البلاد القاحلة والقاسية والوعرة (الرحامنة)، ها نحن أولاء قد دخلنا بلاداً مستوية تنعم بالخصوب، قد امتلأت أرجاؤها من المزروعات وتلوح عليها سيماء الرخاء والرفاه. وقد طلع في تلك الناحية عشب أخضر كثيف غب الأمطار الأخيرة، فهو يغطي الطريق، وترعى فيه الجمال في كل جانب. ورأينا قرى عديدة من أكواخ أستطوانية مخروطية تقوم وسط أطلال وخرائب لأبنية قديمة من الحجارة. وإنه لمنظر أخاذ في بعض أنحائه؛ فالنوايل تنتصب وسط خرائب البيوت ووسط بقايا أسوار قد تهاوى عنها نصفها، وتحت أروقة لا تزال بعد قائمة؛ فكأنها الهمجية قائمة على أنقاض الحضارة. ولئن كانت هذه العبارة على شيء من الشدة والقسوة، فإنها تشتمل، كما سنبين في ما يقبل من هذا الكتاب، على نصيب غير يسير من الحقيقة. فمن قبل كانت بعض التجمعات السكنية الثابتة تقوم في هذا المكان الذي أضحت تنتصب فيه اليوم نوايل أشد تخلفاً من الأكواخ البدائية. وها نحن نطرق الآن سوق الأربعاء، والطريق إليه واسعة لا ينقطع عنها المارة، كما هو معهود في البلاد المزدهرة. وبعد وقت يسير تركنا خلفنا دواوير الغوالم، وهي بلاد قد امتلأت أرجاؤها من أشجار الصبار. وبعد مسير ساعتين نصبنا خيامنا في دوار الفلالحة، في بني دغوغ، وغير بعيد عن هذا المكان تقوم زاوية بني دغوغ، وهم أولياء لهم شهرة في كتب المناقب المغربية. وتتكون معظم دواوير بني دغوغ من النوايل، وأما الخيام فيها فقليلة. وبني دغوغ، كمثل سائر سكان هذه المنطقة، مستقرون بالضرورة، بحكم إقبالهم الكبير على الفلاحة.
حدود بلاد عبدة
(16 أكتوبر). انطلقنا في الساعة السادسة صباحاً. وإن هو إلا وقت يسير حتى بلغنا الحدود بين دكالة وعبدة. فجعلنا نسير في ذلك النطاق، فتارة نميل إلى البلاد الأولى وتارة نطرق البلاد الثانية. وأهل دكالة يؤون في هذه الناحية إلى الأكواخ، وتوجد في بعض النواحي من بلادهم بعض البيوت، لكنها قليلة جداً، فليس غير المحميين من بمقدورهم أن يبتنوا لهم البيوت من غير أن يثيروا إليهم طمع القايد أو يخاطروا بفقدان بالتعرض للحبس. ولا ترى في هذه الناحية من خيام، وإلا فهي في غاية الندرة. وأما بلاد عبدة، التي يسوسها القايد العظيم سي عيسى بن عمر أحد رجالات المغرب ومن أكثرهم استنارة، فأنت تجد الكثير من أهاليها يسكنون البيوت كما يسكنون «الدشور» ويجمعون إليها النوايل، وأما الخيام فهي تندر كذلك في هذا القسم من بلاد عبدة. وتكثر لديهم الزراعات فلا تترك لهم سبيلاً إلى غير حياة الاستقرار. فلا تجد لديهم الأراضي الخالية، ولا الفلاحة يخلو منها شبر من تلك الأراضي. وليس في هذه البلاد قد يقع المستعمرون للمغرب على الأراضي الخالية. ونحن لا نزال نتجه في مسيرنا جهة الشمال الغربي، ثم انحرفنا بعد ذلك جهة غرب الشمال الغربي. ثم مررنا (في الساعة 8) بإزاء ضريح سيدي محمد المخوَّض. وهذه بلاد تغطيها تربة التيرس، وفي كل جانب منها تنتصب أكداس التبن؛ فهم إذا درسوا الزرع أخذوا منه التبن فجعلوه في أكداس عظيمة وغطوه بطبقات من التراب، ذلك التراب الطيني يصير مع الوقت إلى صلابة ومناعة فيحفظ التبن من الرطوبة في فصل الشتاء. وقد حفر الأهالي في غير قليل من المواضع في هذه البلاد الكثير من الآبار، ومعظمها غوير (لا يقل عمقها عن 20 إلى 30 متراً)، فهم يسقون منها الماء بواسطة بهائم تسحبه بما تسير في سبيل. والمياه في سائر أنحاء هذه البلاد غاية في العذوبة.
