يوما ما وأنا أتلمس خطوط وجودي، أحاول أن أحدد منها خطا للانفلات من متاهات وجدت نفسي ضائعا وسطها بلا اختيار، راودتني فكرة رسم لوحة تشكيلية علني أفرغ فيها بعضا من مشاعري وأفكاري. كل شيء كان من حولي مجرد فوضى تتكرر بشكل دائري، تعود الأمور من حيث بدأت، وكأنها تصر على محاصرتي، حتى أشعر بالاختناق والانفجار. كانت الألوان أمامي فوق طاولة خشبية، أخذت الفرشاة بين أناملي، فهالني البياض فارغا، متحديا، مصرا على الانتصار. شعرت بارتعاشة خفيفة، ودون قصد لامست الفرشاة اللوحة، لاحت لي نقطة سوداء. لم تكن تشغل مساحة كبيرة وسط البياض، مثل ثقب صغير. تأملتها قليلا وسرعان ما بدأت تتحرك، تستكمل استدارتها، ومنها بدأت تنبعث إشعاعات ضوئية، اشتد لمعانها حينا حتى خيل لي أن الثقب لبس كل الألوان. فركت عيني قليلا وتأملتها من جديد. وفي لحظة ما، بطريقة ما، خيل لي أنها تحولت إلى خط، هذا طبيعي قلت لنفسي، فالخط ليس أكثر من مسار للنقطة. أليست هي البداية التي نختارها، فينبثق الإشعاع الذي يحفزنا على الإقدام. هكذا تكون أمورنا على الدوام بحاجة إلى خط لحصر فراغاتنا كأننا نخشى التيه والضياع. الأكل، والنوم واللعب والعمل والبناء، والسلوك .... كلها بحاجة إلى خط، إلى إطار، إلى حدود لحصر الفراغ. يتحدد خط السير، يتحول إلى قاعدة/بداية، دون أن نعي أنها النهاية. فالخط حافة، وإشعاع مرشد لأبصارنا وأفكارنا وسلوكنا، في غدونا ورواحنا. فتنتج الأشكال بكل أطيافها، المربع والمستطيل، والدائرة.... وتذكرت أحد الأصدقاء يقول لي يوما ما: -كفاك استقامة وابتسمت، إذ أدركت أن وراء كلامه هندسة للحياة كلها. أن تكون مستقيما، معناه أنك ملتزم، وربما متوازن، وجدي لكن بطبع ميال إلى الحدة والقوة. وتساءلت: أليست هذه صفات ذكورية؟ ولكن ألا تتحول الاستقامة إلى جفاف وملل؟ وحتى في البناء، فكلما كانت بناية ما مجرد خطوط مستقيمة وحدها، كانت شاهقة، قوية، حادة، بل مملة، وفاقدة للجمال. تحركت نقطتي مجددا . فتشكلت خطوط عشوائية، حاولت تأملها. أحسست بالحيرة والدوخة، وكأنني أعيش حالة تشتت ذهني . ذكرني ذلك بأحد الأصدقاء حين جلس بجانبي أثناء المشاركة في إحدى الندوات الفكرية. ملأ هذا الصديق أوراقه بخطوط مبعثرة وعشوائية، ولما سألته ماذا تفعل قال: -لا أستطيع مسايرة مثل هذه المواضيع المعقدة، أشعر بابتذال أفكاري، إنني مشتت ذهنيا. عاد بصري إلى اللوحة مجددا، كانت نقطتي قد اتخذت مسارات جديدة ، لاحظت حركتها هذه المرة ، كانت أكثر هدوء وانسيابية ، خلتها راقصة باليه وهي ترسم خطوطها المنحنية ، شعرت بها متحررة ومرنة بقدر لا يوصف ، وكأنها تمارس ما يشبه اللعبة البصرية على إيقاع موسيقى غير مسموعة . ومن حيث لا أدري وجدتني أراها على شكل كثبان رملية ، أتخيلها أجسادا أنثوية، ممددة فوق بساط حريري تحت أشعة شمس هائلة ولاهبة. هي واحدة من لحظات مجنونة تخترق ذهن الإنسان، تخترق مدى الفكر، مثلما يخترق الماء الرمال في الصحراء. ومرة أخرى تساءلت وهل يمكن للخط المستقيم أن يكون موازيا أو متقاطعا مع المنحني؟ لعلها ستكون لحظة لانفصال الأشياء، أو اتحادها ، وربما انبثاقها ، أو لتوغل الحزن في القلب وهيمنة الألم على كل موجود. وانفتح باب غرفتي فجأة، دخل ابني مبتسما، لكنه لما نظر إلى اللوحة، وخطوطها المبعثرة في كل اتجاه، قطب ما بين حاجبيه وقال: -هل تظن نفسك فنانا تشكيليا؟! ولما أردت أن أحدثه قليلا عن النقطة التي هي بداية كل شيء ونهايته زاغ بوجهه عني وأغلق باب الغرفة وراءه. لم أجد بدا من وضع نقطة نهاية لهذا النص، فاتسعت كأنها بئر، هويت داخلها وخيم الصمت. حسن لشهب