نشاط فلاحي زاهر
دار الحافظي التي وصلنا إليها الآن (9 صباحاً) كانت من قبل مقراً لأحد القياد السابقين. والبلاد ههنا مما يسر ناظر الفلاح؛ فالنشاط الفلاحي جار فيها على قدم وساق، والمشتغلون في الحقول كثر. وقد دفعت الأمطار التي هطلت في تلك الأثناء بالأهالي إلى الشروع في أعمال الحرث، فكنت المحاريث المغربية تتنافس على تلك الأراضي من كل حدب وصوب، وصارت تشقها بسكتها الصغيرة الخفيفة، واستعملوا في جر تلك المحاريث الثيران والخيول والحمير والجمال بين جامع لبضعها ببعض أو مقتصر على نوع واحد منها. ولقد أثار استغرابي لدى مروري بذلك المكان أن أرى بعضهم قد جمع في صورة شاذة غريبة بين حمار وجمل، وشدهما إلى المحراث الواحد. ونحن نمر الآن بقرب دوار صغير من أولاد فرج، وهي فخدة صغيرة من قبيلة كبيرة تعرف بالاسم نفسه وتقوم على الطرف الآخر من دكالة، على مقربة من وادي أم الربيع. فقد سمعنا أنهم لجأوا إلى عبدة (لأننا الآن في بلاد عبدة، لكن على مقربة من بلاد دكالة)، فراراً بأنفسهم من العسف والتسلط الذي كانوا يلقونه من قايدهم، ثم إنهم وجدوا حماية في آسفي، فأقاموا لهم مجموعة من الخيام وسط السكان الذين يعيشون حياة الاستقرار. ومررنا (في الساعة العاشرة وخمس عشرة دقيقة) بإزاء سيدي مسعود، وهو يقوم وسط غابة كثيفة من نبات الصبار، وتوالت علينا دشور عديدة، وقد بدت عليها جميعاً سيماء الغنى، ثم دخلنا بلاد دكالة؛ فنحن الآن عند فخدة الغربية. وفي الساعة الحادية عشرة وصلنا إلى سيدي محمد الأبيض؛ حيث سنمكث انهار كله. وقد قطعانا من كراندو إلى هذا المكان مسافة بين 35 و40 كلم. وكانت لنا جولة الجنوب سرنا فيها خلال أراض غاية في الخصوبة، بل سمعنا من بعض الأفواه أنها أغنى أراضي الأراضي في سائر بلاد دكالة.
سايس
(18 أكتوبر). انطلقنا في الساعة السادسة وعشرين دقيقة، وها نحن بعد مسير غددنا فيه الخطى لقرابة الساعتين قد جئنا إلى أولاد سبيطة. ثم مررنا بجوار الحارة، وهي الحي المخصص للجذمى في هذه القبيلة. وقد كان لأولاد سبيطة هؤلاء دور لا يستهان به في التاريخ. فهم عرب وقد كان لهم إسهام في جميع الصراعات التي جمعت البرتغاليين بالأهالي. وعندما شارفنا على زاوية سايس، توقفنا قليلاً، في حوالي الساعة الحادية عشرة، تحت بعض الأشجار بجوار إحدى الآبار. إنها بئر شديدة الغور، فقد رأينا الحبال التي تستعمل في سحب الماء، فقدرنا أن عمقها لا يقل عن 45 متراً. ولقد تغيرت طبيعة الأرض كثيراً منذ هذا الصباح؛ فقد صارت تغلب عليها التربة الرملية وتكثر فيها الحجارة. فما عادت من تلك الأراضي التي تكثر فيها الزراعات، وصرت ترى فيها المراعي الشاسعة، وكذلك تكثر فيها الخيام فوق ما رأينا في البلاد التي قبلها. غير أن سكانها ليسوا مع ذلك من الرحل. ثم كان لنا توقف قليل، سرنا بعده لنصف ساعة، ثم توقفنا في سوق السبت الكبيرة التي تنعقد على مقربة من هذه الزاوية. وهي زاوية عظيمة، فقد ضمت جمعاً كبيراً من المباني، وبرزت من فوقها أربع قباب أو خمس، والمكان من حولها ليس فيه خيام ولا أكواخ.
استأنفنا مسيرنا (في الساعة الثالثة)، بعد أن أبدلنا حذوات بهائمنا، على تحسباً للطوارئ، فقد بات المسير يزداد عليها مشقة بتوالي الطريق؛ فهي تضرب الآن في أرض رملية تملؤها الحجارة الكبيرة.
الخلاء
وفي بعض الأنحاء من هذا المكان توجد آبار، غير أن طبيعة التربة تجعلها متعذرة على الزراعة. فهي «خلاء»، أي منطقة شاسعة وعقيم، تمتد حتى مشارف الساحل، ولا ترى في ذلك المجال غير بعض الخيام السوداء المتفرقة. وليس في هذه الناحية غير الرحل، فأنت تراهم في فصل الربيع تنقلون لساعة أو ساعتين في هذه المراعي الشاسعة، وأما في الخريف، وهو الفصل الآن، فقليلاً ما يرحلون، بل يلبثون بقرب بساتينهم الفقيرة من أشجار التين التي سوَّروها بالحجارة من غير طين، ولا تراهم يبرحون حقولهم الفقيرة؛ ويلاقون في حرثها المشاق الكثيرة. فالنخل القصير يغطي هذه المساحات الواسعة لا ينافسه فيه نبات آخر. ذلك هو «الدوم» الذي يتنافس الأطفال في الظفر بثماره، «الغاز». ثم داهمنا الليل ونحن وسط هذه الخلاءات الموحشة، فما وسعنا إلا أن ننصب خيامنا بإزاء خيمتين أو ثلاث في دوار الحاج محمد بن علو، وإن لم نجد عند أهله حفاوة في الضيافة (كانت الساعة الخامسة وعشر دقائق).
(19 أكتوبر). واصلنا مسيرنا في اليوم الذي بعد في أرض من ذلك الخلاء نفسه، وقد زادت صارت تزداد وعورد فقد سرنا فيها من من السابعة وخمس عشرة دقيقة إلى التاسعة وخمسين دقيقة، فلم نكد نقطع منها أربعة كيلومترات إلى خمسة في الساعة. ثم إذا نحن ندخل بعد لأي منخفضاً من نحو ثلاثين متراً، وتنفسنا الصعداء أن خرجنا من ذلك الخلاء الموحش. فما عادت تلاقينا تلك الحجارة ولا ذلك الدوم، فقد دخلنا من جديد «بلاد العمارة»، بلاد الرخاء والأراضي الزراعية الغناء. فالأرض التي نسير فيها الآن تربتها رمادية ضربة إلى السواد، ويخالطا رمل، لكنها لكنها تربة خصبة. وتمهدت لنا الطريق، فعدنا إلى معهود إيقاعنا في السير. فمررنا بسوق السبت (في الساعة العاشرة وأربعين دقيقة)، وتوقفنا بقرب إحدى الآبار (في الساعة الحادية عشرة). وإن هي إلا سثم ساعة حتى عدنا إلى استئناف مسيرنا، تخذونا اللهفة لرؤية مدينة الجديدة. وها إن المنظر الفلاحي قد صار يعتمل أكثر نشاطاً وحيوية. والمراعي امتلأت في سائر الأنحاء من الثيران والأغنام، ولم تخل كذلك من بعض الإبل. فهذه بلاد كثيرة الفلاحة توحي لمن يراها بالغنى والرفاه. وقد نصبت في ذلك المكان الخيام الكثيرة، وهي خيام جميلة، معظمها جديد يوحي باليسار، وأما الأكواخ فنادرة. وعلى خلافها البيوت، فهي كثيرة في سائر تلك النواحي، وكذلك تكثر فيها الأضرحة، فهي تضفي بقبابها مع تلك البيوت البيضاء على المكان إهاباً من البياض مسحة من الفرح. ولا تعدم في ذلك الموضع أشجار التين، فهي تخفف من رتابة ذلك السهل. وها إن مدينة الجديدة قد لاحت لأنظارنا (في الساعة الرابعة بعد الزوال) مكللة من ذلك البياض الناصع الذي تطالعنا به في العادة من بعيد المدن الإسلامية.
(المسار من آسفي إلى الغربيةومن الغربية إلى الوليدية والجديدة). الخروج من آسفي
(31 ماي 1901). خرجنا من آسفي من باب الرباط، وسرنا في هضبة كثيرة الزراعة، لكنها رأيناها في هذا الفصل خلواً من تلك المحاصيل، في ما خلا بعض النواحي منها قد طلع فيها شيء الدرة، والطريق يحفها نبات الرتم، فتبدو ذلك المكان وقد اكتسى مسحة من كآبة. وإن هو إلا بعض حين حتى جئنا (في الساعة الثامنة وخمس وعشرين دقيقة) إلى لالة زبوجة، فتوقفنا هنالك نجيل الأبصار في تلك الزيتونة العظيمة التي تعبر المقصد الأثير الذي على أوروبيي آسفي إذا خرجوا يطلبون النزهة. والسهل من حولها تعمره المزروعات، وفي موضع من تلك قد تر للاستراحة تُرى غابة صغيرة من أشجار «الكندول»ونبات الرتم المكللة أغضانه بحلازين بيضاء، وتُرى الهضبة من بعيد وقد تناثرت فيها الأراضي الفلاحية، أو «العزيب». فقد ضم منها ذلك المكان ما لا يقل عن عشرين عزبة لبعض الأنجليز وأربع أو خمس لبعض الألمان، وأما البيت الفرنسي الوحيد القائم في تلك الناحية فهو ليهودي من آسفي يدعى إسرائيل لالوز، وهو المحمي الفرنسي الوحيد في هذه الجهة، وقد نزلنا ضيوفاً عليه، فوجدنا منه ما لا يسعنا المقام ههنا أن نوفي الثناء بما وجدنا لديه من الحفاوة واللطف. ثم سرنا (في التاسعة صباحاً) من لالة زبوجة في اتجاه الشمال لنصل بعد نصف ساعة (في التاسعة والنصف) إلى فخدة الزغاكرة. وجئنا بعد ذلك (في الساعة العاشرة) إلى مجموعة من المساكن الداخلة في فخدة عليوات. ثم مررنا من بعدها (في العاشرة وخمس وأربعين دقيقة) بإزاء الضريح الشهير للولي سيدي مبارك مول الوليد. وقد سمعنا من بعض الأفواه أن السبب في هذا الاسم الذي يعرف به الولي راجع إلى أن الناس يقبلون عليه خاصة في طلب الأولاد الذكران. وللضريح قبة على غير الهيأة المعهودة في الأضرحة؛ فهي قبة منخفضة الوسط ومرتفعة بسن مخروطية. ثم لم يكد يمضي علينا وقت يسير حتى جئنا إلى بساتين التين في سرنو.
سرنو
ولقد أخذت بألبابنا هذه البلدة التي تحدث عنها مارمول، ولم يأت لها ذكر عند الحسن الوزان. فقد جاء عند مارمول أنها مدينة صغيرة مغلقة، توجد على مسير ثلاث ساعات من آسفي، وأنه قد كان لها بعض إسهام في الحروب التي قامت بين البرتغال والمغاربة. ففي أثناء الحملة العسكرية أرسل بها المرينيون من فاس في سنة 1514 على برتغاليي أزمو، وقد كانت للمدعو يحيى بن تعفوفا [(ه. م) كذا ! وهو يحيى بن تعفوفت، أو يحيى أوتعفوفت وهو الأرجح] مشاركته في تلك الواقعة، ثم انسحب بعدها إلى آسفي، وأوشك يقع في أيدي طالبيه على مقربة من سرنو حيث نزل لبعض الوقت، ثم أفلح في دخول آسفي، بيد أن الجنود الذين أرسل بهم فاس قاموا باجتياح «المدينة»، وأعملوا الخراب كذلك في سرنو. لكن يحيى بن تعفوفا تلقى المكافأة بسيرته الباهرة في تلك الواقعة بأن مُنح سرنو وخوّؤل مداخيلها لا يشاركها فيه أحد.
إن تلك المدن الصغيرة التي يصورها لنا كل من الحسن الوزان ومارمول (وهي سرنو والمدينة وتيط والمدن القائمة بطول وادي أم الربيع)، قد وقعت بإزاء الطرفين المتحاربين في وضع شاذ غريب؛ فمهما كان الموقف الذي تقفه لم تكن تسلم من التخريب يقع عليها من أيديهما معاً. وقد سار الاحتلال البرتغالي بعكس الاحتلال الإسباني الذي اتجه إلى السواحل الشمالية من المغرب؛ فالبرتغاليون قد اتجهوا إلى المنطق الداخلية، غير أنهم لم يفلحوا في التوطيد لأنفسهم فيها لنقص الإمكانيات لديهم وعدم استمرار الحكومة المركزية في الاهتمام بالأمر، فهذا أعاق الغزو البرتغالي، وقد كان فيه تهديد دائم لازدهار البلاد الذي كان لا يفتأ يتعرض للتقويض، فتارة باسم ملك البرتغال وأخرى باسم سلطان فاس، ما لم يقع عليها ذلك التخريب من الشرفاء السعديين. ولا يفتأ مارمول يذكر لبنا البلاد التي تعرض للتخريب على عهد البرتغالين، ثم أعيد إعمارها.
أطلال سرنو
توجد أطلال سرنو في المكان المسمى المرس، فنحن نرى هنالك سوراً من التراب عريضاً، وقد كان يمكن بطبيعة الحال أن تقام عليه التحصينات، وهو يحيط بما يقرب من اثني عشر هكتاراً. وقد كانت حفرت فيه في ذلك الزمان المئات من المطامير، وقد باتت اليوم مهجورة؛ فكأننا بتربة ذلك المكان قد لغمت تلغيماً الآن كلها يبدو أنه تعرض لهجومات. ويبدو أن الأرض هنا ملغمة. ومن هذه المطامير يستمد المكان اسمه الحالي «المرس»، فالكلمة تدل في الدارجة المغربية على الموضع الذي توجد فيه مطامير. فهل تكون هذه الأهراء أقيمت بعد أن صارت المدينة مكاناً مهجوراً؟ وأي شأن قد كان لهذه المدينة على وجه التحديد؟ يتعذر علينا اليوم أن نأتي بجواب لهذا السؤال. فنحن نرى ذلك السور قد أحاط بعدد من الحفر المتفاوتة أحجاماً بفواصل بينها من 25 متراً. ويلوح كأنما هذه الحفر قد كانت تستخرج منها المواد المستعملة في بناء تلك الأسوار، وإن كنت غير مستيقن من هذا التفسير. وتُرى في أنحاء ذلك المكان آثار لأبراج كانت تقوم خارج تلك الأسوار قد تخللتها فواصل من نحو 60 متراً. ولم نسمع من أفواه الناس في هذا المكان حديثاً أو حكاية تعود إلى سرنو القديمة. القديمة. لكن ليس ببعيد أن تكون الخرائب والأطلال التي في هذا المكان تعود إلى المدينة التي صورها مارمول.
سيدي قاضي حاجة
غادرنا سرنو وأخذنا وجهتنا إلى قصبة قايد عبدة الشهير سي عيسى بن عمر، ومررنا في الطريق إليها بكل من دار ولد العياشي ودار ولد الكوري، وكنا نسير وسط بلاد تزخر بالزراعات وتظهر عليها سيماء الغنى. وعندما صرنا على مشارف القصبة مررنا بحويطة قد قد صبغت من البياض الناصع، وقد استفسرنا عن اسم الولي دفين هذا الموضع، فقيل لنا إنه سيدي قاضي الحاجة؛ فهو يقضي حوائج المتبركين به، أقرب شبهاً إلى القديس إكسبيدي عند الكاثوليك. ومن المستبعد أن يكون سيدي قاضي الحاجة هو الاسم الحقيقي لهذا الولي، وأغلب الظن أن يكون من أولئك الأولياء أمثال سيدي معروف وسيدي الغريب وسيدي صاحب الطريق وسيدي المخفي، الذين نجدهم في مواضع أخرى.
ميات بير
ثم تركنا قصبة سي عيسى بن عمر (في الساعة الثانية وخمس وأربعين دقيقة)، وسرنا نتجه صوب «ميات بير»، التي تعرف كذلك باسم «ميات بير وبير»، وقد جاء تصويرها عند الحسن الوزان، التي أسماها «Centopozzi»، ووردت عند مارمول باسمها الذي تعرف به عند الأهالي. واتفق لنا أن ضللنا الطريق عدة مرات لدى مسيرنا إلى ميات بير، وما جئنا إليها، من خلال غابة عظيمة من الدوم والكندول والرتم، إلا في الساعة الرابعة وخمس عشرة دقيقة.
وميات بير وبير تقوم في واد منحفر في أرض من الكلس الحُثي، فإذا هبت عليها الريح تناثرت لها تلك الحجارة. والماء يوجد غير كثير الغور، والآبار فيها كثيرة، ويوحى إلينا أن معظم هذه الآبار قد وجد في هذا المكان بصورة طبيعية، وأن يد الإنسان لم تزد على أن تولتها بالإصلاح والتهييء. من هذه الآبار اشتق بطبيعة الحال اسم هذا المكان. ولا تجد في هذا الوادي من غابة، وإنما تعمره بل الحجار، فهي تتناثر فيبدو بها في صورة شاذة غريبة. فتضفي عليه هيأة غريبة متناثرة فقط تعطي طابعا غريبا للمشهد. والمكان الأكثر رطوبة في هذه الناحية هو القائم في مواجهة ضريح سيدي محمد بن عبَّاد، الذي يقوم في مرتفع يشرف على ذلك الوادي. وإنه ليعصب أن نجد اتفاقاً بين الصورة التي توجد عليها ميات بير اليوم وتلك الصورة التي جاء لها بها كل من الحسن الوزان ومارمول. فقد تحدث كلاهما عن وجود كانت تحفظ فيها الحبوب لقرون دون أن يطولها الفساد [(ه. م) كتب الوزان : «ويقول سكان هذه البلاد بأن القمح يحفظ في هذه الطامير مائة سنة دون أن يفسد أو تتغير رائحته». فهي مائة سنة وليست قروناً!]. والحال أن الحفر التي في ميات بير إنما هي آبار للمياه وليست مطامير [للزروع]. ثم إن اسم «البير» لا يمكن أن ينطبق على الموضع الذي تحفظ فيه الحبوب، ويسمى في العربية «مطمورة»، وهو كان مألوفاً لدى الوزان ومارمول نفسيهما. وإذا أخذنا في الحسبان أن الوزان لم يشر بشيء إلى سرنو، وهي موضع قد كان له مع ذلك شأن وأهمية، وأن الوصف الذي جاء به للمطامير التي في ميات بير يصح من كل الوجوه على الحفر التي وقفنا عليها في سرنو، غلب عندنا الاعتقاد أنه لم يزر أياً من هذين الموضعين، وإنما كتب عنهما بطريق السمع، فجمعهما هما الاثنان تحت اسم «ميات بير»، ولاسيما أن الموضعين متجاوران. ثم جاء مارمول بعد ذلك فقام، كما هي عادته، بالنقل عن الوزان، لكنه زاد الحديث عن سرنو، ومن المحتمل أن يكون استند في حديثه عنها إلى بعض المصادر البرتغالية. ونحن نميل إلى الأخذ بهذا الاستنتاج، ولاسيما أن الفصل الذي تحدث فيه مارمول عن سرنو وعن مواضع أخرى عديدة يغيب كلياً عند الوزان.
وقد ذكر لنا فقيه ذلك الموضع أنه توجد غير بعيد من المكان حيث نصبنا خيامنا أطلال مدينتين صغيرتين قال إنهما تسميان «ويرس» و»تيغوين»، لكن لم يسعفنا الوقت بزيارتهما، ولم نر في اسميهما ما ييسر لنا التعرف عليهما. وقد تحدث الوزان ومارمول عن وجود بعض اليهود في ميات بير [(ه. م) كتب الوزان : «والسكان فيها قليلون جدا، لأنه لا يوجد فيها أي صانع باستثناء بعض الحدادين اليهود»، الوصف، م. ذ.، ص. 153-154].، لكن لم يعد لهم وجود في أي مكان من دكالة أو في عبدة، ولا تجد بعضهم في غير قصبة سي عيسى، ومن الواضح أنهم إنما التحقوا بها منذ وقت قريب. وفوق ذلك فإن مارمول يذكر أن سكان ميات بير كانوا من البربر المستقرين، لكن يصعب علينا اليوم أن نجزم بشيء في هذه المسألة المتعلقة بالأعراق. لكن بالإمكان أن نقول إنه إذا كان لما الوزان ومارمول قد خلطا بين ميات بير وسرنو فإن التفاصيل التي جاءا بها في شأنهما يمكن أن تنسحب على أي من هذين الموضعين. ويجدر بالتذكير مع ذلك، في ما يتعلق بمسالة الأعراق تلك، أننا عندنما ضرنا على بعد عشرين دقيقة من ميات بير مررنا بقرية من الأكواخ، تسمى «الشلوح»، لكن أهلها يزعمون مع ذلك أنهم عرب، وهو أمر وجدته مبعثاً لكثير من الشكوك.
سيدي معاشو وداء الكلب
توجد ميات بير بفخذة الغنيميين، التي شاع تحريف الناس لها، كما هو معهود في اللهجات المغاربية؛ فيجعلونها «الغليميين». وبين الغنيميين وقصبة سي عيسى يقوم المعاشات، الذين مررنا ببلادهم. وهم أقرباء المعاشات الموجودين عند الشاوية وعند الشياظمة، ناحية سوق جوار سوق الحد، على مقربة من عين الحجر، غير بعيد عن مدينة الصويرة، وهنالك يوجد ضريح سيدي معاشو وزاوية المعاشات. ويشتهر أحفاد هذا الولي بأن لهم بركة العلاج من داء الكلب؛ فهم يجعلون المصابين بهذا الداء يشربون ماء يخفونه في آنية، ويجعلونهم يشربونه بواسطة قناة من القصب؛ فلا ينبغي للمرضى أن ينظروا في الماء الذي يشربون. ثم يلازمون المكان إلى جوار ذلك الضريح أربعة أيام لاستكمال العلاج، ثم إنهم يضعون بعض الملح على موضع العضة التي كانت سبباً في ابتلائهم بذلك الداء. ويجدر بي أن أشير ههنا إلى أن في ولاية وهران يوجد كذلك ولي يقال له سيدي امعاشو يشتهر بالمداواة من داء الكلب.
زيارة مغارة
(فاتح يونيو). انطلقنا في الساعة السادسة وخمس دقائق في اتجاه الغربية ببلاد دكالة. فمررننا أولاً بالبساتين المزينة بالنخيل من حول [ضريح] سيدي عبد العزيز المنور، وهو رصيف لسيدي محمد المذكور، وسرعان ما جئن إلى مجموعة البيوت التي تخص الزاح. وفي الساعة السابعة تركنا قافلتنا تواصل مسيرها صوب الغربية، وانحرفنا إلى اليسار لزيارة مغارة قد أشير علينا بزيارتها، وسمعنا عنها العجائب من أفواه مخبرينا المسلمين؛ فقد زعموا أن بداخلها آباراً ونهراً جارياً وتماثيل من نحاس!... ومع أن الاعتقاد عندنا كان أن محدثينا قد غلب الخيال عندهم على ما صوروا لنا من تلك الأشياء، فإن ذلك لم يكن ليثنيا عن الذهاب لرؤية هذه المغارة. فسرنا في هضاب أشبه ما تكون بتلك التي مررنا بها في اليوم الذي قبل؛ فليس فيها أثر لنبت والصخور انتشرت منها في كل مكان، والطريق إليها شاقة قد امتلأت من الحجارة الكبيرة. بيد أن الماء ليس بالغوير، كما يدلنا عليه غير قليل من الآبار. وترى في تلك النواحي منخفضات أشبه ما تكون بتلك التي أسميناها وادي ميات بير، وقد تخللتها بعض الآبار. وفي الساعة التاسعة أمكن لنا أن نصل بعد لأي إلى سيدي عزوز، وعلى بعد خمسين متراً من ذلك الموضع توجد، بقرب شجرة تين، باب المغارة.
دخلنا تلك المغارة مستضيئين بالشموع، فوجدناها عبارة عن ممر بعلو ستة أمتار إلى ثمانية وبعرض اثنى عشر متراً إلى عشرين حسب الأماكن، وتمتد على طول مائة وأربعين أو نحوها، مع شيء من الميلان. وقد جعلنا نسير متلمسين طريقنا إذ لم تعد الشموع تجدي فتيلاً. وكنا نرى بعض الأجسام البيضاء تتحرك على الأرض؛ إنها صغار الطيور الليلية. ثم جئنا إلى منحدر صلب الوعورة وشديد الانزلاق، فقد اكتسى أرضه طيناً غليظاً ورطباً. ثم صارت القبة الجبلية إلى اتساع، فما عدنا نميز شيئاً في تلك المغارة، وما عدنا نسمع غير أصوات كأنها الهدير. والأهالي أناس شجعان، لكنهم شديدو إيمان بالخرافات، فلم يجرؤوا على المضي أبعد في تلك الموضع. ثم جعلنا ننزلق مع ذلك المنحدر الذي ينتهي إلى الموضع حيث كنا نقف، وسرنا نجوس في وحل كثيف، إلى أن انتهينا إلى قاع تلك المغارة. فما وجدنا فيها شيئاً مثيراً، وما فيها غير بعض البرك التي يتقطر فيها الماء من السقف. فلاوجود فيها لعين خارقة، ولا وجود فيها لجرف ولا أنهار أو تماثيل... فلما رجعت من تلك المغارة قلت للأهالي إنه ليس فيها شيء مما يزعمون، وإن بوسعهم أن يدخلوها فيروا بأنفسهم كما رأينا، فما وجدت بينهم من يصدق حديثي. فقد وعموا أنني إنما توهمت أنني بلغت منتهى تلك المغارة، وأن فيها مخرجاً لم أستبنه؛ وإن هي إلا حاجتهم في أن يؤمنوا بأن تلك المغارة لا يحدها شيء. فلما يئست من إقناعهم توقفت عن ذلك الجدال العقيم الذي لانفع فيه. وليس من شك أن الناس سيتحدون في البلد أن مسيحياً قد سعى في دخول تلك المغارة فخاب مسعاه، لأن الجن منعه من الوصول إليها، أو ما أشبه من هذه الحكايات... ثم إن هذه المغارة ليست موضوعاً لأي شعيرة دينية خاصة. فليس فيها من فائدة، وما حوت غير قشرة رقيقة من الغواندو.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.